"لا وقت لنضيعه في الكلام, يجب أن نخرج سامر من هنا فورا"
ثم التفت إلي وقال:
"هيا يا وليد... عجّل..."
تبادلت النظرات مع أخي وأبي حسام ثم عدت إلى رغد... وحال منظرها الفظيع دون نطقي بأي تعليق. فقال أبو حسام مستعجلا:
"الآن يا وليد"
مسحت قطيرات العرق المتجمعة على وجهي وعنقي ثم قلت موجها خطابي إلى رغد:
"ابقي لحين عودتي... لن أتأخر"
أغمضت رغد عينيها ذعرا... لكنني لم أستطع غير المضي قدما...
التفتُ إلى شقيقي الجالس على المقعد وقلت:
"هيا بنا... توكلنا على الله"
لم يتحرك سامر بادئ ذي بدء... ظهر هادئا مستسلما يائسا... وكأن الأمر لا يعنيه أو أنه فاقد الأمل في النجاة...
نظر أبو حسام إلى سامر وقال محثا إياه على النهوض:
"هيا يا بني"
وهو يشد على كتفيه. وقف سامر وعيناه تدوران فيما بيننا وأعيننا معلقة عليه... ثم نطق أخيرا:
"إلى أين؟؟"
يسأل عن المخبأ الذي خططت لنقله إليه, فأجبت:
"مصنع والدي"
حملق الجميع بي لبرهة... تعلوهم الدهشة.
مصنع والدي, دمر أثناء غزو العدو على المدينة قبل سنوات... وهو الآن مهجور وخرب ولا تتنازل حتى وحوش البرية للإقامة فيه. يقع المصنع عند أطراف المدينة في مكان ناء... يستغرق الوصول إليها زمنا... خصوصا وأن الشوارع بقيت على حالها مدمرة ومتقطعة...
أخيرا التفت أبو حسام إلى سامر وقال:
"توكلا على الله"
وسار أخي وهو يقترب مني... حيث كنت الأقرب إلى الباب. وعندما صار أمامي... مددت يدي إلى ذراعه وقلت:
"سامر... ثق بي... اعتمد علي... أعدك بأن تغادر البلد سالما بإذن الله... لقد رتبت لكل شيء... النقود تسهل كل صعب..."
نظر إلي أخي والهم يعشش على عينيه... نظرة هزتني من الأعماق... فشددت على ذرعه بقوة وقلت:
"أرجوك... تشجع... وعدني بأنك لن تضيع جهودي عبثا... عدني بأن تلتزم بما أقوله لك... ولا تحاول شيئا آخر... أرجوك عدني"
أحس أخي الرجاء الشديد في نبرة صوتي, وأخيرا نطق:
"أعدك... وليد"
فابتسمت مشجعا... وشددت على ذراعه أكثر... ثم استخرجت من أحد جيوبي السلاح الذي كنت أخفيه...
قدمته نحو أخي, وهو ينظر إلي مندهشا... فقلت:
"استخدمه إذا اضطررت..."
أخذ سامر مسدسه من يدي... وهو يحملق بي غير مصدق... ثم خبأه في أحد جيوبه, ثم عانقني عناقا أخويا حميما...
حملنا معنا هاتفي وهاتف سامر, والذي كنت قد احتفظت به عندي, وقبل المغادرة التفت إلى رغد... والعم أبي حسام, وقلت:
"أمانتك لحين عودتي..."
وأشحت بوجهي قبل أن يحدث منظر رغد في قلبي ثقبا جديدا...
أخيرا دخلنا أحد المباني... المبنى الذي كان يحوي مقصفا للعمال وغرفة استراحة... كان المبنى الأقل تضررا والذي لا يزال سقفه يقف على جدرانه.
المكان كان موحشا جدا... لا يثير في النفس إلا الذعر...
لم تكن هناك أي إنارة عدا بصيص بسيط يتسلل عبر نافذة صغيرة قرب السقف...
"سيكون هذا جيدا"
قلت ذلك وأنا أنفض الغبار والأتربة عن أريكة مجاورة وأدعو أخي للجلوس, فرد:
"ما هو الجيد؟؟"
وقد غمره الاستياء والنفور الشديدين من المكان... بقي أخي واقفا ينظر إلى ما حوله بازدراء... جلت ببصري في الغرفة ولم أستطع إقناع نفسي بغير شعور أخي... الازدراء...
قلت مشجعا:
"لبضع ساعات... تُحتمل"
وأشرت إليه أن يجلس, لكنه لم يفعل...
أخي منذ صغره, اعتاد العيش في النعيم. منزلنا الكبير في الجنوب... ومنزلنا الراقي في الشمال... وشقته الفاخرة... أذكر أنه عندما زارني في المزرعة ورأى الغرفة المتواضعة التي كنت أقيم فيها والمنزل البسيط, شعر بالنفور والازدراء...
قلت:
"هذا لا شيء... مقارنة بالزنزانة"
وأنا أتذكر الزنزانة الفظيعة التي أضعت بين جدرانها القذرة ثمان سنوات من عمري...
نظر سامر إلي باستسلام, ثم جلس على الأريكة كارها. لو لم يكن لدي ما أنجزه للضرورة القصوى, لكنت بقيت برفقته... كيف لي أن أترك أخي في مكان مهجور ومرعب وقذر كهذا؟؟
قلت وأنا أستعد للمغادرة:
"سأنهي ما لدي وأعود إليك..."
وأضفت:
"كن حذرا... ابق عينيك وأذنيك يقظتين و هاتفني إن حصل شيء على الفور"
أرسل أخي إلي نظرة قرأت فيها توسلا... بألا أغيب عنه... فرددت على رسالته بنظرة تقول: (انتظرني...)
وهكذا, غادرت مصنع أبي المهجور... تاركا في قلبه شقيقي الوحيد... وحيدا...
اتصلت بعد ذلك بالمنزل أطمئن على رغد وأبي حسام وأطمئنها علينا... وتوجهت بعدها لاستلام الوثائق الضرورية التي تلزمنا للسفر... وأنجزت مهاما أخرى...
لن تصدقوا ما اضطررت لفعله من أجل إنقاذ أخي... لم أكن لأتصور نفسي سألجأ إلى هذا... يوما من الأيام...
عدت بعد ذلك إلى المنزل... بمجرد دخولي للداخل, وقع بصري على رغد...
كانت تجلس في الممر... على الأرضية الرخامية... مستندة إلى الجدار... ومادّة رجليها إلى الأمام... وعكازها مرمي إلى جانبها الأيسر وهاتفها إلى جانبها الأيمن... ووجها مغمور في سحابة داكنة من الهلع والاضطراب... حينما رأتني مدت يدها نحوي ونادتني بلهفة:
"و... ليد"
كان صوتها ضعيفا واهنا... سلبه الخوف والفزع المقدرة على التماسك... تقدمت نحوها وجلست إلى جانبها... أسندت رأسي إلى الجدار... ومددت رجلي إلى الأمام... مثل وضعها... وأغمضت عيني...
كنت أريد أن ألتقط بعض الأنفاس... أحسست بيدها تتشبث بذراعي... التفت إليها... وغاصت عيناي في بحر خوفها...
قلت:
"قبل بزوغ الفجر...تبدأ رحلتنا يا رغد"
رغد تحدت ببقايا صوتها قائلة:
"إلى... أين؟؟"
فأجبت:
"برا إلى البلدة المجاورة... ثم جوا إلى الخارج... إلى دانة"
وشعرت بيدها ترتجف... فقلت:
"فقط... لنعبر الحدود بسلام... ادعي يا رغد..."
أغمضت رغد عينيها وكأنها تلح بدعواتها القلبية... إلى الله... فأعدت رأسي إلى الجدار وأغمضت عينيّ ولهج قلبي بالدعاء...
بعد قليل تحدثت رغد قائلة:
"لا أكاد أصدق شيئا يا وليد... لا أستطيع أن أستوعب ما يجري... أهو كابوس..؟؟ أرجوك قل لي بأنه كابوس"
فتحت عينيّ... والتفت إليها... ثم قلت:
"أتمنى لو أنه كان كابوسا يا رغد... ليته كان كابوسا... آه"
سألت وهي غير مصدقة:
"لماذا...؟؟ سامر!! أنا لا أصدق... إنه لا يمكن أن يفعل شيئا... إنه هادئ ومسالم جدا... ماذا فعل؟؟ ولماذا؟؟"
حملقتُ في رغد... وتأوهت بمرارة... وكان صدري على وشك أن ينفث أدخنة كثيفة من الآهات المتألمة... لا بداية لها ولا نهاية, غير أن أبا حسام أقبل نحونا قادما من مجلس الضيوف... ثم سألني:
"كيف سارت الأمور؟؟"
فالتفت إليه وأجبته:
"كما ينبغي حتى الآن... المهم الحدود.."
سمعت رغد تقول بقلق:
"ماذا إن أمسكت بنا الشرطة؟؟ ماذا سيفعلون بنا؟؟"
عضضت على أسناني توترا... ونظرت إليها وأنا لا أجد جوابا... إلا أن أقول:
"لا سمح الله... سنكون في مأزق كبير جدا..."
وجوابي زاد من ارتجاف يدها حتى انتقلت خلجاتها إلى ذراعي وهزتني...
تقدم أبو حسام, وجلس على عتبات السلم المجاورة لنا... ثم قال:
"هل يجب أن... تأخذها معكما؟؟"
فجأة انفلتت أصابع رغد وانفتحت قبضتها عن ذراعي... وما كدت ألتفت إليها حتى انطلقت قائلة بانفعال:
"طبعا سأذهب معكما"
وكأنها تخشى أنني سأقول غير ذلك.
أبو حسام قال:
"تعرف يا وليد أن في الأمر مخاطرة... أخرجه أولا... ثم عد وخذها أو أفعل ما تشاء"
كنت لا أزال أحدق في رغد... والتي ما كاد أبو حسام ينهي جملته حتى هتفت وعينها تكادان تقفزان من محجريها من شدة تحديقها بي:
"سأذهب معكما"
فقلت مطمئنا وأنا أرى الهلع يجتاح وجه الفتاة:
"لا تقلقي. فأنا لا أفكر في تركك والسفر إلى خارج البلد"
وسمعت أبا حسام يقول:
"ولكن يا وليد... أليس من الآمن لها أن تبقى عند خالتها؟؟ فقط اضمن خروج سامر بالسلامة واطمئن على نجاته ثم تعال وفكر فيما ستفعله"
قلت:
"لا أستطيع السفر وترك صغيرتي هنا. لن يرتاح لي بال... لا ينقصني هم آخر..."
والتفت إلى رغد.. فإذا ببعض الارتياح يمحو آثار الهلع الأخيرة... لكنه كان ارتياحا قصيرا سرعان ما أربكه كما أربكني رنين هاتفي...
حبست أنفاسي ونظرت إلى شاشة الهاتف بهلع... متوقعا أن يكون هذا سامر... أو أحد الأشخاص الذين أتعامل معهم لتهريبه... أو حتى الشرطة... وعندما رأيت اسم (المزرعة) يظهر على الشاشة أطلقت نفسي المحبوس بقوة...
"نعم مرحبا"
"مرحبا يا وليد يا بني... كيف حالك؟"
لقد كان عمي إلياس. أجبت بعجل دون أن ألقي بالا عليه:
"بخير"
فسألني عن أحوال ابنة عمي وأحوال العمل وحتى أحوال الطقس, فرددت مقتضبا:
"بخير, أهناك شيء؟؟"
وأحس عمي من ردي ونبرتي أن لدي مشكلة. فسألني:
"ما الأمر يا بني؟؟"
فأجبت بضيق:
"آسف. أنا مشغول الآن"
فقال:
"حسنا. هلا اتصلت بي بعدها؟؟"
فجذبت نفسا ورددت:
"أنا مشغول جدا يا عم"
امتزج القلق بنبرة عمي وهو يسأل:
"أأنت على ما يرام؟؟"
فأجبت:
"أجل ولكن لدي مشاكل حرجة"
فقال:
"إذن... لن تأتي اليوم أيضا؟؟"
لقد كان يوم الخميس.. وكان يفترض بي السفر للمزرعة لحل مشكلتي مع أروى الأسبوع الماضي, وأجّلت السفر بسبب سفر أخي المفاجئ, واضطراري للبقاء مع رغد... والآن أرجئه إلى أجل غير مسمى بسبب الورطة الحرجة التي نمر بها...
قلت:
"لا يمكن..."
وأضفت:
"عمي... سأغيب لفترة غير محددة"
صمت عمي برهة,لا بد وانه تضايق من ردي... في حين أنه ما فتئ يتصل بي ويطلب حضوري من أجل أروى...
سمعته بعد البرهة يقول:
"ولكن أروى..."
ولم أسمع ما قاله بعدها... إذ أن هاتفي قد استقبل اتصال آخر... وفور إلقائي بنظرة سريعة على الشاشة أجبت المكالمة الثانية بلهفة:
"نعم سامر هل أنت بخير؟؟"
وقلبي ينزلق من صدري كما تنزلق قطرات العرق من جبيني...
رد سامر قائلا:
"نعم وليد... ألن تأتي؟ المكان موحش هنا جدا"
ازدردت ريقي ثم قلت:
"هل سمعت شيئا؟؟ هل حدث شيء؟؟"
فقال:
"رأيت أفعى من حولي... الشمس توشك على المغيب ولن أستطيع رؤية حتى يدي بعد قليل... اجلب لي مصباحا"
علقت:
"تقول أفعى؟؟"
فقال:
"نعم. ومن يدري؟ ربما يوجد عقارب أو ما شابه... والجو حار وخانق"
قلت:
"إذن الزم الطابق العلوي. ولو فوق السطح... أنا قادم إليك الآن"
فرد:
"نعم أرجوك"
قلت:
"توخ الحذر... يحفظك الله"
وأنهيت المكالمة وهببت واقفا فهبت رغد مستندة إلى عكازها ووقف أبو حسام تباعا... قلت:
"سأعود إليه"
فهتفت رغد:
"لا تتركني مجددا أرجوك"
فقلت مخاطبا إياها:
"سآخذ إليه بعض الطعام والماء ومصباحا يدويا... وأبقى لمؤانسته بعض الوقت فالمكان هناك شديد الوحشة"
قالت رغد:
"وأنا؟؟"
نقلت بصري بين رغد وأبي حسام وكدت أنطق بجملتي التالية إلا أن أبا حسام سبقني قائلا:
"دعني أذهب أنا هذه المرة... وابق أنت مع ابنة عمك"
وركزت نظري عليه يعلوني التردد... فقال:
"هات ما يحتاجه... سأبقى برفقته حتى تأتيان فجرا"
فقلت:
"و... لكن... يا عم..."
ولم أكن أعرف ما أريد قوله... وتولّى أبو حسام دفة الكلام وقال:
"قضاء ليلة كاملة وحيدا في مكان مهجور ومنقطع عن العالم فيما الشرطة تبحث عنك هو ليس بالأمر المتحمل... لا يجب أن نتركه بلا رفيق. سأبقى معه في انتظار مجيئكما صباحا"
وهكذا اتفقنا على أن يذهب أبو حسام حاملا الحاجيات إلى سامر ويبقى برفقته تلك الليلة...
كنت أعرف حتى الآن... أنها لن تكون مجرد ليلة عادية... بل ستكون... ليلة رعب وقلق وأرق متواصل... وأنني وإن كنت سأقضيها في منزلي جسديا, فسأقضيها مع سامر روحيا وقلبيا... وأنني لن أعرف للنوم طعما ولا للبال راحة وسأبقى أترقب ساعة بعد ساعة... أذان الفجر... الذي ستعقبه رحلة الفرار...
هكذا كنت أتوقع لتلك الليلة أن تكون... من أسوأ ليالي عمري... لكنني, ورغم كل توقعاتي وتوجساتي... وجدتها قد اجتاحت كل الحدود... وأتت أشد وأقسى من أن تخطر لي على بال... على الإطلاق...
ليلة الرعب الأعظم في حياتي تلك... الأفظع والأبشع والأشنع على الإطلاق... قضيتها... مع... وفقط مع... صغيرتي البريئة... شريكة المواقف الفظيعة... والحوادث المريعة...فتاتي الحبيبة رغد...