رجع الحديث إلى حديث عمر بن شبّة. قال عمر: وحدثني عيسى، عن أبيه، قال: كتب أبو جعفر إلى عيسى بن موسى: من لقيك من آل أبي طالب فاكتب إلي باسمه، ومن لم يلقك فاقبض ماله. قال: فقبض عين أبي زياد - وكان جعفر بن محمد تغيّب عنه - فلما قدم أبو جعفر كلمه جعفر، وقال: مالي، قال: قد قبضه مهديُّكم.
قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: لما صار عيسى بفيد، كتب إلى رجال من أهل المدينة في خرق الحرير؛ منهم عبد العزيز بن المطّلب المخزومي وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي، فلما وردت كتبه المدينة، تفرّق ناسٌ كثير عن محمد؛ منهم عبد العزيز بن المطلب؛ فأخذ فردّ، فأقام يسيرًا؛ ثم خرج، فردّ مرّة أخرى؛ وكان أخوه علي بن المطلب من أشدّ الناس مع محمد؛ فكلم محمّدًا في أخيه حتى كفّه عنه.
قال: وحدثني عيسى، قال: كتب عيسى بن موسى إلى أبي في حريرة صفراء جاء بها أعرابيٌ بين خصافي نعله، قال: عيسى: فرأيت الأعرابي قاعدًا في دارنا، وإني لصبي صغير؛ فدفعها إلى أبي فإذا فيها: إن محمدًا تعاطى ما ليس يعطيه الله، وتناول ما لم يؤته الله، قال: عزّ وجل في كتابه: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ".
فعجّل التخلص وأقلّ التربص، وادعُ من أطاعك من قومك إلى الخروج معك.
قال: فخرج وخرج معه عمر بن محمد بن عمر، وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: ودعوا الأفطس حسن بن علي بن أبي طالب إلى الخروج معهم فأبى، وثبت مع محمد؛ وذكر خروجهم لمحمد فأرسل إلى ظهرهم فأخذه؛ فأتاه عمر بن محمد، فقال: أنت تدعو إلى العدل ونفي عالجور؛ فما بال إبلي تؤخذ! فإنما أعددتها لحجّ أو عمرة. قال: فدفعها إليه - فخرجوا من تحت ليلتهم؛ فلقوا عيسى على أربع - أو خمس - من المدينة.
قال: وحدثني أيوب بن عمر بن أبي عمرو بن نعيم بن ماهان، قال: كتب أبو جعفر إلى رجال من قريش وغيرهم كتبًا، وأمر عيسى: إذا دنا من المدينة أن يبعث بها إليهم، فلما دنا بعث بها إليهم؛ فأخذ حرس محمد الرسول والكتب، فوجد فيها كتابًا إلى إبراهيم بن طلحة بن عمر بن عبيد الله ابن معمر وإلى جماعة من رؤساء قريش. فبعث محمد إلينا جميعًا ما خلا ابن عمر وأبا بكر بن سبرة، فحبسنا في دار ابن هشام التي في المصلّى. قال أبي: وبعث إلي وإلى أخي، فأتيَ بنا فضربنا ثلثمائة. قال: فقلت له وهو يضربني ويقول: أردت أن تقتلني! تركتك وأنت تستتر بحجر وببيت شعر؛ حتى إذا صارت المدينة في يدك، وغلظ أمرك، قمت عليك فبمن أقوم! أبطاقتي، أم بمالي، أم بعشيرتي! قال: ثم أمر بنا إلى الحبس، وقيّدنا بكبول وسلاسل تبلغ ثمانين رطلًا، قال: فدخل عليه محمد بن عجلان، فقال: إني ضربت هذين الرجلين ضربًا فاحشًا، وقيّدتهما بما منعهما من الصلاة. قال: فلم يزالا محبوسين حتى قدم عيسى.
قال: وحدثني محمد بن يحيى. قال: حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت، عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم، قال: إنا لعند محمد ليلة - وذلك عند دنوّ عيسى من المدينة - إذ قال محمد: أشيروا علي في الخروج والمقام، قال: فاختلفوا. فأقبل علي فقال: أشرْ علي يا أبا جعفر، قلت: ألست تعلم أنك أقلّ بلاد الله فرسًا وطعامًا وسلاحًا، وأضعفها رجالًا؟ قال: بلى، قلت: تعلم أنك تقاتل أشدّ بلاد الله رجلًا وأكثرها مالًا وسلاحًا؟ قال: بلى، قلت: فالرأي أن تسير بمن معك حتى تأتي مصر، فوالله لا يردّك رادّ، فتقاتل الرجل بمثل سلاحه وكراعه ورجاله وماله. فصاح حنين بن عبد الله: أعوذ بالله أن تخرج من المدينة! وحدثه أن النبي قال: " رأيتني في درع حصينة فأوّلتها المدينة ".
قال: وحدثني محمد بن إسماعيل بن جعفر، عن الثقة عنده، قال: أجاب محمدًا لما ظهر أهل المدينة وأعراضها وقبائل من العرب؛ منهم جهينة ومزينة وسليم وبنو بكر وأسلم وغفار؛ فكان يقدّم جهينة؛ فغضبت من ذلك قبائل قيس.
قال محمد: فحدثني عبد الله بن معروف أحد بني رياح بن مالك بن عصيّة بن خفاف - وقد شهد ذاك - قال: جاءت محمدًا بنو سليم على رؤسائها، فقال متكلّمهم جابر بن أنس الرياحي: يا أمير المؤمنين؛ نحن أخوالك وجيرانك، وفينا السلاح والكراع؛ والله لقد جاء الإسلام والخيل في بني سليم أكثر منها بالحجاز؛ لقد بقي فينا منها ما إن بقي مثله عند عربي تسكن إليه البادية، فلا تخندق الخندق؛ فإن رسول الله خندق خندقه لما الله أعلم به؛ فإنك إن خندقته لم يحسن القتال رجّالة، ولم توجّه لنا الخيل بين الأزقّة؛ وإن الذين يخندق دونهم هم الذين يقاتلون فيها؛ وإن الذين يخندق عليهم يحول الخندق دونهم. فقال أحد بني شجاع: خندق رسول الله فاقتد برأيه؛ أو تريد أنت أن تدع رأي رسول الله لرأيك! قال: إنه يا بن شجاع ما شيء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم؛ ولا شيء أحبّ إلي وإلى أصحابي من مناجزتهم. فقال محمد: إنما اتّبعنا في الخندق أثر رسول الله ، فلا يردّني عنه أحد، فلست بتاركه.
قال: وحدثني محمد بن يحيى، عن الحارث بن إسحاق، قال: لما تيقن محمد أن عيسى قد أقبل حفر الخندق، خندق النبي الذي كان حفره للأحزاب.
قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني محمد ابن عطيّة مولى المطلبيّين، قال: لما حفر محمد الخندق ركب إليه وعليه قباء أبيض ومنطقة، وركب الناس معه؛ فلما أتى الموضع نزل فيه؛ بدأ هو فحفر بيده؛ فأخرج بنةً من خندق النبي ، فكبّر وكبّر الناس معه، وقالوا: أبشر بالنّصر؛ هذا خندق جدّك رسول الله .
قال: وحدثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدثني مصعب بن عثمان بن مصعب بن عروة بن الزبير، قال: لما نزل عيسى الأعوص رقي محمد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن عدوّ الله وعدوّكم عيسى بن موسى قد نزل الأعوص؛ وإن أحقّ الناس بالقيام بهذا الدين، أبناء المهاجرين الأوّلين والأنصار المواسين.
قال: وحدثني إبراهيم بن أبي إسحاق العبسي - شيخ من غطفان - قال: أخبرني أبو عمرو مؤدب محمد بن عبد الرحمن بن سليمان، قال: سمعت الزبيري الذي قتله أبو جعفر - يعني عثمان بن محمد بن خالد - قال: اجتمع مع محمّد جمع لم أر مثله ولا أكثر منه؛ إني لأحسب أنا قد كنا مائة ألف؛ فلما قرب عيسى خطبنا، فقال: يأيها الناس؛ إنّ هذا الرجل قد قرب منكم في عدد وعدّة؛ وقد حللتكم من بيعتي؛ فمن أحبّ المقام فليقم، ومن أحبّ الانصراف فلينصرف. فتسللوا حتى بقي في شرذمة ليست بالكثيرة.
قال: وحدثني موهوب بن رشيد بن حيّان بن أبي سليمان بن سمعان؛ أحد بني قريط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب، قال: حدثني أبي، قال: لما ظهر محمّد جمع الناس وحشرهم، وأخذ عليهم المناقب فلا يخرج أحد؛ فلما سمع بعيسى وحميد بن قحطبة قد أقبلا، صعد المنبر، فقال: يأيها الناس؛ إنّا قد جمعناكم للقتال؛ وأخذنا عليكم المناقب؛ وإن هذا العدوّ منكم قريب؛ وهو في عدد كثير، والنصر من الله والأمر بيده؛ وإنه قد بدا لي أن آذن لكم وأفرج عنكم المناقب؛ فمن أحبّ أن يقيم أقام، ومن أحبّ أن يظعن ظعن. قال أبي: فخرج عالمٌ من الناس؛ كنت فيهم؛ فلما كنا بالعريض - وهو على ثلاثة أميال من المدينة - لقيتنا مقدّمة عيسى بن موسى دون الرُّحبة؛ فما شبّهت رجالهم إلّا رجلًا من جراد. قال: فمضينا وخالفونا إلى المدينة.
قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: خرج ناس كثير من أهل المدينة بذراريّهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال، فأمر محمد أبا القلمس، فردّ من قدر عليه منهم، فأعجزه كثير منهم، فتركهم.
قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني الغاضري، قال: قال لي محمد: أعطيك سلاحًا وتقاتل معي؟ قلت: نعم؛ إن أعطيتني رمحًا أطعنهم به؛ وهم بالأعوص وسيفًا أضربهم به وهم بهيفا. قال: ثمّ مكث غير كثير، ثم بعث إلي فقال: ما تنتظر؟ قلت: ما أهون عليك - أبقاك الله - أن أقتل وتمرّوا؛ فيقال: والله إن كان لباديًا! قال: ويحك! قد بيّض أهل الشأم وأهل العراق وخراسان، قال: قلت: اجعل الدنيا زبدةً بيضاء وأنا في مثل صوفة الدواة، ما ينفعني هذا وعيسى بالأعوص! قال: وحدثني عيسى، عن أبيه، عن جدّه، قال: وجّه أبو جعفر مع عيسى بن موسى بابن الأصمذ ينزله المنازل، فلما قدموا نزلوا على ميل من مسجد رسول الله ، فقال ابن الأصمّ: ألا إنّ الخيل لا عمل لها مع الرجالة؛ وإني أخاف إن كشفوكم كشفة أن يدخلوا عسكرهم. فرفعهم إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف، وهي على أربعة أميال من المدينة - وقال: لا يهرول الراجل أكثر من ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل.
قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني محمد بن أبي الكرام، قال: لمّا نزل عيسى طرف القندوم أرسل إلي نصف الليل، فوجدته جالسًا والشمع والأموال بين يديه، فقال: جاءتني العيون تخبرني أنّ هذا الرجل في ضعف؛ وأنا أخاف أن ينكشف؛ وقد ظننت ألّا مسلك له إلّا إلى مكة، فاضمم إليك خمسمائة رجل؛ فامض بهم معاندًا عن الطريق حتى تأتيَ الشجرة فتقيم بها. قال: فأعطاهم على الشمع، فخرجت بهم حتى مررت بالبصرة بالبطحاء - وهي بطحاء ابن أزهر على ستة أميال من المدينة - فخاف أهلها؛ فقلت: لا بأس عليكم؛ أنا محمد بن عبد الله، هل من سويق؟ قال: فأخرجوا إلينا سويقًا، فشربنا وأقمنا بها حتى قتل محمد.
قال: وحدثني محمد بن إسماعيل؛ عن الثقة عنده، قال: لما قرب عيسى أرسل إلى محمد القاسم بن الحسن بن زيد يدعوه إلى الرجوع عمّا هو عليه، ويخبره أنّ أمير المؤمنين قال آمنه وأهل بيته، فقال محمد للقاسم: والله لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت عنقك؛ لأني لم أرك منذ كنت غلامًا في فرقتين؛ خير وشرّ، إلّا كنت مع الشرّ على الخير. وأرسل محمد إلى عيسى: يا هذا؛ إنّ لك برسول الله قرابةً قريبةً، وإني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بطاعته، وأحذّرك نقمته وعذابه؛ وإني والله ما أنا بمنصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه؛ فإياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله، فتكون شرّ قتيل، أو تقتله فيكون أعظم لوزرك، وأكثر لمأثمك. فأرسل هذه الرسالة مع إبراهيم بن جعفر، فبلّغه، فقال: ارجع إلى صاحبك، فقل له: ليس بيننا إلّا القتال.
قال: وحدثني إبراهيم بن محمد بن أبي الكرام بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر، قال: أخبرني أبي، قال: لما قرب عيسى من المدينة، أرسلني إلى محمد بأمانه، فقال لي محمد: علام تقاتلونني وتستحلّون دمي، وإنما أنا رجل فرّ من أن يقتل! قال: قلت: إنّ القوم يدعونك إلى الأمان، فإن أبيت إلّا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آبائك عليّق طلحة والزبير؛ على نكث بيعتهم وكيد ملكهم، والسعي عليهم. قال: فأخبرت بذلك أبا جعفر، فقال: والله ما سرّني أنك قلت له غير ذلك، وأن لي كذا وكذا.
قال: وحدثني هشام بن محمد بن عروة بن هشام بن عروة، قال: أخبرني ماهان بن بخت مولى قحطبة، قال: لما صرنا بالمدينة أتانا إبراهيم بن جعفر بن مصعب طليعة، فطاف بعسكرنا حتى حسّه كله، ثم ولّى ذاهبًا. قال: رعبنا منه والله رعبًا شديدًا؛ حتى جعل عيسى وحميد بن قحطبة يعجبان فيقولان: فارس واحد طليعةً لأصحابه! فلما ولّى مدى أبصارننا نظرنا إليه مقيمًا بموضع واحد، فقال حميد: ويحكم! انظروا ما حال الرجل؛ فإني أرى دابته واقفًا لا تزول؛ فوجّه إليه حميد رجلين من أصحابه، فوجدا دابته قد عثر به؛ فصرعه فقوّس التنور عنقه. فأخذا سلبه، فأتينا بتنور - قيل إنه كان لمصعب بن الزبير - مذهب لم ير مثله قطّ.
قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، فف نزل عيسى بقصر سليمان بالجرف، صبيحة ثنتي عشرة من رمضان من سنة خمس وأربعين ومائة، يوم السبت، ويوم الأحد وغدا يوم الاثنين، حتى استوى على سلع، فنظر إلى المدينة وإلى من دخلها وخرج منها، وشحن وجوهها كلها بالخيل والرّجال إلا ناحية مسجد أبي الجرّاح؛ وهو على بطحان؛ فإنه تركه لخروج من هرب، وبرز محمد في أهل المدينة.
قال: وحدثني عيسى، قال: حدثنا محمد بن زيد، قال: قدمنا مع عيسى، فدعا محمدًا ثلاثًا: الجمعة والسبت والأحد.
قال: وحدثني عبد الملك بن شيبان، قال: حدثني زيد مولى مسمع، قال: لما عسكر عيسى أقبل عى دابة يمشي حواليه نحو من خمسمائة، وبين يديه راية يسار بها معه؛ فوقف على الثنيّة ونادى: يا أهل المدينة؛ إن الله قد حرّم دماء بعضنا على بعض؛ فهلمّوا إلى الأمان؛ فمن قام تحت رايتنا فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن؛ ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن. خلّوا بيننا وبين صاحبنا فإمّا لنا أو له. قال: فشتموه وأقذعوا له، وقالوا: يا بن الشاة، يا بن كذا، يا بن كذا. فانصرف يومه ذاك، وعاد من الغد ففعل مثل ذلك، فشتموه؛ فلما كان اليوم الثالث أقبل بما لم أر مثله قطّ من الخيل والرجال والسلاح؛ فوالله ما لبثنا أن ظهر علينا ونادى بالأمان، فانصرف إلى معسكره.
قال: وحدثني إبراهيم الغفاني، قال: سمعت أبا عمرو مؤدّب محمد ابن عبد الرحمن يحدث عن الزبيري - يعني عثمان بن محمد بن خالد - قال: لما التقينا نادى عيسى بنفسه: أيا محمد، إن أمير المؤمنين أمرني ألّا أقاتلك حتى أعرض عليك الأمان، فلك علي نفسك وأهلك وولدك وأصحابك، وتعطى من المال كذا وكذا، ويقضى عنك دينك، ويفعل بك ويفعل! قال: فصاح: محمد أله عن هذا، فوالله لو علمت أنه لا يثنيني عنكم فزع، ولا يقرّبني منكم طمع ما كان هذا. قال: ولجّ القتال، وترجّل محمد؛ فإني لأحسبه قتل بيده يومئذ سبعين رجلًا.
قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني محمد بن زيد، قال: لما كان يوم الاثنين، وقف عيسى على ذباب، ثم دعا مولى لعبد الله بن معاوية كان معه؛ وكان على مجفّفته، فقال: خذ عشرة من أصحابك؛ أصحاب التجافيف؛ فجاء بهم، فقال لنا: ليقم معه عشرة منكم يا آل أبي طالب. قال: فقمنا معه، ومعنا ابنا محمد بن عمر بن علي: عبد الله وعمر، ومحمد بن عبد الله بن عقيل، والقاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي، وعبد الله ابن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر؛ في عشرة منّا. فقال: انطلقوا إلى القوم، فادعوهم وأعطوهم أمانًا؛ وبقي أمان الله. قال: فخرجنا حتى جئنا سوق الخطّابين؛ فدعوناهم فسبّونا ورشقونا بالنبل، وقالوا: هذا ابن رسول الله معنا ونحن معه؛ فكلمهم القاسم بن الحسن بن زيد، فقال: وأنا ابن رسول الله؛ وأكثر من ترون بنو رسول الله؛ ونحن ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وحقن دمائكم والأمان لكم؛ فجعلوا يسبّوننا ويرشقوننا بالنبل، فقال القاسم لغلامه: القط هذه النبل، فلقطها فأخذها قاسم بيده، ثم دخل بها إلى عيسى، فقال: ما تنتظر! انظر ما صنعوا بنا، فأرسل عيسى بن حميد قحطبة في مائة.
قال: حدثني أزهر بن سعيد بن نافع، قال: حدثني أخواي عثمان ومحمد ابنا سعيد - وكانا مع محمد - قالا: وقف القاسم بن الحسن ورجل معه من آل أبي طالب على رأس ثنيّة الوداع، فدعوا محمدًا إلى الأمان، فسبّهما فرجعا، وأقبل عيسى وقد فرّق القواد فجعل هزارمرد عند حمّام بن أبس الصعبة، وكثير بن حصين عند دار ابن أفلح التي ببقيع الغرقد، ومحمد بن أبي العباس على باب بني سلمة، وفرّق سائر القوّاد على أنقاب المدينة، وصار عيسى في أصحابه على رأس الثنيّة، فرموا بالنشاب والمقاليع ساعة.
وحدثني أزهر، قال: جعل محمد ستور المسجد دراريع لأصحابه.
قال: وحدثني عبد الله بن إسحاق بن القاسم، قال: حدثني عمر؛ شيخ من الأنصار، قال: جعل محمد ظلال المسجد خفاتين لأصحابه، فأتاه رجلان من جهينة، فأعطى أحدهما خفتانًا ولم يعط الآخر، فقاتل صاحب الخفتان، ولم يقاتل الآخر معه؛ فلما حضرت الحرب أصابت صاحب الخفتان نشابة، فقتلته، فقال صاحبه:
يا رب لا تجعلني كمن خان ** وباع باقي عيشه بخفتان
قال: وحدثني أيوب بن عمر، قال: حدثني إسماعيل بن أبي عمرو، قال: إنا لوقوف على خندق بني غفار؛ إذ أقبل رجل على فرس؛ ما يُرى منه إلّا عيناه، فنادى: الأمان، فأعطى الأمان، فدنا حتى لصق بنا، فقال: أفيكم من يبلّغ عني محمدًا؟ قلت: نعم، أنا، قال: فأبلغه عني - وحسر عن وجهه؛ فإذا شيخ مخضوب - فقال: قل له: يقول لك فلان التميمي، بآية أنّي وإياك جلسنا في ظل الصخرة في جبل جهينة في سنة كذا، اصبر إلى الليل؛ فإن عامة الجند معك. قال: فأتيته قبل أن يغدو - وذلك يوم الاثنين في اليوم الذي قتل فيه - فوجدت بين يديه قربة عسل أبيض قد شقّت من وسطها، ورجل يتناول من العسل ملء كفّه ثم يغمسه في الماء، ثم يلقمه إياه، ورجل يحزم بطنه بعمامة؛ فأبلغته الرسالة فقال: قد أبلغت؛ فقلت: أخواي في يدك، قال: مكانهما خير لهما.
قال: وحدثني إبراهيم بن مصعب بن عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير، قال: حدثني محمد بن عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، قال: كانت راية محمد إلى أبي، فكنت أحملها عنه.
قال: وحدثني عيسى، عن أبيه، قال: كان مع الأفطس حسن بن علي بن حسين علم أصفر، فيه صورة حيّة، ومع كلّ رجل من أصحابه من آل علي بن أبي طالب علم، وشعارهم: أحد أحد، قال: وكذلك كان شعار النبي يوم حنين.