منع العزاء حرارة الصدر ** والحزن عقد عزيمة الصبر
لما سمعت بوقعة شملت ** بالشييب لون مفارق الشعر
أفنى الحماة الغرّ أن عرضت ** دون الوفاء حبائل الغدر
مالت حبائل أمرهم بفتىً ** مثل النجوم حففن بالبدر
عالى نعيهم فقلت له ** هلّا أتيت بصيحة الحشر!
لله درّك من زعمت لنا ** أن قد حوته حوادث الدهر
من للمنابر بعد مهلكهم ** أو من يسد مكارم الفخر!
فإذا ذكرتهم شكا ألمًا ** قلبي لفقد فوارس زهر
قتلى بدجلة ما يغمّهم ** إلا عباب زواخر البحر
فلتبك نسوتنا فوارسها ** خير الحماة ليالي الذعر
وذكر أبو زيد أن أبا بكر الباهلي حدثه، قال: حدثني شيخ من أهل خراسان، قال: كان هشام بن عبد الملك خطب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة ابنته على ابنه معاوية، فأبى أن يزوجّه، فجرى بعد ذلك بين يزيد بن عمر وبين الوليد بن القعقاع كلام؛ فبعث به هشام إلى الوليد بن القعقاع، فضربه وحبسه، فقال ابن طيسلة:
يا قل خير رجال لا عقول لهم ** من يعدلون إلى المحبوس في حلب
إلى امرىء لم تصبه الدهر معضلة ** إلا استقلّ بها مسترخي اللبب
وقيل: إن أبا العباس لما وجّه أبا جعفر إلى واسط لقتال ابن هبيرة، كتب إلى الحسن بن قحطبة: إن العسكر عسكرك، والقوّاد قوّادك؛ ولكن أحببت أن يكون أخي حاضرًا، فاسمع له وأطع، وأحسن مؤازرته. وكتب إلى أبي نصر مالك بن الهيثم بمثل ذلك؛ فكان الحسن المدبر لذلك العسكر بأمر المنصور.
وفي هذه السنة وجّه أبو مسلم محمد بن الأشعث على فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة فيضرب أعناقهم. ففعل ذلك.
وفي هذه السنة وجّه أبو العباس عمّه عيسى بن علي على فارس، وعليها محمد بن الأشعث، فهمّ به، فقيل له: إن هذا لا يسوغ لك، فقال: بلى، أمرني أبو مسلم ألا يقدم علي أحد يدّعي الولاية من غيره إلا ضربت عنقه. ثم ارتدع عن ذلك لما تخوّف من عاقبته، فاستحلف عيسى بالأيمان المحرجة ألّا يعلو منبرًا، ولا يتقلد سيفًا إلّا في جهاد؛ فلم يل عيسى بعد ذلك عملًا، ولا تقلد سيفًا إلّا في غزو. ثم وجه أبو العباس بعد ذلك إسماعيل بن علي واليًا على فارس.
وفي هذه السنة وجّه أبو العباس أخاه أبا جعفر واليًا على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، ووجه أخاه يحيى بن محمد بن علي واليًا على الموصل.
وفيها عزل عمّه داود بن علي عن الكوفة وسوادها، وولّاه المدينة ومكة واليمن واليمامة، وولّى موضعه وما كان إليه من عمل الكوفة وسوادها عيسى بن موسى.
وفيها عزل مروان - وهو بالجزيرة عن المدينة - الوليد بن عروة، وولاها أخاه يوسف بن عروة؛ فذكر الواقدي أنه قدم المدينة لأربع خلون من شهر ربيع الأول.
وفيها استقضى عيسى بن موسى على الكوفة ابن أبي ليلى.
وكان العامل على البصرة في هذه السنة سفيان بن معاوية المهلبي. وعلى قضائها الحجاج بن أرطاة، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان عبد الله بن محمد، وعلى الموصل يحيى بن محمد، وعلى كور الشأم عبد الله بن علي، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
وحجّ بالناس في هذه السنة داود بن علي بن عبد الله بن العباس.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة
ذكر ما كان في هذه السنة من الأحداث
فمن ذلك ما كان من توجيه أبي العباس عمّه سليمان بن علي واليًا على البصرة وأعمالها، وكور دجلة والبحرين وعمان ومهرجانقذق، وتوجيهه أيضًا عمه إسماعيل بن علي على كور الأهواز.
وفيها قتل داود بن علي من كان أخذ من بني أميّة بمكة والمدينة.
وفيها مات داود بن علي بالمدينة في شهر ربيع الأول؛ وكانت ولايته - فيما ذكر محمد بن عمر - ثلاثة أشهر.
واستخلف داود بن علي حين حضرته الوفاة على عمله ابنه موسى؛ ولما بلغت أبا العباس وفاته وجّه على المدينة ومكة والطائف واليمامة خاله زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي، ووجّه محمد بن يزيد بن عبد الله ابن عبد المدان على اليمن، فقدم اليمن في جمادى الأولى، فأقام زياد بالمدينة ومضى محمد إلى اليمن. ثم وجّه زياد بن عبيد الله من المدينة إبراهيم بن حسان السلمي؛ وهو أبو حماد الأبرص - إلى المثنّى بن يزيد بن عمر بن هبيرة وهو باليمامة، فقتله وقتل أصحابه.
وفيها كتب أبو العباس إلى أبي عون بإقراره على مصر واليًا عليها، وإلى عبد الله وصالح ابني علي على أجناد الشأم.
وفيها توجّه محمد بن الأشعث إلى إفريقيّة فقاتلهم قتالًا شديدًا حتى فتحها.
وفيها خرج شريك بن شيخ المهري بخراسان على أبي مسلم ببخارى ونقم عليه، وقال: ما على هذا اتّبعنا آل محمد، على أن نسفك الدماء، ونعمل بغير الحقّ. وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفًا، فوجّه إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله فقتله.
وفيها توجّه أبو داود خالد بن إبراهيم من الوخش إلى الختّل، فدخلها ولم يمتنع عليه حنش بن السبل ملكها، وأتاه ناس من دهاقين الختل، فتحصّنوا معه؛ وامتنع بعضهم في الدروب والشعاب والقلاع. فلما ألحّ أبو داود على حنش، خرج من الحصن لييلًا ومعه دهاقينه وشاكريّته حتى انتهوا إلى أرض فرغانة؛ ثم خرج منها في أرض الترك، حتى وقع إلى ملك الصين؛ وأخذ أبو داود من ظفر به منهم، فجاوز بهم إلى بلخ، ثم بعث بهم إلى أبي مسمل.
وفيها قتل عبد الرحمن بن يزييد بن المهلب؛ قتله سليمان الذي يقال له الأسود، بأمان كتبه له.
وفيها وجّه صالح بن علي سعيد بن عبد الله لغزو الصائفة؛ وراء الدروب.
وفيها عزل يحيى بن محمد عن الموصل، واستعمل مكانه إسماعيل بن علي.
وحجّ بالناس في هذه السنة زياد بن عبيد الله الحارثي؛ كذلك حدثني أحمد ابن ثابت، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيره.
وكان علي الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرة وأعمالها وكوردجلة والبحرين وعمان والعرض ومهرجانقذق سليمان ابن علي، وعلى قضائها عبّاد بن منصور، وعلى الأهواز إسماعييل بن علي وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى قنّسرين وحمص وكور دمشق والأردّن عبد الله بن علي، وعلى فلسطين صالح بن علي.
وعلى مصر عبد الملك بن يزيد أبو عون، وعلى الجزيرة عبد الله بن محمد المنصور، وعلى الموصل إسماعيل بن علي، وعلى أرمينية صالح بن صبيح، وعلى أذربيجان مجاشع بن يزيد.
وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة
ذكر ما كان فييها من الأحداث
ذكر خبر خلع بسام بن إبراهيم
ففيها خالف بسام بن إبراهيم بن بسام، وخلع، وكان من فرسان أهل خراسان. وشخص - فيما ذكر - من عسكر أبي العباس أمير المؤمنين مع جماعة ممّن شاييعه على ذلك من رأيه؛ مستسرّين بخروجهم، ففحص عن أمرهم وإلى أين صاروا، حتى وقف على مكانهم بالمدائن، فوجّه إليهم أبو العباس خازم بن خزيمة، فلما لقي بسامًا ناجزه القتال، فانهزم بسام وأصحابه وقتل أكثرهم، واستبيح عسكره، ومضى خازم وأصحابه في طلبهم، في أرض جوخي إلى أن بلغ ماه، وقتل كلّ من لحقه منهزمًا، أو ناصبه القتال؛ ثم انصرف من وجهه ذلك؛ فمرّ بذات المطامير - أو بقرية شبيهة بها - وبها من بني الحارث بن كعب من بني عبد المدان؛ وهم أخوال أبي العباس ذنبة فمرّ بهم وهم في مجلس لهم - وكانوا خمسة وثلاثين رجلًا منهم ومن غيرهم ثمانية عشر رجلًا، ومن مواليهم سبعة عشر رجلًا - فلم يسلّم عليهم، فلما جاز شتموه؛ وكان في قلبه عليهم ما كان لما بلغه عنهم من حال المغرة بن الفزع، وأنه لجأ إليهم، وكان من أصحاب بسام بن إبراهيم فكرّ راجعًا، فسألهم عما بلغه من نزول المغيرة بهم؛ فقالوا: مرّ بنا رجل مجتاز لا نعرفه؛ فأقام في قريتنا ليلة ثم خرج عنها، فقال لهم: أنتم أخوال أمير المؤمنين ويأتيكم عدوّه، فيأمن في قريتكم! فهلا اجتمعتم فأخذتموه! فأغلظوا له الجواب، فأمر بهم فضربت أعناقهم جميعًا، وهدمت دورهم، وانتهبت أموالهم، ثم انصرف إلى أبي العباس؛ وبلغ ما كان من فعل خازم اليمانية، فأعظموا ذلك؛ واجتمعت كلمتهم، فدخل زياد بن عبيد الله الحارثي على أبي العباس مع عبد الله بن الربيع الحارثي وعثمان بن نهيك، وعبد الجبار بن عبد الرحمن؛ وهو يومئذ على شرطة أبي العباس؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ إن خادمًا اجترأ عليك بأمر لم يكن أحد من أقرب ولد أبيك ليجترىء عليك به؛ من استخفافه بحقّك؛ وقتل أخوالك الذين قطعوا البلاد، وأتوك معتزّين بك، طالبين معروفك؛ حتى إذا صاروا إلى دارك وجوارك، وثب عليهم خازم فضرب أعناقهم، وهدم دورهم، وأنهب أموالهم، وأخرب ضياعهم؛ بلا حدث أحدثوه. فهمّ بقتل خازم؛ فبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطيّة، فدخلا على أبي العباس، فقالا: بلغنا يا أمير المؤمنين ما كان من تحميل هؤلاء القوم إياك على خازم؛ وإشارتهم عليك بقتله؛ وما هممت به من ذلك؛ وإنا نعيذك بالله من ذلك؛ فإنّ له طاعة وسابقة؛ وهو يحتمل له ما صنع؛ فإنّ شيعتكم من أهل خراسان قد آثروكم على الأقارب من الأولاد والآباء والإخوان؛ وقتلوا من خالفكم، وأنت أحقّ من تعمد إساءة مسيئهم؛ فإن كنت لا بد مجمعًا على قتله فلا تتولّ ذلك بنفسك، وعرّضه من المباعث لما إن قتل فيه كنت قد بلغت الذي أردت، وإن ظفر كان ظفره لك. وأشاروا عليه بتوجيهه إلى من بعمان من الخوارج إلى الجلندي وأصحابه، وإلى الخوارج الذين بجزيرة ابن كاوان مع شيبان بن عبد العزيز اليشكري، فأمر أبو العباس بتوجيهه مع سبعمائة رجل؛ وكتب إلى سليمان بن علي وهو على البصرة بحملهم في السفن إلى جزيرة ابن كاوان وعمان فشخص.
أمر الخوارج مع خزيمة بن خازم وقتل شيبان بن عبد العزيز
وفي هذه السنة شخص خازم بن خزيمة إلى عمان، فأوقع بمن فيها من الخوارج، وغلب عليها وعلى ما قرب منها من البلدان وقتل شيبان الخارجي.
ذكر الخبر عما كان منه هنالك
ذكر أن خازم بن خزيمة شخص في السبعمائة الذين ضمّهم إليه أبو العباس، وانتخبمن أهل بيته وبني عمه ومواليه ورجال من أهل مرو الروذ، قد عرفهم ووثق بهم؛ فسار إلى البصرة، فحملهم سليمان بن علي، وانضمّ إلى خازم بالبصرة عدّة من بني تميم، فساروا حتى أرسوا بجزيرة ابن كاوان، فوجّه خازم نضلة بن نعيم النهشلي في خمسمائة رجل من أصحابه إلى شيبان، فالتقوا فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فركب شيبان وأصحابه السفن، فقطعوا إلى عمّان - وهم صفرّية - فلما صاروا إلى عمان نصب لهم الجلندي وأصحابه - وهم إباضية - فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقتل شيبان ومن معه، ثم سار خازم في البحر بمن معه؛ حتى أرسوا إلى ساحل عمان، فخرجوا إلى صحراء، فلقيهم الجلندي وأصحابه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وكثر القتل يومئذ في أصحاب خازم؛ وهم يومئذ على ضفة البحر، وقتل فيمن قتل أخ لخازم لأمه يقال له إسماعيل، في تسعين رجلًا من أهل مرو الروذ، ثم تلاقوا في اليوم الثاني؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وعلى ميمنته رجل من أهل مرو الروذ، يقال له حميد الورتكاني، وعلى ميسرته رجل من أهل مرو الروذ يقال له مسلم الأرغدي، وعلى طلائعه نضلة بن نعيم النهشلي، فقتل يومئذ من الخوارج تسعمائة رجل، وأحرقوا منهم نحوًا من تسعين رجلًا. ثم التقوا بعد سبعة أيام من مقدم خازم على رأي أشار به عليه رجل من أهل الصغد، وقع بتلك البلاد، فأشار عليه أن يأمر أصحابه فيجعلوا على أطراف أسنتهم المشاقة ويرووها بالنفط، ويشعلوا فيها النيران؛ ثم يمشوا بها حتى يضرموها في بيوت أصحاب الجلندي. وكانت من خشب وخلاف؛ فلما فعل ذلك وأضرمت بيوتهم بالنيران وشغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأهاليهم شدّ عليهم خازم وأصحابه؛ فوضعوا فيهم السيوف وهم غير ممتنعين منهم، وقتل الجلندي فيمن قتل، وبلغ عدّة من قتل عشرة آلاف؛ وبعث خازم برءوسهم إلى البصرة، فمكثت بالبصرة أيامًا، ثم بعث بها إلى أبي العباس، وأقام خازم بعد ذلك أشهرًا؛ حتى أتاه كتاب أبي العباس بإقفاله فقفلوا.
ذكر غزوة كس
وفي هذه السنة غزا أبو داود خالد بن إبراهيم أهل كسّ فقتل الأخريد ملكها؛ وهو سامع مطيع قدم عليه قبل ذلك بلخ، ثم تلقاه بكندك ممايلي كسّ؛ وأخذ أبو داود من الأخريد وأصحابه حين قتلهم من الأواني الصيينيّة المنقوشة المذهبة التي لم ير مثلها، ومن السروج الصينيّة ومتاع الصين كله من الديباج وغيره، ومن طرف الصين شيئًا كثيرًا، فحمله أبو داود أجمع إلى أب مسلم وهو بسمرقند، وقتل أبو داود دههقان كسّ في عدّة من دهاقينها واستحيا طاران أخا الأخريد وملكه على كسّ، وأخذ ابن النجاح وردّه إلى أرضه، وانصرف أبو مسلم إلى مرو بعد أن قتل في أهل الصغد وأهل بخارى، وأمر ببناء حائط سمرقند، واستخلف زياد بن صالح على الصغد وأهل بخارى، ثم رجع أبو داود إلى بلخ.
ذكر قتال منصور بن جمهور
وفي هذه السنة وجه أبو العباس موسى بن كعب إلى الهند لقتال منصور ابن جمهور، وفرض لثلاثة آلاف رجل من العرب والموالي بالبصرة ولألف من بني تميم خاصّة، فشخص واستخلف مكانه على شرطة أبي العباس المسيّب ابن زهير حتى ورد السِّند، ولقي منصور بن جمهور في اثني عشر ألفًا، فهزمه ومن معه، ومضى فمات عطشًا في الرمال.
وقد قيل: أصابه بطن، وبلغ خليفة منصور وثقله، وخرج بيهم في عدّة من ثقاته، فدخل بهم بلاد الخزر.
وفيها توفّي محمد بن يزيد بن عبد الله وهو على اليمن، فكتب أبو العباس إلى علي بن الربيع بن عبيد الله الحارثي، وهو عامل لزياد بن عبيد الله على مكة بولايته على اليمن فسار إليها.
وفي هذه السنة تحوّل أبو العباس من الحيرة إلى الأنبار - وذلك فيما قال الواقدي وغيره - في ذي الحجة.
وفيها عزل صالح بن صبيح عن أرمينية، وجعل مكانه يزيد بن أسيد.
وفيها عزل مجاشع بن يزيد عن أذربيجان، واستعمل عليها محمد بن صول.
وفيها ضرب المنار من الكوفة إلى مكة والأميال. وحجّ بالناس في هذه السنة عيسى بن موسى، وهو على الكوفة وأرضها.
وكان على قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى المدينة ومكة والطائف واليمامة زياد بن عبيد الله، وعلى اليمن علي بن الربيع الحارثي، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والعرض ومهرجانقذق سليمان بن علي، وعلى قضائها عباد بن منصور، وعلى السند موسى بن كعب، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى فلسطين صالح ابن علي، وعلى مصر أبو عوان، وعلى موصل إسماعيل بن علي، وعلى أرمينية يزيد بن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بن صول.
وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك، وعلى الجزيرة عبد الله بن محمد أبو جعفر وعلى قنّسرين وحمص وكور دمشق والأردنّ عبد الله بن علي.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة
ذكر ما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر خروج زياد بن صالح
فمما كان فيها من ذلك خروج زياد بن صالح وراء نهر بلخ، فشخص أبو مسلم من مرو مستعدًا للقائه، وبعث أبو داود خالد بن إبراهيم نصر بن راشد إلى الترمذ، وأمره أن ينزل مدينتها، مخافة أن يبعث زياد بن صالح إلى الحصن والسفن فيأخذها؛ ففعل ذلك نصر، وأقام بها أيامًا، فخرج عليه ناس من الراونديّة من أهل الطالقان مع رجل يكنى أبا إسحاق، فقتلوا نصرًا، فلما بلغ ذلك أبا داود بعث عيسى بن ماهان في تتبّع قتلة نصر، فتتبعهم فقتلهم، فمضى أبو مسلم مسرعًا؛ حتى انتهى إلى آمل، ومعه سباع بن أبي النعمان الأزدي، وهو الذي كان قدم بعهد زياد بن صالح من قبل أبي العباس، وأمره إن رأى فرصة أن يثب على أبي مسلم فيقتله. فأخبر أبو مسلم بذلك، فدفع سباع بن النعمان إلى الحسن بن الجنيد عامله على آمل، وأمره بحبسه عنده، وعبر أبو مسلم إلى بخارى، فلما نزلها أتاه أبو شاكر وأبو سعد الشروي في قوّاد قد خلعوا زيادًا، فسألهم أبو مسلم عن أمر زياد ومن أفسده، قالوا: سباع بن النعمان، فكتب إلى عامله على آمل أن يضرب سباعًا مائة سوط، ثم يضرب عنقه، ففعل.
ولما أسلم زيادًا قوّاده ولحقوا بأبي مسلم لجأ إلى دهقان باركث، فوثب عليه الدهقان، فضرب عنقه، وجاء برأسه إلى أبي مسلم، فأبطأ أبو داود على أبي مسلم لحال الراونديّة الذين كانوا خرجوا، فكتب إليه أبو مسلم: أما بعد فليفرخ روعك، ويأمن سربك، فقد قتل الله زيادًا، فاقدم، فقدم أبو داود، كسّ، وبعث عيسى بن ماهان إلى بسام، وبعث ابن النجاح إلى الإصبهبذ إلى شاوغر، فحاصر الحصن فأما أهل شاوغر فسألوا الصلح، فأجيبوا إلى ذلك. وأما بسام فلم يصل عيسى بن ماهان إلى شيء منه؛ حتى ظهر أبو مسلم بستة عشر كتابًا وجدها من عيسى بن ماهان إلى كامل بن مظفّر صاحب أبي مسلم، يعيب فيها أبا داود، وينسبه فيها إلى العصبيّة وإيثاره العرب وقومه على غيرهم من أهل هذه الدعوة، وأن في عسكره ستة وثلاثين سرادقًا للمستأمنة، فبعث بها أبو مسلم إلى أبي داود، وكتب إليه: إنّ هذه كتب العلج الذي صيّرته عدل نفسك، فشأنك به. فكتب أبو داود إلى عيسى ابن ماهان يأمره بالانصراف إليه عن بسّام، فلما قدم عليه حبسه ودفعه إلى عمر النغم؛ وكان في يده محبوسًا، ثم دعا به بعد يومين أو ثلاثة فذكّره صنيعته به وإيثاره إياه على ولده، فأقرّ بذلك، فقال أبو داود: فكان جزاء ما صنعت بك أن سعيت بي وأردت قتلي، فأنكر ذلك، فأخرج كتبه فعرفها، فضربه أبو داود يومئذ حدّين: أحدهما للحسن بن حمدان. ثم قال أبو داود: أمّا إني قد تركت ذنبك لك؛ ولكن الجند أعلم. فأخرج في القيود، فلما أخرج من السرّادق وثب عليه حرب بن زياد وحفص بن دينار مولى يحيى بن حضين، فضرباه بعمود وطبرزين، فوقع إلى الأرض، وعدا عليه أهل الطالقان وغيرهم، فأدخلوه في جوالق، وضربوه بالأعمدة، حتى مات ورجع أبو مسلم إلى مرو.
وحجّ بالناس في هذه السنة سليمان بن علي، وهو على البصرة وأعمالها. وعلى فضائها عباد بن منصور.
وكان على مكة العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس، وعلى المدينة رياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى الجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى مصر أبو عون، وعلى حمص وقنّسرين وبعلبك والغوطة وحوران والجولان والأردنّ عبد الله ابن علي، وعلى البلقاء وفلسطين صالح بن علي، وعلى الموصل إسماعيل بن علي، وعلى أرمينية يزيد بن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بن صول، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر قدوم أبي مسلم على أبي العباس
ففي هذه السنة قدم أبو مسلم العراق من خراسان على أبي العباس أمير المؤمنين.
ذكر الخبر عن قدومه عليه وما كان من أمره في ذلك
ذكر علي بن محمد أن الهيثم بن عدّي أخبره والوليد بن هشام، عن أبيه، قالا: لم يزل أبو مسلم مقيمًا بخراسان، حتى كتب إلى أبي العباس يستأذنه في القدوم عليه، فأجابه إلى ذلك، فقدم على أبي العباس في جماعة من أهل خراسان عظيمة ومن تبعه من غيرهم من الأنبار؛ فأمر أبو العباس الناس يتلقونه، فتلقاه الناس، وأقبل إلى أبي العباس، فدخل عليه فأعظمه وأكرمه؛ ثم استأذن أبا العباس في الحجّ فقال: لولا أن أبا جعفر يحجّ لاستعملتك على الموسم. وأنزله قريبًا منه، فكان يأتيه في كلّ يوم يسلم عليه، وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعدًا؛ لأن أبا العباس كان بعث أبا جعفر إلى أبي مسلم وهو بنيسابور. بعد ما صفت له الأمور بعهده على خراسان وبالبيعة لأبي العباس ولأبي جعفر من بعده؛ فبايع له أبو مسلم وأهل خراسان. وأقام أبو جعفر أيامًا حتى فرغ من البيعة، ثم انصرف. وكان أبو مسلم قد استخفّ بأبي جعفر في مقدمه ذلك، فلما قدم على أبي العباس أخبره بما كان من استخفافه به.
قال علي: قال الوليد عن أبيه: لما قدم أبو مسلم على أبي العباس، قال أبو جعفر لأبي العباس: يا أمير المؤمنين، أطعني واقتل أبا مسلم؛ فوالله إنّ في رأسه لغدرة، فقال: يا أخي، قد عرفت بلاءه وما كان منه، فقال أبو جعفر: يا أمير المؤمنين، إنما كان بدولتنا؛ والله لو بعثت سنّورًا لقام مقامه. وبلغ ما بلغ في هذه الدولة. فقال له أبو العباس: فكيف نقتله؟ قال: إذا دخل عليك وحادثته وأقبل عليكي دخلت فتغفلته فضربته من خلفه ضربة أتيت بها على نفسه، فقال أبو العباس: فكيف بأصحابه الذين يؤثرونه على دينهم ودنياهم؟ قال: يئول ذلك كله إلى ما تريد، ولو علموا أنه قد قتل تفرّقوا وذلّوا، قال: عزمت عليك إلّا كففت عن هذا، قال: أخاف والله إن لم تتغدّه اليوم أن يتعشاك غدًا، قال: فدونكه، أنت أعلم.
قال: فخرج أبو جعفر من عنده عازمًا على ذلك، فندم أبو العباس وأرسل إلى أبي جعفر: لا تفعل ذلك الأمر.
وقيل: إن أبا العباس لما أذن لأبي جعفر في قتل أبي مسلم، دخل أبو مسلم على أبي العباس، فبعث أبو العباس خصيًّا له، فقال: اذهب فانظر ما يصنع أبو جعفر؛ فأتاه فوجده محتبيًا بسيفه، فقال للخصي: أجالسٌ أمير المؤمنين؟ فقال له: قد تهيّأ للجلوس، ثم رجع الخصي إلى أبي العباس فأخبره بما رأى منه، فردّه إلى أبي جعفر وقال له: قل له الأمر الذي عزمتَ عليه لا تنفذه فكفّ أبو جعفر.
حج أبي جعفر المنصور وأبي مسلم
وفي هذه السنة حجّ أبو جعفر المنصور وحجّ معه أبو مسلم.
ذكر الخبر عن مسيرهما وعن وصفة مقدمهما على أبي العباس
أما أبو مسلم فإنه - فيما ذكر عنه - لما أراد القدوم على أبي العباس، كتب يستأذنه في القدوم للحجّ، فأذن له، وكتب إليه أن اقدم في خمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم: إنّي قد وترتُ الناس ولست آمن على نفسي. فكتب إليه أن أقبل في ألف؛ فإنما أنت في سلطان أهلك ودولتك، وطريق مكة لا تحتمل العسكر؛ فشخص في ثمانية آلاف فرّقهم فيما بين نيسابور والري، وقدم بالأموال والخزائن فخلّفها بالري، وجمع أيضًا أموال الجبل، وشخص منها في ألف وأقبل؛ فلما أرد الدخول تلقاه القوّاد وسائر الناس، ثم استأذن أبا العباس في الحجّ فأذن له، وقال: لولا أنّ أبا جعفر حاجّ لوليتك الموسم.
وأما أبو جعفر فإنه كان أميرًا على الجزيرة، وكان الواقدي يقول: كان إليه مع الجزيرة أرمينية وأذربيجان، فاستخلف على عمله مقاتل بن حكيم العكّي، وقدم على أبي العباس فاستأذنه في الحج؛ فذكر علي بن محمد عن الوليد بن هشام عن أبيه أن أبا جعفر سار إلى مكة حاجًا، وحجّ معه أبو مسلم، سنة ست وثلاثين ومائة، فلما انقضى الموسم أقبل أبو جعفر وأبو مسلم، فلما كان بين البستان وذات عرق أتى أبا جعفر كتاب بموت أبي العباس؛ وكان أبو جعفر قد تقدّم أبا مسلم بمرحلة، فكتب إلى أبي مسلم: إنه قد حدث أمر فالعجل العجل، فأتاه الرسول فأخبره، فأقبل حتى لحق أبا جعفر، وأقبلا إلى الكوفة.
وفي هذه السنة عقد أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي لأخيه أبي جعفر الخلافة من بعده، وجعله ولي عهد المسلمين، ومن بعد أبي جعفر عيسى ابن موسى بن محمد بن علي. وكتب العهد بذلك، وصيّره في ثوب، وختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته، ودفعه إلى عيسى بن موسى.
ذكر الخبر عن موت أبي العباس السفاح
وفيها توفي أبو العباس أمير المؤمنين بالنبار يوم الأحد، لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة. وكانت وفاته فيميا قيل بالجدَري.
وقال هشام بن محمد: توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ذي الحجة.
واختلف في مبلغ سنه يوم وفاته، فقال بعضهم: كان له يوم توفّي ثلاث وثلاثون سنة. وقال هشام بن محمد: كان يوم توفي ابن ست وثلاثين سنة، وقال بعضهم: كان له ثمان وعشرون سنة.
وكانت ولايته من لدن قتل مروان بن محمد إلى أن توفيَ أربع سنين، ومن لدن بويع له بالخلافة إلى أن مات أربع سنين وثمانية أشهر. وقال بعضهم: وتسعة أشهر. وقال الواقدي: أربع سنين وثمانية أشهر منها ثمانية أشهر وأربعة أيام يقاتل مروان.
وملك بعد مروان أربع سنين. وكان - فيما ذكر - ذا شعرة جعدة، وكان طويلًا أبيض أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية.
وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الديان الحارثي وكان وزيره أبو الجهم بن عطيّة.
وصلى عليه عمه عيسى بن علي، ودفنه بالأنبار العتيقة في قصره.
وكان - فيما ذكر - خلّف تسع جباب، وأربعة أقمصة، وخمسة سراويلات، وأربعة طيالسة، وثلاثة مطارف خزّ.
خلافة أبي جعفر المنصور
وهو عبد الله بن محمد وفي هذه السنة بويع لأبي جعفر المنصور بالخلافة؛ وذلك في اليوم الذي توفي فيه أخوه أبو العباس، وأبو جعفر يومئذ بمكة؛ وكان الذي أخذ البيعة بالعراق لأبي جعفر بعد موت أبي العباس عيسى بن موسى، وكتب إليه عيسى يعلمه بموت أخيه أبي العباس وبالبيعة له.
وذكر علي بن محمد، عن الهيثم، عن عبد الله بن عيّاش، قال: لما حضرت أبا العباس الوفاة، أمر الناس بالبيعة لعبد الله بن محمد أبي جعفر، فبايع الناس له بالأنبار في اليوم الذي مات فيه أبو العباس. وقام بأمر الناس عيسى بن موسى، وأرسل عيسى بن موسى إلى أبي جعفر وهو بمكة محمد بن الحصين العبدي بموت أبي العباس، وبالبيعة له، فلقيه بمكان من الطريق يقال له زكيّة، فلما جاءه الكتاب دعا الناس فبايعوه، وبايعه أبو مسلم، فقال أبو جعفر: أين موضعنا هذا؟ قالوا: زكيّة، فقال: أمر يزكي لنا إن شاء الله تعالى.
وقال بعضهم: ورد على أبي جعفر البيعة له بعد ما صدر من الحجّ، في منزل من منازل طريق مكة؛ يقال له صفيّة، فتفاءل باسمه، وقال: صفت لنا إن شاء الله تعالى.
رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد: فقال علي: حدثني الوليد، عن أبيه، قال: لما أتى الخبر أبا جعفر كتب إلى أبي مسلم وهو نازل بالماء، قد تقدّمه أبو جعفر، فأقبل أبو مسلم حتى قدم عليه.
وقيل إن أبا مسلم كان هو الذي تقدّم أبا جعفر، فعرف الخبر قبله، فكتب إلى أبي جعفر: بسم الله الرحمن الرحيم. عافاك الله وأمتع بك؛ إنه أتاني أمر أفظعني وبلغ مني مبلغًا لم يبلغه شيء قطّ، لقيني محمد بن الحصين بكتاب من عيسى بن موسى إليك بوفاة أبي العباس أمير المؤمنين رحمه الله، فنسأل الله أن يعظم أجرك، ويحسن الخلافة عليك؛ ويبارك لك فيما أنت فيه؛ إنه ليس من أهلك أحد أشد تعظيمًا لحقك وأصفى نصيحة لك، وحرصًا على ما يسرّك مني.
وأنفذ الكتاب إليه، ثم مكث أبو مسلم يومه ومن الغد، ثم بعث إلى أبي جعفر بالبيعة؛ وإنما أراد ترهيب أبي جعفر بتأخيرها.
رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد: فلما جلس أبو مسلم، ألقى إليه الكتاب، فقرأه وبكى واسترجع. قال: ونظر أبو مسلم إلى أبي جعفر، وقد جزع جزعًا شديدًا فقال: ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة؟ فقال: أتخوّف شرّ عبد الله بن علي وشيعة علي، فقال: لا تخفه؛ فأنا أكفيك أمره إن شاء الله؛ إنما عامة جنده ومن معه أهل خراسان؛ وهم لا يعصونيي. فسرّي عن أبي جعفر ما كان فيه. وبايع له أبو مسلم وبايع الناس، وأقبلا حتى قدما الكوفة، وردّ أبو جعفر زياد بن عبيد الله إلى مكة، وكان قبل ذلك واليًا عليها وعلى المدينة لأبي العباس.
وقيل: إن أبا العباس كان قد عزل قبل موته زياد بن عبيد الله الحارثي عن مكة، وولاها العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس.
وفي هذه السنة قدم عبد الله بن علي على أبي العباس الأنبار، فعقد له أبو العباس على الصائفة في أهل خراسان وأهل الشأم والجزيرة والموصل، فسار فبلغ دلوك، ولم يدرب حتى أتته وفاة أبي العباس.
وفي هذه السنة بعث عيسى بن موسى وأبو الجهم يزيد بن زياد أبا غسان إلى عبد الله بن علي ببيعة المنصور، فانصرف عبد الله بن علي بمن معه من الجيوش، قد بايع لنفسه حتى قدم حرّان.
وأقام الحجّ للناس في هذه السنة أبو جعفر المنصور؛ وقد ذكرنا ما كان إليه من العمل في هذه السنة؛ ومن استخلف عليه حين شخص حاجًا.
وكان على الكوفة عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرى وعملها سليمان بن علي، وعلى قضائها عبّاد بن المنصور، وعلى المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد، وعلى مصر صالح ابن علي.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة
ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث
ذكر خبر خروج عبد الله بن علي وهزيمته
فمما كان فيها من ذلك قدوم المنصور أبي جعفر من مكة ونزوله الحيرة، فوجد عيسى بن موسى قد شخص إلى الأنبار، واستخلف على الكوفة طلحة ابن إسحاق بن محمد بن الأشعث، فدخل أبو جعفر الكوفة فصلّى بأهلها الجمعة يوم الجمعة، وخطبهم وأعلمهم أنه راحل عنهم؛ ووافاه أبو مسلم بالحيرة، ثم شخص أبو جعفر إلى الأنبار وأقام بها، وجمع إليه أطرافه.
وذكر علي بن محمد عن الوليد، عن أبيه، أنّ عيسى بن موسى كان قد أحرز بيوت الأموال والخزائن والدّواوين؛ حتى قدم عليه أبو جعفر الأنبار، فبايع الناس له بالخلافة، ثم لعيسى بن موسى من بعده؛ فسلم عيسى بن موسى إلى أبي جعفر الأمر؛ وقد كان عيسى بن موسى بعث أبا غسّان - واسمه يزيد بن زياد، وهو حاجب أبي العباس - إلى عبد الله بن علي ببيعة أبي جعفر؛ وذلك بأمر أبي العباس قبل أن يموت حين أمر الناس بالبيعة لأبي جعفر من بعده، فقدم أبو غسان على عبد الله بن علي بأفواه الدروب، متوجّهًا يريد الروم؛ فلما قدم عليه أبو غسان بوفاة أبي العباس وهو نازل بموضع يقال له دلوك، أمر مناديًا فنادى: الصلاة جامعة فاجتمع إليه القوّاد والجند، فقرأ عليهم الكتاب بوفاة أبي العباس، ودعا الناس إلى نفسه؛ وأخبرهم أن أبا العباس حين أراد أن يوجه الجنود إلى مروان بن محمد دعا بني أبيه؛ فأرادهم على المسير إلى مروان بن محمد، وقال: من انتدب منكم فسار إليه فهو ولي عهدي، فلم ينتدب له غيري؛ فعلى هذا خرجت من عنده، وقتلت من قتلت. فقام أبو غانم الطائي وخفاف المروروذي في عدّة من قوّاد أهل خراسان، فشهدوا له بذلك؛ فبايعه أبو غانم وخفاف وأبو الأصبغ وجميع من كان معه من أولئك القوّاد، فيهم حميد بن قحطبة وخفاف الجرجاني وحيّاش بن حبيب ومخارق بن غفار وترارخدا وغيرهم من أهل خراسان والشام والجزيرة، وقد نزل تلّ محمد، فلما فرغ من البيعة ارتحل فنزل حرّان، وبها مقاتل العكي - وكان أبو جعفر استخلفه لما قدم على أبي العباس - فأراد مقاتلًا على البعية فلم يجبه، وتحصّن منه، فأقام عليه وحصره حتى استنزله من حصنه فقتله.
وسرّح أبو جعفر لقتال عبد الله بن علي أبا مسلم؛ فلما بلغ عبد الله إقبال أبي مسلم أقام بحرّان، وقال أبو جعفر لأبي مسلم: إنما هو أنا أو أنت؛ فسار أبو مسلم نحو عبد الله بحرّان، وقد جمع إليه الجنود والسلاح، وخندق وجمع إليه الطعام والعلوفة وما يصلحه، ومضى أبو مسلم سائرًا من الأنبار؛ ولم يتخلّف عنه من القوّاد أحد، وبعث على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي؛ وكان معه الحسن وحميد ابنا قحطبة، وكان حميد قد فارق عبد الله بن علي، وكان عبد الله أراد قتله، وخرج معه أبو إسحاق وأخوه وأبو حميد وأخوه وجماعة من أهل خراسان؛ وكان أبو مسلم استخلف على خراسان حيث شخص خالد بن إبراهيم أبا داود.
قال الهيثم: كان حصار عبد الله بن علي مقاتلًا العكي أربعين ليلة، فلما بلغه مسير أبي مسلم إليه، وأنه لم يظفر بمقاتل، وخشي أن يهجم عليه أبو مسلم أعطى العكي أمانًا، فخرج إليه فيمن كان معه، وأقام معه أيامًا يسيرة، ثم وجّهه إلى عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي إلى الرقة ومعه ابناه، وكتب إليه كتابًا دفعه إلى العكي، فلما قدموا على عثمان قتل العكي وحبس ابنيه، فلما بلغه هزيمة عبد الله بن علي وأهل الشأم بنصيبين أخرجهما فضرب أعناقهما.
وكان عبد الله بن علي خشي ألا يناصحه أهل خراسان، فقتل منهم نحوًا من سبعة عشر ألفًا؛ أمر صاحب شرطه فقتلهم؛ وكتب لحميد بن قحطبة كتابًا ووجّهه إلى حلب، وعليها زفر بن عاصم وفي الكتاب: إذا قدم عليك حميد بن قحطبة فاضرب عنقه، فسار حميد حتى إذا كان ببعض الطريق فكّر في كتابه، وقال: إنّ ذهابي بكتاب ولا أعلم ما فيه لغرر، ففكّ الطومار فقرأه، فلما رأى ما فيه دعا أناسًا من خاصته فأخبرهم الخبر، وأفشى إليهم أمره، وشاورهم، وقال: من أراد منكم أن ينجو ويهرب فليسر معي؛ فإني أريد أن آخذ طريق العراق، وأخبرهم ما كتب به عبد الله بن علي في أمره، وقال لهم: من لم يرد منكم أن يحمل نفسه على الير فلا يفشينّ سرّي، وليذهب حيث أحبّ.
قال: فاتبعه على ذلك ناس من أصحابه، فأمر حميد بدوابّه فأنعلت، وأنعل أصحابه دوابّهم، وتأهبوا للمسير معه، ثم فوّز بهم وبهرج الطريق فأخذ على ناحية من الرصافة؛ رصافة هشام بالشأم، وبالرّصافة يومئذ مولى لعبد الله بن علي يقال له سعيد البربري، فبلغه أنّ حميد بن قحطبة قد خالف عبد الله بن علي، وأخذ في المافزة، فسار في طلبه فيمن معه من فرسانه؛ فلحقه ببعض الطريق، فلما بصر به حميد ثنى فرسه نحوه حتى لقيه، فقال له: ويحك! أما تعرفني! والله ما لك في قتالي من خير فارجع؛ فلا تقتل أصحابي وأصحابك، فهو خير لك. فلما سمع كلامه عرف ما قال له، فرجع إلى موضعه بالرصافة، ومضى حميد ومن كان معه، فقال له صاحب حرسه موسى بن ميمون: إن لي بالرصافة جارية، فإن رأيت أن تأذن لي فآتيها فأوصيها ببعض ما أريد، ثم ألحقك! فأذن له فأتاها، فأقام عندها، ثم خرج من الرصافة يريد حميدًا، فلقيه سعيد البربري مولى عبد الله بن علي، فأخذه فقتله؛ وأقبل عبد الله بن علي حتى نزل نصيبين، وخندق عليه.
وأقبل أبو مسلم. وكتب أبو جعفر إلى الحسن بن قحطبة - وكان خليفته بأرمينية - أن يوافي أبا مسلم، فقدم الحسن بن قحطبة على أبي مسلم وهو بالموصل، وأقبل أبو مسلم، فنزل ناحية لم يعرض له، وأخذ طريق الشأم، وكتب إلى عبد الله: إني لم أومر بقتالك، ولم أوجّه له، ولكن أمير المؤمنين ولّاني الشأم؛ وإنما أريدها؛ فقال من كان مع عبد الله من أهل الشأم لعبد الله: كيف نقيم معك وهذا يأتي بلادنا، وفيها حرمنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا، ويسبي ذراريّنا! ولكنا نخرج إلى بلادنا فنمنعه حرمنا وذراريّنا ونقاتله إن قاتلنا، فقال لهم عبد الله بن علي: إنه والله ما يريد الشأم، وما وجّه إلا لقتالكم، ولئن أقمتم ليأتينّكم. قال: فلم تطب أنفسهم، وأبوا إلا المسير إلى الشأم.
قال: وأقبل أبو مسلم فعسكر قريبًا منهم، وارتحل عبد الله بن علي من عسكره متوجّهًا نحو الشأم، وتحوّل أبو مسلم حتى نزل في معسكر عبد الله ابن علي في موضعه، وعوّر ما كان حوله من المياه، وألقى فيها الجيف. وبلغ عبد الله بن علي نزول أبي مسلم معسكره، فقال لأصحابه من أهل الشأم: ألم أقل لكم! وأقبل فوجد أبا مسلم قد سبقه إلى معسكره، فنزل في موضع عسكر أبي مسلم الذي كان فيه، فاقتتلوا أشهرًا خمسة أو ستة، وأهل الشأم أكثر فرسانًا وأكمل عدّة، وعلى ميمنة عبد الله بكار بن مسلم العقيلي، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسدي، وعلى الخيل عبد الصمد بن علي، وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى الميسرة أبو نصر خازم بن خزيمة، فقاتلوه أشهرًا.
قال علي: قال هشام بن عمرو التغلبي: كنت في عسكر أبي مسلم، فتحدث الناس يومًا، فقيل: أيي الناس أشدّ؟ فقال: قولوا حتى أسمع، فقال رجل: أهل خراسان. وقال آخر: أهل الشأم، فقال أبو مسلم: كلّ قوم في دولتهم أشدّ الناس. قال: ثم التقينا، فحمل علينا أصحاب عبد الله بن علي فصدمونا صدمةً أزالونا بها عن مواضعنا، ثم انصرفوا. وشدّ علينا عبد الصمد في خيل مجرّدة، فقتل منا ثمانية عشر رجلًا، ثم رجع في أصحابه، ثم تجمعوا فرموا بأنفسهم: فأزالوا صفّنا وجلنا جولة، فقلت لأبي مسلم: لو حرّكت دابتي حتى أشرف على هذا التلّ فأصبح بالناس، فقد انهزموا! فقال: افعل، قال: قلت: وأنت أيضًا فتحرّك دابتك، فقال: إن أهل الحجى لا يعطفون دوابهم على هذه الحال، ناد: يا أهل خراسان ارجعوا؛ فإن العاقبة لمن اتقى.
قال: ففعلت، فتراجع الناس، وارتجز أبو مسلم يومئذ فقال:
من كان ينوي أهله فلا رجع ** فرّ من الموت وفي الموت وقع
قال: وكان قد عمل لأبي مسلم عريش، فكان يجلس عليه إذا التقى الناس فينظر إلى القتال، فإن رأى خللًا في الميمنة أو في الميسرة أرسل إلى صاحبها: إنّ في ناحيتك انتشارًا، فاتّق ألّا نؤتى من قبلك؛ فافعل كذا، قدّم خيلك كذا، أو تأخّر كذا إلى موضع كذا، فإنما رسله تختلف إليهم برأيه حتى ينصرف بعضهم عن بعض.
قال: فلما كان يوم الثلاثاء - أو الأربعاء - لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين ومائة - أو سبع وثلاثين ومائة - التقوا فاقتتقوا قتالًا شديدًا. فلما رأى ذلك أبو مسلم مكر بهم، فأرسل إلى الحسن بن قحطبة - وكان على ميمنته - أن أعر الميمنة، وضمّ أكثرها إلى الميسرة، وليكن في الميمنة حماة أصحابك وأشدّاؤهم. فلما رأى ذلك أهل الشأم أعروا ميسرتهم، وانضموا إلى ميمنتهم بإزاء ميسرة أبي مسلم. ثم أرسل أبو مسلم إلى الحسن أن مر أهل القلب فليحملوا مع من بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشأم، فحملوا عليهم فحطموهم، وجال أهل القلب والميمنة.
قال: وركبهم أهل خراسان، فكانت الهزيمة، فقال عبد الله بن علي لابن سراقة الأزدي - وكان معه: يا بن سراقة، ما ترى؟ قال: أرى والله أن تصبر وتقاتل حتى تموت؛ فإنّ الفرار قبيح بمثلك، وقبل عبته على مروان، فقلت: قبح الله مروان! جزع من الموت ففرّ! قال: فإني آتي العراق، قال: فأنا معك، فانهزموا وتركوا عسكرهم، فاحتواه أبو مسلم، وكتب بذلك إلى أبي جعفر. فأرسل أبو جعفر أبا الخصيب مولاه يحصى ما أصابوا في عسكر عبد الله بن علي، فغضب من ذلك أبو مسلم. ومضى عبد الله بن علي وعبد لصمد بن علي؛ فأما عبد الصمد فقدم الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى فآمنه أبو جعفر، وأما عبد الله بن علي فأتى سليمان بن علي بالبصرة، فأقام عنده. وآمن أبو مسلم الناس فلم يقتل أحدًا، وأمر بالكفّ عنهم.
ويقال: بل استأمن لعبد الصمد بن علي إسماعيل بن علي.
وقد قيل: إن عبد الله بن علي لما انهزم مضى هو وعبد الصمد أخوه إلى رصافة هشام، فأقام عبد الصمد بها حتى قدمت عليه خيول المنصور، وعليها جهور بن مرّار العجلي، فأخذه فبعث به إلى المنصور مع أبي الخصيب مولاه موثقًا، فلما قدم عليه أمر بصرفه إلى عيسى بن موسى، فآمنه عيسى وأطلقه وأكرمه، وحباه وكساه.
وأما عبد الله بن علي فلم يلبث بالرّصافة إلا ليلة، ثم أدلج في قواده ومواليه حتى قدم البصرة على سليمان بن علي وهو عاملها يومئذ، فآواهم سليمان وأكرمهم وأقاموا عنده زمانًا متوارين.
ذكر خبر قتل أبي مسلم الخراساني
وفي هذه السنة قتل أبو مسلم.
ذكر الخبر عن مقتله وعن سبب ذلك
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا سلمة بن محارب ومسلم بن المغيرة وسعيد بن أوس وأبو حفص الأزدي والنعمان أبو السري ومحرز بن إبراهيم وغيرهم، أن أبا مسلم كتب إلى أبي العباس يستأذنه في الحجّ - وذلك في سنة ست وثلاثين ومائة - وإنما أراد أن يصلي بالناس. فأذن له، وكتب أبو العباس إلى أبي جعفر وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان: إن أبا مسلم كتب إلي يستأذن في الحجّ وقد أذنت له؛ وقد ظننت أنه إذا قدم يريد أن يسألني أن أولّيه إقامة الحجّ للناس، فاكتب إلي تستأذنني في الحج؛ فإنك إذا كنت بمكة لم يطمع أن يتقدّمك. فكتب أبو جعفر إلى أبي العباس يستأذنه في اعلحجّ فأذن له، فوافى الأنبار، فقال أبو مسلم: أما وجد أبو جعفر عامًا يحجّ فيه غير هذا! واضطغنها عليه.
قال علي: قال مسلم بن المغيرة: استخلف أبو جعفر على أرمينية في تلك السنة الحسن بن قحطبة. وقال غيره: استعمل رضيعه يحيى بن مسلم بن عروة - وكان أسود مولىً لهم - فخرجا إلى مكة فكان أبو مسلم يصلح العقاب ويكسو الأعراب في كلّ منزل، ويصل من سأله، وكسا الأعراب البتوت والملاحف، وحفر الآبار، وسهل الطرق؛ فكان الصوت له؛ وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه؛ حتى قدم مكة فنظر إلى اليمانية فقال لنيزك - وضرب جنبه -: يا نيزك، أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان سريع الدمعة!.
ثم رجع الحديث إلى حديث الأولين. قالوا: لما صدر الناس عن الموسم، نفر أبو مسلم قبل أبي جعفر، فكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يعزّيه بأمير المؤمنين؛ ولم يهنّئه بالخلافة، ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع؛ فغضب أبو جعفر فقال لأبي أيوب: اكتب إليه كتابًا غليظًا؛ فلما أتاه كتاب أبي جعفر كتب إليه يهنئه بالخلافة، فقال يزيد بن أسيد السلمي لأبي جعفر: إني أكره أن تجامعه في الطريق والناس جنده؛ وهم له أطوع، وله أهيب، وليس معك أحد. فأخذ برأيه، فكان يتأخّر ويتقدّم أبو مسلم، وأمر أبو جعفر أصحابه فقدموا، فاجتمعوا جميعًا وجمع سلاحهم؛ فما كان في عسكره إلّا ستة أذرع، فمضى أبو مسلم إلى الأنبار، ودعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له؛ فأتى عيسى، فقدم أبو جعفر فنزل الكوفة؛ وأتاه أن عبد الله بن علي، فقال له أبو مسلم: إن عبد الجبار بن عبد الرحمن وصالح بن الهيثم يعيبانني فاحبسهما، فقال أبو جعفر: عبد الجبار على شرطي - وكان قبل على شرط أبي العباس - وصالح بن الهيثم أخو أمير المؤمنين من الرضاعة، فلم أكن لأحبسهما لظنك بهما؛ قال: أراهما آثر عندك مني! فغضب أبو جعفر، فقال أبو مسلم: لم أرد كلّ هذا.
قال علي: قال مسلم بن المغيرة: كنت مع الحسن بن قحطبة بأرمينية فلما وجّه أبو مسلم إلى الشأم كتب أبو جعفر إلى الحسن أن يوافيه ويسير معه فقدمنا على أبي مسلم وهو بالموصل فأقام أيامًا، فلما أراد أن يسير، قلت للحسن: أنتم تسيرون إلى القتال وليس بك إلي حاجة، فلو أذنت لي فأتيت العراق، فأقمت حتى تقدموا إن شاء الله! قال: نعم؛ لكن أعلمني إذا أردت الخروج، قلت: نعم، فلما فرغت وتهيأت أعلمته، وقلت: أتيتك أودّعك، قال: قف لي بالباب حتى أخرج إليك، فخرجت فوقفت وخرج، فقال: إنّي أريد أن ألقي إليك شيئًا لتبلغه أبا أيوب، ولولا ثقتي بك لم أخبرك، ولولا مكانك من أبي أيوب لم أخبرك؛ فأبلغ أبا أيوب أني قد ارتبت بأبي مسلم منذ قدمت عليه، إنّه يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرؤه، ثم يلوي شدقه، ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر، فيقرؤه ويضحكان استهزاء؛ قلت: نعم قد فهمت؛ فلقيت أبا أيوب وأنا أرى أن قد أتيته بشيء، فضحك، وقال: نحن لأبي مسلم أشدّ تهمةً منّا لعبد الله بن علي إلّا أنا نرجو واحدةً؛ نعلم أنّ أهل خراسان لا يحبون عبد الله بن علي، وقد قتل منهم من قتل؛ وكان عبد الله بن علي حين خلع خاف أهل خراسان، فقتل منهم سبعة عشر ألفًا؛ أمر صاحب شرطته حيّاش بن حبيب فقتلهم.
قال علي: فذكر أبو حفص الأزدي أن أبا مسلم قاتل عبد الله بن علي فهزمه، وجمع ما كان في عسكره من الأموال فصيّره في حظيرة، وأصاب عينًا ومتاعًا وجوهرًا كثيرًا؛ فكان منثورًا في تلك الحظيرة؛ ووكّل بها وبحفظها قائدًا من قوّاده، فكنت في أصحابه، فجعلها نوائب بيننا، فكان إذا خرج رجل من الحظيرة فتّشه، فخرج أصحابي يومًا من الحظيرة وتخلفت، فقال لهم الأمير: ما فعل أبو حفص؟ فقالوا: هو في الحظيرة، قال: فجاء فاطلع من الباب، وفطنت له فنزعت خفّي وهو ينظر، فنفضتهما وهو ينظر، ونفضت سراويلي وكمّي، ثم لبست خفي وهو ينظر، ثم قام فقعد في مجلسه وخرجت، فقال لي: ما حبسك؟ قلت: خير، فخلّاني، فقال: قد رأيت ما صنعت فلم صنعت هذا؟ قلت: إنّ في الحظيرة لؤلؤًا منثورًا ودراهم منثورة؛ ونحن نتقلب عليها، فخفت أن يكون قد دخل في خفي منها شيء، فزعت خخفي وجوربي؛ فأعجبه ذلك وقال: انطلق، فكنت أدخل الحظيرة مع من يحفظ فآخذ من الدراهم ومن تلك الثياب الناعمة فأجعل بعضها في خفي وأشدّ بعضها على بطني، ويخرج أصحابي فيفتشّون ولا أفتش، حتى جمعت مالًا، قال: وأما اللؤلؤ فإنّي لم أكن أمسّه.
ثم رجع الحديث إلى حديث الذين ذكر علي عنهم قصة أبي مسلم في أول الخبر. قالوا: ولما انهزم عبد الله بن علي بعث أبو جعفر أبا الخصيب إلى أبي مسلم ليكتب له ما أصاب من الأموال، فافترى أبو مسلم على أبي الخصيب وهمّ بقتله، فكلّم فيه؛ وقيل: إنما هو رسول، فخلّ سبيله. فرجع إلى أبي جعفر، وجاء القوّاد إلى أبي مسلم، فقالوا: نحن ولينا أمر هذا الرجل، وغنمنا عسكره، فلم يسأل عما في أيدينا؛ إنما لأمير المؤمنين من هذا الخمس. فلما قدم أبو الخصيب على أبي جعفر أخبره أنّ أبا مسلم همّ بقتله. فخاف أن يمضى أبو مسلم إلى خراسان، فكتب إليه كتابًا مع يقطين؛ أن قد وليتك مصر والشأم؛ فهي خير لك من خراسان، فوجّه إلى مصر من أحببت، وأقم بالشأم فتكون بقرب أمير المؤمنين؛ فإن أحبّ لقاءك أتيته من قريب. فلما أتاه الكتاب غضب، وقال: هو يوليني الشأم ومصر، وخراسان لي! واعتزم بالمضي إلى خراسان، فكتب يقطين إلى أبي جعفر بذلك.
وقال غير من ذكرت خبره: لما ظفر أبو مسلم بعسكر عبد الله بن علي بعث المنصور يقطين بن موسى، وأمره أن يحصيَ ما في العسكر، وكان أبو مسلم يسميه يك دين، فقال أبو مسلم: يا يقطين، أمين على الدماء خائن في الأموال! وشتم أبا جعفر، فأبلغه يقطين ذلك. وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعًا على الخلاف؛ وخرج من وجهه معارضًا يريد خراسان؛ وخرج أبو جعفر من الأنبار إلى المدائن؛ وكتب إلى أبي مسلم في المصير إليه. فكتب أبو مسلم، وقد نزل الزاب وهو على الرواح إلى طريق حلوان: إنه لم يبق لأمير المؤمنين أكرمه الله عدوّ إلا أمكنه الله منه؛ وقد كنّا نروي عن ملوك آل ساسان: أنّ أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء؛ فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة؛ غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذاك فأنا كأحسن عبيدك؛ فإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك، ضنًا بنفسي. فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسلم: قد فهمت كتابك؛ وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم؛ فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة؛ فلم سوّيت نفسك بهم، وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به! وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمع ولا طاعة. وحمّل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت إليها، وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك؛ فإنه لم يجد بابًا يفسد به نيتك أوكد عنده، وأقرب من طبّه من الباب الذي فتحه عليك. ووجه إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي؛ وكان واحد أهل زمانه، فخدعه وردّه، وكان أبو مسلم يقول: والله لأقتلنّ بالروم؛ وكان المنجمون يقولون ذلك؛ فأقبل والمنصور في الرومية في مضارب، وتلقاه الناس وأنزله وأكرمه أيامًا.
وأما علي فإنه ذكر عن شيوخه الذين تقدّم ذكرنا لهم أنهم قالوا: كتب أبو مسلم إلى أبي جعفر: أما بعد؛ فإني اتخذت رجلًا إمامًا ودليلًا على ما افترضه الله على خلقه؛ وكان في محلّة العلم نازلًا، وفي يقرابته من رسول الله قريبًا؛ فاستجهلني بالقرآن فحرّفه عن مواضعه، طمعًا في قليل قد تعافاه الله إلى خلقه؛ فكان كالذي دلّيَ بغرور؛ وأمرني أن أجرّد السيف، وأرفع الرحمة، ولا أقبل المعذرة، ولا أقيل العثرة، ففعلت توطيدًا لسلطانكم حتى عرّفكم الله من كان جهلكم، ثم استنقذني الله بالتوبة؛ فإن يعف عني فقدمًا عرف به ونسب إليه؛ وإن يعاقبني فبما قدمّت يداي وما الله بظلام للعبيد.
وخرج أبو مسلم يريد خراسان مراغما مشاقًّا، فلما دخل أرض العراق. ارتحل المنصور من الأنبار، فأقبل حتى نزل المدائن، وأخذ أبو مسلم طرييق حلوان؛ فقال: رب أمر لله دون حلوان. وقال أبو جعفر لعيسى بن علي وعيسى بن موسى ومن حضره من بني هاشم: اكتبوا إلى أبي مسلم؛ فكتبوا إليه يعظمون أمره، ويشكرون له ما كان منه، ويسألونه أن يتمّ على ما كان منه وعليه من الطاعة، ويحذّرونه عاقبة الغدر، ويأمرونه بالرجوع إلى أمير المؤمنين؛ وأن يلتمس رضاه. وبعث بالكتاب أبو جعفر مع أبي حميد المروروذي. وقال له: كلم أبا مسلم بألين ما تكلّم به أحدًا، ومنّه وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه أحد، إن هو صلح وراجع ما أحبّ؛ فإن أبى أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: لست للعباس وأنا برىء من محمد، إن مضيت مشاقًا ولم تأتني، إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي؛ ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك. ولا تقولنّ له هذا الكلام حتى تأيس من رجوعه. ولا تطمع منه في خير.
فسار أبو حميد في ناس من أصحابه ممن يثق بهم؛ حتى قدموا على أبي مسلم بحلوان. فدخل أبو حميد وأبو مالك وغيرهما، فدفع إليه الكتاب، وقال له: إنّ الناس يبلّغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله، وخلاف ما عليه رأيه فيك؛ حسدًا وبغيًا؛ يريدون إزالة النعمة وتغييرها؛ فلا تفسد ما كان منك؛ وكلّمه. وقال: يا أبا مسلم، إنك لم تزل أمين آل محمد؛ يعرفك بذلك الناس، وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذلك أعظم مما أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك، ولا يستهوينّك الشيطان، فقال له أبو مسلم: متى كنت تكلّمني بهذا الكلام! قال: إنك دعوتنا إلى هذا وإلى طاعة أهل بيت النبي بني العباس، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك؛ فدعوتنا من أرضين متفرّقة وأسباب مختلفة، فجمعنا الله على طاعتهم، وألف بين قلوبنا بمحبّتهم، وأعزّنا بنصرنا لهم، ولم نلق منهم رجلًا إلا بما قذف الله في قلوبنا، حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة، وطاعة خالصة؛ أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتتهى أملنا أن تفسد أمرنا، وتفرّق كلمتنا؛ وقد قلت لنا: من خالفكم فاقتلوه. وإن خالفتكم فاقتلوني! فأقبل على أبي نصر، فقال: يا مالك، أما تسمع ما يقول لي هذا! ما هذا بكلامه يا مالك! قال: لا تسمع كلامه، ولا يهولنك هذا منه؛ فلعمري لقد صدقت ما هذا كلامه؛ ولما بعد هذا أشدّ منه؛ فامض لأمرك ولا ترجع؛ فوالله لئن أتيته ليقتلنك؛ ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبدًا. فقال: قوموا، فنهضوا، فأرسل أبو مسلم إلى نيزك، وقال: يا نيزك، إني والله ما رأيت طويلًا أعقل منك، فما ترى، فقد جاءت هذه الكتب، وقد قال القوم ما قالوا؟ قال: لا أرى أن تأتيه، وأرى أن تأتي الري فنقيم بها، فيصير ما بين خراسان والرّي لك؛ وهم جندك ما يخالفك أحد؛ فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت في جندك، وكانت خراسان من ورائك، ورأيت رأيك. فدعا أبا حميد، فقال: ارجع إلى صاحبك، فليس من رأيي أن آتيه. قال: قد عزمت على خلافه؟ قال: نعم، قال: لا تفعل، قال: ما أريد أن ألقاه؛ فلما آيسه من الرجوع، قال له ما أمره به أبو جعفر، فوجم طويلًا، ثم قال: قم. فكسره ذلك القول ورعبّه.
وكان أبو جعفر قد كتب إلى أبي داود - وهو خليفة أبي مسلم بخراسان - حين اتّهم أبا مسلم إنّ لك إمرة خراسان ما بقيت. فكتب أبو داود إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيّه ، فلا تخالفنّ إمامك ولا ترجعنّ إلا بإذنه. فوافاه كتابه على تلك الحال؛ فزاده رعبًا وهمًا، فأرسل إلى أبي حميد وأبي مالك فقال لهما: إني قد كنت معتزمًا على المضي إلى خراسان، ثم رأيت أن أوجّه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه؛ فإنه ممن أثق به فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكلّ ما يحبّ، وقال له أبو جعفر: اصرفه عن وجهه؛ ولك ولاية خراسان؛ وأجازه. فرجع أبو إسحاق إلى أبي مسلم، فقال له: ما أنكرت شيئًا، رأيتهم معظمين لحقك، يرون لك ما يرون لأنفسهم. وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين، فيعتذر إليه مما كان منه، فأجمع على ذلك، فقال له نيزك: قد أجمعت على الرجوع؟ قال: نعم، وتمثّل:
ما للرجال مع القضاء محالة ** ذهب القضاء بحيلة الأقوام
فقال: أمّا إذ اعتزمت على هذا فخار الله لك؛ واحفظ عني واحدة؛ إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع لمن شئت؛ فإنّ الناس لا يخالفونك. وكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يخبره أنه منصرف إليه.
قالوا: قال أبو أيوب: فدخلت يومًا على أبي جعفر وهو في خباء شعر الروميّة جالسًا على مصلّىً بعد العصر، وبين يديه كتاب أبي مسلم، فرمى به إلي فقرأته، ثم قال: والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنّه، فقلت في نفسي: إنا لله وإنا إليه راجعون! طلبت الكتابة حتى إذا بلغت غايتها فصرت كاتبًا للخليفة، وقع هذا بين الناس! والله ما أرى أنا إن قتل يرض أصحابه بقتله ولا يدعون هذا حيًا؛ ولا أحدًا ممن هو بسبيل منه؛ وامتنع مني النوم، ثم قلت: لعلّ الرجل يقدم وهو آمن؛ فإن كان آمنًا فعسى أن ينال ما يريد وإن قدم وهو حذر لم يقدر عليه إلا في شر، فلو التمست حيلة! فأرسلت إلى سلمة بن سعيد بن جابر، فقلت له: هل عندك شكر؟ فقال: نعم، فقلت: إن وليتك ولاية تصيب منها مثل ما يصيب صاحب العراق، تدخل معك حاتم بن أبي سلمان أخي؟ قال: نعم، فقلت - وأردت أن يطلع ولا ينكر: وتجعل له النصف؟ قال: نعم، قلت: إنّ كسكر كالت عام أوّل كذا وكذا، ومنها العام أضعاف ما كان عام أوّل؛ فإن دفعتها إليك بقبالتها عامًا أوّل أو بالأمانة أصبت ما تضيق به ذرعًا، قال: فكيف لي بهذا المال؟ قلت: تأتي أبا مسلم، فتلقاه وتكلمه
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)