بعدها أصبحت أخافصمته الطويل، وانقطاع رسائله. فقد كان يحمل لي احتمال إشعار بشيء آخر.

هذهالمرة، كان يريد أن يخبرني أنه قد يحضر إلى باريس في بداية أيلول. وأنه ينتظرجواباً سريعاً مني ليتأكد من وجودي في باريس في هذه الفترة.

فاجأتنيرسالته.. وأسعدتني وأدهشتني.

ذهب تفكيري إليك وقلت "طويل عمر هذا الرجل.. ماكدت أذكره معكِ حتى حضر". ثم تساءلت تراك قرأت أشعاره؟ وهل أعجبتك؟ وماذا سيكون ردفعلك إذا قلت لك إنه سيحضر إلى باريس، أنت التي خفت أن يكون قد مات، وأبديتاهتماماَ بقصته؟

كان الصيف ينسحب تدريجياً. وكنت أستعيد توازني تدريجياًكذلك.

لقد أنقذتني تلك اللوحات من الانهيار. كان لا بد أن أرسمها لأخرج منتلك المطبات الجنونية التي وضعت عليها قدميّ معك.

كنت قدفقدت كثيراً منوزني. ولكن لم يكن ذلك يعنيني. أو ربما لم أكن وقتها لأنتبه له، بعدما أصبحت أنظرإلى اللوحات، وأنسى أن أنظر إلى نفسي في مرآة.

كنت أعتقد أن الذي خسرته منوزن في أيام، هو الذي ربحته من مجد إلى الأبد. ولذا كان يحلو لي أن أتأمل نزيفيوجنوني معلّقاً أمامي: إحدى عشرة لوحة لم تعد تكفيها جدران البيت.

وربما جاءتعلّقي بها، كذلك، لكوني كنت أدري وأنا أضع فرشاتي لآخر مرة وأنا أنتهي منها، أنهقد تمر عدة أشهر قبل أن أشعر برغبة جديدة في الرسم.

فقد كنت فرغت مرة واحدةمن ذاكرتي.. وارتحت.
كنا على أبواب أيلول. وكنت سعيدا أو ربما في حالة ترقّبللسعادة.

ستعودين أخيراً.. كنت أنتظر الخريف كما لم أنتظره من قبل. كانتالثياب الشتوية المعروضة في الواجهات تعلن عودتك. اللوازم المدرسية التي تملأ رفوفالمحلات، تعلن عودتك.

والريح، والسماء البرتقالية.. والتقلبات الجوية.. كلهاكانت تحمل حقائبك.

ستعودين..

مع النوء الخريفي، مع الأشجار المحمرة،مع المحافظ المدرسية.

ستعودين..

مع الأطفال العائدين إلى المدارس، معزحمة السيارات، مع مواسم الإضرابات، مع عودة باريس إلى ضوضائها.

مع الحزنالغامض.. مع المطر.

مع بدايات الشتاء.. مع نهايات الجنون.

ستعودينلي.. يا معطفي الشتوي.. يا طمأنينة العمر المتعب.. يا أحطاب اللياليالثلجية.

أكنت أحلم؟. كيف نسيت تلك المقولة الرائعة لأندريه جيد "لا تهيئأفراحك!" كيف نسيت نصيحة كهذه؟

كنتِ في الواقع امرأة زوبعة. تأتي وترحل وسطالأعاصير والدمار. كنتِ معطفاً لغيري وبرداً لي.

كنتِ الأحطاب التي أحرقتنيبدل أن تدفئني.

كنت أنتِ.

وكنت أنتظر أيلول إذن..

أنتظر عودتكلنتحدث أخيراً بصدق مطلق. ماذا تريدين مني بالتحديد. ومن أكون أنا بالنسبة إليك.. وما اسم قصتنا هذه؟

أخطأت مرة أخرى.

لم يكن الوقت للسؤال ولا للجواب. كان وقتا لجنون آخر.

كنت أنتظر الأمان. وجئت، زوبعة صادفت زوبعة أخرى، اسمهازياد..

وكانت الأعاصير.







لم يتغير زياد منذ آخر مرة رأيته فيها، منذ خمس سنوات بباريس. ربما أصبح فقط أكثر امتلاءً، أكثر رجولة مع العمر، من ذلك الوقت الذي زارني فيه لأول مرة في الجزائر سنة 1972 في مكتبي. يوم كان شاباً فارعاً بوزن أقل، وربما بهموم أقل أيضاً.

مازال شعره مرتباً بفوضوية مهذبة. وقميصه المتمرد الذي لم يتعود يوماً على ربطة عنق، مفتوحاً دائماً بزرٍ أو زرين. وصوته المميز دفئاً وحزناً، يوهمك أنه يقرأ شعراً، حتى عندما يقول أشياء عادية. فيبدو وكأنه شاعر أضاع طريقه وأنه يوجد خطأ حيث هو.

في كل مدينة قابلته فيها، شعرت أنه لم يصل بعد إلى وجهته النهائية، وأنه يعيش على أهبة سفر.

كان حتى عندما يجلس على كرسي يبدو جالساً على حقائبه. لم يكن يوماً مرتاحاً حيث كان، وكأن المدن التي يسكنها محطات ينتظر فيها قطاراً لا يدري متى يأتي.

ها هوذا.. كما تركته، محاطاً بأشيائه الصغيرة ومحملاً بالذاكرة، ومرتدياً سروال الجينز نفسه، كأنه هويته الأخرى.

كان زياد يشبه المدن التي مر بها. فيه شيء من غزّة، من عمان.. ومن بيروت وموسكو.. ومن الجزائر وأثينا.

كان يشبه كلّ من أحب. فيه شيء من بوشكين، من السيّاب.. من الحلاج، من ميشيما.. من غسان كنفاني.. ومن لوركا وتيودوراكيس.

ولأنني كثيراً ما قاسمت زياد ذاكرته، حدث أن أحببت كل ما أحب ومن أحب، دون أن أدري.

كنت في حاجة إليه في تلك الأيام.

شعرت وأنا أستقبله، أنني افتقدته طوال هذه السنوات دون أن أدري، وأنني بعده لم ألتقِ بشخصٍ يمكن أن أدعوه صديقاً.

ها هو زياد. باعدتنا الأيام وباعدتنا القارات. ووحدها قناعاتنا القديمة ظلّت تجمعنا.

ولذلك لم تزل في القلب مكانته الأولى. فلم يحدث لزياد أن فقد احترامي لسبب أو لآخر خلال كل هذه السنوات.

أليس هذا أمراً نادراً هذه الأيام؟

جاء زياد..

واستيقظ البيت الذي ظلّ مغلقاً لشهرين في وجه الآخرين،حتى في وجه كاترين نفسها.

راح زياد يملأه بحضوره، بأشيائه وفوضاه، بضحكته العالية أحياناً، وبحضوره السري الغامض دائماً. فأكاد أشكره فقط، لأنه أشرع نوافذ هذا البيت، واحتل غرفة من غرفه.. وربما احتلّه كله.

عُدنا تلقائياً إلى عاداتنا القديمة التي تعود إلى خمس سنوات، عندما زارني لأول مرة في باريس.

رحنا من جديد إلى المطاعم نفسها تقريباً. جلسنا وتحدثنا في الموضوعات نفسها تقريباً، فلا شي تغيّر منذ ذلك الحين. لم يسقط نظامٌ عربي واحد من تلك الأنظمة التي كان زياد يراهن على سقوطها منذ عرفته. لم يحدث أيّ زلزال سياسي هنا أو هناك، ليغيّر خريطة هذه الأمة.

وحده لبنان أصبح وطناً للزلازل والرمال المتحركة. ولكن من تراه سيبتلع في النهاية؟

كان هذا هو السؤال الذي حاولنا أن نتنبأ به بأكثر من جواب. وكان النقاش يصبّ في النهاية دائماً في القضية الفلسطينية، وفي خلافات فصائلها، والمعارك التي حدثت بين عناصرها في لبنان، والتصفيات الجسدية التي راح ضحيتها أكثر من اسم فلسطيني في الخارج.

كان حديث زياد ينتهي كالعادة بشتم تلك الأنظمة التي تشتري مجدها بالدم الفلسطيني، تحت أسماء مستعارة كالرفض والصمود.. والمواجهة. فينعتها في فورة غضبه بكل النعوت الشرقية البذيئة، التي أضحك لها وأنا أكتشف بعضها لأول مرة.

وأكتشف أيضاً أن لكل ثوّار قاموسهم الخاص، الذي تفرزه ثورتهم ومعايشتهم الخاصة، فأستعيد بحنين، مفردات أخرى لزمنٍ آخر وثورة أخرى.