عند عتبة ذلكالباب الزجاجي، أتأملك تندمجين بخطى المارة وتختفين مرة أخرى كنجمٍ هارب.. و أناأتسال بشيء من الذهول.. ترانا التقينا حقاً؟!



***



التقينا إذن..
الذين قالوا "الجبال وحدها لا تلتقي".. أخطأوا.
والذين بنوا بينها جسوراً، لتتصافح دون أن تنحني أو تتنازل عن شموخها.. لا يفهمون شيئاً في قوانين الطبيعة.
الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل و الهزات الأرضية الكبرى، وعندما لا تتصافح، وإنما تتحول إلى تراب واحد.
التقينا إذن..

وحدثت الهزة الأرضية التي لم تك متوقّعة، فقد كان أحدنا بركاناً، وكنت أنا الضحية.

يا امرأة تحترف الحرائق. ويا جبلاً بركانياً جرف كلّ شيء في طريقه، وأحرق آخر ما تمسَّكت به.

من أين أتيت بكل تلك الأمواج المحرقة من النار؟ وكيف لم أحذر تربتك المحمومة، كشفتيْ عاشقة غجرية.

كيف لم أحذر بساطتك وتواضعك الكاذب، وأتذكّر درساً قديماً في الجغرافية: "الجبال البركانية لا قمم لها؛ إنها جبال في تواضع هضبة.." فهل يمكن للهضاب أن تفعل كلّ هذا؟

كلّ الأمثلة الشعبية تحذّرنا من ذلك النهر المسالم الذي يخدعنا هدوؤه فنعبره، وإذا به يبتلعنا. وذلك العود الصغير الذي لا نحتاط له.. وإذا به يعمينا.

أكثر من مثل يقول لن بأكثر من لهجة "يؤخذ الحذر من مأمنه". ولكن كلّ تحذيراتها لن تمنعنا من ارتكاب المزيد من الحماقات، فلا منطق للعشق خارج الحماقات والجنون. وكلما ازددنا عشقاً كبرت حماقاتنا.

ألم يقل (برنارد شو) "تعرف أنك عاشق عندما تبدأ في التصرف ضد مصلحتك الشخصية!"

وكانت حماقاتي الأولى، أنني تصرفت معك مثل سائح يزور صقلّية لأول مرة، فيركض نحو بركان (إتنا)، ويصلِّي ليستيقظ البركان النائم بعين واحدة من نومه، ويغرق الجزيرة ناراً، على مرأى من السواح المحملين بالآلات الفوتوغرافية.. والدهشة.

وتشهد جثث السواح التي تحولت إلى تراب أسود أنه لا أجمل من بركان يتثاءب، ويقذف ما في جوفه من نيران وأحجار، ويبتلع المساحات الشاسعة في بضع لحظات.

وأنّ المتفرج عليه يصاب دائماً بجاذبية مغناطيسية ما.. بشيء شبيه بشهوة اللهب، يشدّه لتلك السيول النارية، فيظل منبهراً أمامها. يحاول أن يتذكّر في ذهول كلّ ما قرأه عن قيام الساعة، وينسى بحماقة عاشق، أنه يشهد ساعتها.. قيام ساعته!

يشهد الدمار حولي اليوم، أنني أحببتك حتى الهلاك؛ وأشتهيك.. حتى الاحتراق الأخير. وصدَّقت جاك بريل عندما قال "هناك أراض محروقة تمنحك من القمح ما لا يمنحك نيسان في أوج عطائه". وراهنت على ربيع هذا العمر القاحل. ونيسان هذه السنوات العجاف.

يا بركاناً جرف من حولي كلّ شيء.. ألم يكن جنوناً أن أزايد على جنون السواح والعشاق، وكلّ من أحبوك قبلي.. فأنقل بيتي عند سفحك، وأضع ذاكرتي عند أقدام براكينك، وأجلس بعدها وسط الحرائق.. لأرسمك.

ألم يكن جنوناً.. أن أرفض الاستعانة بنشرات الأرصاد الجوية، والكوارث الطبيعية، وأقنع نفسي أنني أعرف عنك أكثر مما يعرفون. نسيت وقتها أن المنطق ينتهي حيث يبدأ الحبّ، وأنّ ما أعرفه عنك لا علاقة له بالمنطق ولا بالمعرفة.

التقت الجبال إذن.. والتقينا.
ربع قرن من الصفحات الفارغة البيضاء التي لم تمتلئ بك.
ربع قرن من الأيام المتشابهة التي أنفقتها في انتظارك.
ربع قرن على أوَّل لقاء بين رجل كان أنا، وطفلة تلعب على ركبتي كانت أنت.
ربع قرن على قبلة وضعتها على خدك الطفولي، نيابة عن والد لم يرك.

أنا الرجل المعطوب الذي ترك في المعارك المنسيّة ذراعه، وفي المجن المغلقة قلبه..

لم أكن أتوقع أن تكوني المعركة التي سأترك عليها جثّتي، والمدينة التي سأنفق فيها ذاكرتي.. واللوحة البيضاء التي ستستقيل أمامها فرشاتي، لتبقى عذراء.. وجبّارة مثلك. تحمل في لونها كلّ الأضداد.

كيف حدث كلّ هذا؟ لم أعد أدري.

كان الزمن يركض بنا من موعد إلى آخر، والحبّ ينقلنا من شهقة إلى أخرى، وكنت أستسلم لحبك دون جدل.
كان حبك قدري.. وربما كان حتفي، فهل من قوة تقف في وجه القدر؟

كان لقاؤنا يتكرر كل يوم تقريباً، كنّا نلتقي في تلك القاعة نفسها في ساعات مختلفة من النهار، فقد شاءت المصادفات أن يصادف معرضي عطلة الربيع المدرسية. وكنت تملكين ما يكفي من الوقت لزيارتي كلّ يوم. فلم يكن لك أيّ دوام جامعي.

كان عليك فقط أن تتحايلي على الآخرين بعض الشيء،