أي موعد عجيب كان موعدنا ذلك اليوم! كيف لم أتوقع بعد تلك السنوات أن تحجزي لي موعدا على ورق بين صفحتين, في مجلة لا اقرأها عادة .
إنّه قانون الحماقات، أليس كذلك؟ أن أشتري مصادفة مجلة لم أتعوّد شراءها، فقط لأقلب حياتي رأساً على عقبّ
وأين العجب؟
ألم تكوني امرأة من ورق. تحب وتكره على ورق. وتهجر وتعود على ورق. وتقتل وتحيي بجرّة قلم.
فكيف لا أرتبك وأنا أقرأك. وكيف لا تعود تلك الرعشة المكهربة لتسري في جسدي، وتزيد من خفقان قلبي، وكأنني كنت أمامك، ولست أمام صورة لك.
تساءلت كثيراً بعدها، وأنا أعود بين الحين والآخر لتلك الصورة، كيف عدتِ هكذا لتتربصي بي، أنا الذي تحاشيت كل الطرق المؤدية إليك؟
كيف عدت.. بعدما كاد الجرح أن يلتئم. وكاد القلب المؤثث بذكراك أن يفرغ منك شيئاً فشيئاً وأنت تجمعين حقائب الحبّ، وتمضين فجأة لتسكني قلباً آخر.
غادرت قلبي إذن..
كما يغادر سائح مدينة جاءها في زيارة سياحية منظمة. كلّ شيء موقوت فيها مسبقاً، حتى ساعة الرحيل، ومحجوز فيها مسبقاً، حتى المعالم السياحية التي سيزورها، واسم المسرحية التي سيشاهدها، وعنوان المحلات التي سيشتري منها هدايا للذكرى.
فهل كانت رحلتك مضجرة إلى هذا الحد؟
ها أنا أمام نسخة منك، مدهوش مرتبك، وكأنني أمامك.
تفاجئني تسريحتك الجديدة. شعرك القصير الذي كان شالاً يلف وحشة ليلي.. ماذا تراك فعلت به؟
أتوقف طويلاً عند عينيك. أبحث فيهما عن ذكرى هزيمتي الأولى أمامك.
ذات يوم.. لم يكن أجمل من عينيك سوى عينيك. فما أشقاني وما أسعدني بهما!
هل تغيرت عيناك أيضاً.. أم أن نظرتي هي التي تغيرت؟ أواصل البحث في وجهك عن بصمات جنوني السابق. أكاد لا أعرف شفاهك ولا ابتسامتك وحمرتك الجديدة.
كيف حدث يوماً.. أن وجدت فيك شبهاً بأمي. كيف تصورتك تلبسين ثوبها العنابي، وتعجنين بهذه الأيدي ذات الأظافر المطلية الطويلة، تلك الكسرة التي افتقدت مذاقها منذ سنين؟
أيّ جنون كان لك.. وأية حماقة!
هل غيّر الزواج حقاً ملامحك وضحكتك الطفولية، هل غيّر ذاكرتك أيضاً، ومذاق شفاهك وسمرتك الغجرية؟
وهل أنساك ذلك "النبي المفلس" الذي سرقوا منه الوصايا العشر وهو في طريقه إليك.. فجاءك بالوصية الحادية عشرة فقط.
ها أنت ذي أمامي، تلبسين ثوب الردّة. لقد اخترت طريقاً آخر. ولبست وجهاً آخر لم أعد أعرفه. وجهاً كذلك الذي نصادفه في المجلات والإعلانات، لتلك النساء الواجهة، المعدات مسبقاً لبيع شيء ما، قد يكون معجون أسنان، أو مرهماً ضد التجاعيد.
أم تراك لبست هذا القناع، فقط لتروّجي لبضاعة في شكل كتاب، أسميتها "منعطف النسيان" بضاعة قد تكون قصتي معك.. وذاكرة جرحي؟
وقد تكون آخر طريقه وجدتها لقتلي اليوم من جديد, دون أن تتركي بصماتك على عنقي .
يومها تذكرت حديثاً قديماً لنا . عندما سألتك مرة لماذا اخترتِ الرواية بالذات. وإذا بجوابك يدهشني .
قلت يومها بابتسامة لم أدرك نسبة الصدق فيها من نسبة التحايل:
█║S│█│Y║▌║R│║█
كان لا بد أن أضع شيئا من الترتيب داخلي.. وأتخلص من بعض الأثاث القديم . إنَّ أعماقنا أيضا في حاجة إلى نفض كأيّ بيت نسكنه ولا يمكن أن أبقي نوافذي مغلقه هكذا على أكثر من جثة ..
إننا نكتب الروايات لنقتل الأبطال لا غير, وننتهي من الأشخاص الذين أصبح وجودهم عبئاً على حياتنا. فكلما كتبنا عنهم فرغنا منهم... وامتلأنا بهواء نظيف ..." .
وأضفت بعد شيء من الصمت:
" في الحقيقة كل رواية ناجحة, هي جريمة ما نرتكبها تجاه ذاكرة ما. وربما تجاه شخص ما, على مرأى من الجميع بكاتم صوت. ووحده يدري أنَّ تلك الكلمة الرصاصة كانت موجّهة إليه
...
والروايات الفاشلة, ليست سوى جرائم فاشلة, لا بد أن تسحب من أصحابها رخصة حمل القلم, بحجة أنهم لا يحسنون استعمال الكلمات, وقد يقتلون خطأ بها أيّ احد .. بمن في ذلك أنفسهم , بعدما يكونون قد قتلوا القراء ... ضجراً !".
كيف لم تثر نزعتك الساديّة شكوكي يومها .. وكيف لم أتوقع كل جرائمك التي تلت ذلك اليوم, والتي جربت فيها أسلحتك الأخرى؟
لم أكن أتوقع يومها انك قد توجهين يوما رصاصك نحوي .
ولذا ضحكت لكلامك, وربما بدأ يومها انبهاري الآخر بك. فنحن لا نقاوم, في هذه الحالات , جنون الإعجاب بقاتلنا !
ورغم ذلك أبديت لك دهشتي . قلت :
_ كنت اعتقد أن الرواية طريقه الكاتب في أن يعيش مرة ثانيه قصه أحبها.. وطريقته في منح الخلود لمن أحب .
وكأنّ كلامي فاجأك فقلت وكأنك تكتشفين شيئا لم تحسبي له حسابا:
- وربما كان صحيحا أيضا, فنحن في النهاية لا نقتل سوى من أحببنا. ونمنحهم تعويضا عن ذلك خلودا أدبيا . إنها صفقه عادلة . أليس كذلك؟!
عادله ؟
من يناقش الطغاة في عدلهم أو ظلمهم؟ ومن يناقش نيرون يوم احرق روما حباً لها, وعشقاً لشهوة اللهب . وأنت, أما كنت مثله امرأة تحترف العشق والحرائق بالتساوي؟
أكنت لحظتها تتنبّأين بنهايتي القريبة، وتواسينني مسبقا على فجيعتي...
أم كنت تتلاعبين بالكلمات كعادتك, و وتتفرجين على وقعها عليّ, وتسعدين سرّاً باندهاشي الدائم أمامك, وانبهاري بقدرتك المذهلة, في خلق لغة على قياس تناقضك .
كل الاحتمالات كانت ممكنه ...
فربما كنت أنا ضحية روايتك هذه, والجثة التي حكمت عليها بالخلود, وقررت أن تحنطيها بالكلمات... كالعادة.
و ربما كنت ضحية وهمي فقط, ومراوغتك التي تشبه الصدق. فوحدك تعرفين في النهاية الجواب على كل تلك الأسئلة التي ظلت تطاردني, بعناد الذي يبحث عن الحقيقة دون جدوى .
متى كتبتِ ذلك الكتاب؟
أقبل زواجك أم بعده؟ أقبل رحيل زياد .. أم بعده؟ أكتبته عني .. أم كتبته عنه؟ أكتبته لتقتليني به.. أم لتحييه هو ؟
█║S│█│Y║▌║R│║█
لم لتنتهي منّا معاً، وتقتلينا معاً بكتاب واحد... كما تركتنا معاً من أجل رجل واحد ؟
عندما قرأت ذلك الخبر منذ شهرين,. لم أتوقع إطلاقاًً أن تعودي فجأة بذلك الحضور الملحِّ, ليصبح كتابك محور تفكيري, ودائرة مغلقه أدور فيها وحدي .
فلا كان ممكنا يومها بعد كل الذي حدث, أن اذهب للبحث عنه في المكتبات , لأشتري قصتي من بائع مقابل ورقه نقدية. ولا كان ممكنا أيضا أن أتجاهله وأواصل حياتي وكأنني لم اسمع به , وكأن أمره لا يعنيني تماما .
الم أكن متحرقا إلى قراءة بقية القصة؟
قصتك التي انتهت في غفلة مني , دون أن أعرف فصولها الأخيرة. تلك التي كنت شاهدها الغائب, بعدما كنت شاهدها الأول. أنا الذي كنت,. حسب قانون الحماقات نفسه. الشاهد والشهيد دائما في قصة لم يكن فيها من مكان سوى لبطل واحد .
ها هوذا كتابك أمامي.. لم يعد بإمكاني اليوم أن أقرأه. فتركته هنا على طاولتي مغلقا كلغز, يتربص بي كقنبلة موقوتة, أستعين بحضوره الصامت لتفجير منجم الكلمات داخلي ... واستفزاز الذاكرة .
كل شيء فيه يستفزني اليوم .. عنوانه الذي اخترته بمراوغه واضحة.. وابتسامتك التي تتجاهل حزني . ونظرتك المحايدة التي تعاملني وكأنني قارىء, لا يعرف الكثير عنك .
كل شيء.. حتى اسمك .
وربما كان اسمك الأكثر استفزازا لي, فهو مازال يقفز إلى الذاكرة قبل أن تقفز حروفه المميزة إلى العين .
اسمك الذي .. لا يُقرأ وإنما يُسمع كموسيقى تُعزف على آلة واحدة من أجل مستمع واحد.
كيف لي أن أقرأه بحياد, وهو فصل من قصة مدهشه كتبتها الصدفة, وكتبها قدرنا الذي تقاطع يوما؟
يقول تعليق على ظهر كتابك إنه حدث أدبي .
وأقول وأنا أضع عليه حزمة من الأوراق التي سودتها في لحظة هذيان..
" حان لك أن تكتب.. أو تصمت إلى الأبد أيها الرجل . فما أعجب ما يحدث هذه الأيام !"
وفجأة.. يحسم البرد الموقف, ويزحف ليل قسنطينة نحوي من نافذة للوحشة. فأعيد للقلم غطاءه, وانزلق بدوري تحت غطاء الوحدة .
مذ أدركت أن لكل مدينةٍ الليل الذي تستحق, الليل الذي يشبهها والذي وحده يفضحها, ويعري في العتمة ما تخفيه في النهار, قررت أن أتحاشى النظر ليلا من هذه النافذة .
كل المدن تمارس التعري ليلا دون علمها, وتفضح للغرباء أسرارها , حتى عندما لا تقول شيئا .
وحتى عندما توصد أبوابها.
ولأن المدن كالنساء, يحدث لبعضهن أن يجعلننا نستعجل قدوم الصباح. ولكن ...
"soirs, soirs.que de soirs pour un seul matin .."
كيف تذكرت هذا البيت للشاعر "هنري ميشو" ورحت اردده على نفسي بأكثر من لغة ..
"أمسيات .. أمسيات كم من مساء لصباح واحد "
كيف تذكرته, ومتى تراني حفظته؟ .. تراني كنت أتوقع منذ سنين أمسيات بائسة كهذه, لن يكون لها سوى صباح واحد ؟
أنقب بعض الشيء في ذاكرتي عن القصيدة التي اخذ منها هذا البيت, وإذا بعنوانها "الشيخوخة" ..
فيخيفني اكتشافي فجأة وكأنني أكتشف معه ملامح وجهي الجديدة. فهل تزحف الشيخوخة هكذا نحونا حقاً بليل طويل واحد. وبعتمة داخليه تجعلنا نتمهل في كل شيء, ونسير ببطء, دون اتجاه محدد؟
أيكون الملل والضياع والرتابة جزءا من مواصفات الشيخوخة أم من مواصفات هذه المدينة ؟
تراني أنا الذي ادخل الشخوخة.. أم ترى الوطن بأكمله هو الذي يدخل اليوم سن اليأس الجماعي؟
أليس هو الذي يملك هذه القدرة الخارقة, على جعلنا نكبر ونهرم في بضعة اشهر, وأحيانا في بضعة أسابيع فقط ؟
قبل اليوم لم أكن اشعر بثقل السنين, كان حبّك شبابي, وكان مرسمي طاقتي الشمسية التي لا تنضب, وكانت باريس مدينه أنيقة, يخجل الواحد أن يهمل مظهره في حضرتها . ولكنهم طاردوني حتى مربع غربتي, وأطفأوا شعلة جنوني ... وجاؤوا بي حتى هنا .
الآن نحن نقف جميعا على بركان الوطن الذي ينفجر , ولم يعد في وسعنا , إلا أن نتوحد مع الجمر المتطاير من فوهته, وننسى نارنا الصغيرة... اليوم لا شيء يستحق كل تلك الأناقة واللياقة. الوطن نفسه أصبح لا يخجل أن يبدو أمامنا في وضع غير لائق !
لا أصعب من أن تبدأ الكتابة, في العمر الذي يكون فيه الآخرون قد انتهوا من قول كل شيء.
الكتابة ما بعد الخمسين لأول مرة ... شيء شهواني وجنوني شبيه بعودة المراهقة.
شيء مثير وأحمق , شبيه بعلاقة حب بين رجل في سن اليأس, وريشة حبر بكر .
الأول مرتبك وعلى عجل... والثانية عذراء لا يرويها حبر العالم !
سأعتبر إذن ما كتبته حتى الآن, مجرد استعداد للكتابة
█║S│█│Y║▌║R│║█
فقط, وفائض شهوة ... لهذه الأوراق التي حملت منذ سنين بملئها .
ربما غدا ابدأ الكتابة حقا .
أحب دائما أن ترتبط الأشياء الهامة في حياتي بتاريخ ما .... يكون غمزة لذاكره أخرى .
أغرتني هذه الفكرة من جديد, وأنا استمع إلى الأخبار هذا المساء واكتشف، أنا الذي فقدت علاقتي بالزمن, أن غدا سيكون أول نوفمبر ... فهل يمكن لي ألا أختار تاريخا كهذا, لأبدأ به هذا الكتاب ؟
غدا ستكون قد مرت 34 سنه على انطلاق الرصاصة الأولى لحرب التحرير, ويكون قد مر على وجودي هنا ثلاثة أسابيع, ومثل ذلك من الزمن على سقوط آخر دفعه من الشهداء ...
كان احدهم ذلك الذي حضرت لأشيّعه بنفسي وادفنه هنا.
بين أول رصاصه , وآخر رصاصه, تغيرت الصدور, تغيرت الأهداف .. وتغير الوطن .
ولذا سيكون الغد يوما للحزن مدفوع الأجر مسبقا .
لن يكون هناك من استعراض عسكري, ولا من استقبالات, ولا من تبادل تهاني رسميه ....
سيكتفون بتبادل التهم ... ونكتفي بزيارة المقابر .
غدا لن ازور ذلك القبر . لا أريد أن أتقاسم حزني مع الوطن.
أفضل تواطؤ الورق, وكبرياء صمته .
كل شيء يستفزني الليلة.. واشعر أنني قد اكتب أخيرا شيئا مدهشا, لن أمزقه كالعادة..
فما أوجع هذه الصدفة التي تعود بي , بعد كل هذه السنوات إلى هنا, للمكان نفسه , لأجد جثة من أحبهم في انتظاري, بتوقيت الذاكرة الأولى .
يستيقظ الماضي الليلة داخلي ... مربكا. يستدرجني إلى دهاليز الذاكرة .
فأحاول أن أقاومه, ولكن, هل يمكن لي أن أقاوم ذاكرتي هذا المساء ؟
أغلق باب غرفتي واشرع النافذة ..
أحاول أن أرى شيئا آخر غير نفسي. وإذا النافذة تطل علي...
تمتد أمامي غابات الغاز والبلوط, وتزحف نحوي قسنطينه ملتحفه ملاءتها القديمة, وكل تلك الأدغال والجروف والممرات السرية التي كنت يوما اعرفها والتي كانت تحيط بهذه المدينة كحزام أمان, فتوصلك مسالكها المتشعبة, وغاباتها الكثيفة, إلى القواعد السرية للمجاهدين, وكأنها تشرح لك شجرة بعد شجره, ومغارة بعد أخرى .
إنّ كل الطرق في هذه المدينة العربية العريقة, تؤدي إلى الصمود.
وإنّ كل الغابات والصخور هنا قد سبقتك في الانخراط في صفوف الثورة .
هنالك مدن لا تختار قدرها ...
فقد حكم عليها التاريخ, كما حكمت عليها الجغرافيا, ألا تستسلم ...
ولذا لا يملك أبناؤها الخيار دائما .
فهل عجبٌ أن أشبه هذه المدينة حد التطرف ؟
ذات يوم منذ أكثر من ثلاثين سنه سلكت هذه الطرق, واخترت أن تكون تلك الجبال بيتي ومدرستي السرية التي أتعلم فيها المادة الوحيدة الممنوعة من التدريس. وكنت ادري انه ليس من بين خريجيها من دفة ثالثه, وان قدري سيكون مختصرا بين المساحة الفاصلة بين الحرية .. والموت .
ذلك الموت الذي اخترنا له اسما آخر أكثر إغراءً، لنذهب دون خوف وربما بشهوة سريه, وكأننا نذهب لشيء آخر غير حتفنا .
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)