ربما كان هذاالأسبوع هو أجمل الأيام التي قضيتها مع زياد، والتي حاولت بعد ذلك ولعدة سنوات ألاأذكر غيرها، حتى لا أشعر بالمرارة ولا بالحسرة على كل ما عشته بعدها عن خطأ أو عنصواب.

كل ما مرّ بي من ألم.. من غيرة ومن صدمات، وأنا أضعكما ذات يوم هكذاوجهاً لوجه، دون أية مقدمات أو توضيحات خاصة..

له قلت: "سنتغدّى غدا معصديقة كاتبة.. لا بد أن أعرفك عليها..".

لم يبد عليه اهتمام خاص بكلامي. قالعلى طريقته الخاصة وهو يعود لقراءة جريدته: " أنا أكره النساء عندما يحاولن ممارسةالأدب تعويضاً عن ممارسات أخرى.. أتمنى ألا تكون صديقتك هذه عانساً، أو امرأة في سناليأس.. فأنا لا صبر لي على هذا النوع من النساء!"

لم أجبه. رحت أتعمق فيفكرته.. وأبتسم!

على الهاتف قلت لك: "تعالي غداً للغداء في ذلك المطعمنفسه.. فأنا أحمل لك مفاجأة لا تتوقعينها.."

قلتِ:

"
إنها لوحتي.. أليس كذلك؟"

أجبتك بعد شيء من التردد: "لا.. إنها شاعر!"


***


التقيتما إذن..
ويمكن أن أقول هذه المرة أيضاً:

"الذين قالوا وحدها الجبال لا تلتقي أخطأوا. والذين بنوا بينها جسوراً لتتصافح دون أن تنحني، لا يفهمون شيئاً في قوانين الطبيعة.
الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل والهزات الأرضية الكبرى. وعندها لا تتصافح، بل تتحول إلى تراب واحد".

التقيتما إذن.. وكان كلاكما بركاناً.. فأين العجب، إذا كنت هذه المرة أيضاً أنا الضحية!

مازلت أذكر ذلك اليوم..

وصلتِ متأخرة بعض الشيء، وكنت مع زياد قد طلبنا مشروباً في انتظارك..

ودخلتِ..

كان زياد يحدّثني عن شيء ما عندما صمت فجأة، وتوقفت عيناه عليك وهو يراك تجتازين باب المطعم.

فاستدرت بدوري نحو الباب.. ورأيتك تتقدّمين نحونا في ثوبٍ أخضر.. أنيقة، مغرية، كما لم تكوني يوماً.
وقف زياد ليسلّم عليك وأنت تقتربين منّا. وبقيت أنا من دهشتي جالساً. كان من الواضح أنه لم يتوقّعك هكذا.

ها أنت ذي أخيراً..

أحسست أن شيئاً ما يسمّرني إلى ذلك الكرسي، وكأن تعب كلّ الأسابيع الماضية، وكلّ عذابي بعدك قد نزل عليّ فجأة، ومنع رجليّ من الوقوف.

ها أنت ذي أخيراً.. أهذه أنت حقاً!؟

وقبل أن أفكر في تعريفكما ببعض، كنتِ قد قدّمت نفسك لزياد، وكان هو بدوره على وشك أن يعرّفك بنفسه عندما قاطعته قائلة:

- دعني أحزر.. ألست زياد خليل؟

ووقف زياد مدهوشاً قبل أن يسألك:

- كيف عرفتِ؟

استدرتِ نحوي عندئذٍ وكأنك تكتشفين وجودي هناك، فوضعت قبلتين على خدّي وقلت وأنت توجّهين الحديث إليه:

- أنت تملك شبكة إعلان قوية في شخص هذا الرجل..

ثم سألتني وأنت تتفحّصين ملامحي:

- لقد تغيرت بعض الشيء.. ما الذي حدث لك في هذه العطلة؟

تدخّل زياد ليقول ساخراً:

- لقد رسم إحدى عشرة لوحة في شهر ونصف.. إنه لم يفعل شيئاً غير هذا. نسي حتى أن يأكل ونسي أن ينام.. أعتقد أنني لو لم أحضر إلى باريس لمات هذا الرجل الذي أمامك جوعاً وإعياءً وسط لوحاته.. كما لم يعد الرسامون يموتون اليوم!

وبدل أن تسأليني سألت زياد بشيء من الذعر، وكأنك كنت تخافين أن أكون قد رسمت إحدى عشرة نسخة من صورتك:

- ماذا رسم؟

أجابك زياد بابتسامة وجّهها إليّ:

- لقد رسم قسنطينة.. لا شيء سوى قسنطينة.. وكثيراً من الجسور..

صحتِ وأنت تسحبين كرسياً وتجلسين:

- لا.. أرجوكم لا تحدثوني عن قسنطينة مرة أخرى.. إنني عائدة تواً منها. إنها مدينة لا تطاق.. إنها الوصفة المثالية لكي ينتحر المرء أو يصبح مجنوناً!

ثم وجّهتِ كلامك إليّ:

- متى تشفى أنت من هذه المدينة؟

كان يمكن أن أقول لك لو كنا على انفراد "يوم أشفى منك!"

ولكن زياد أجاب ربما نيابة عني:

- نحن لا نشفى من ذاكرتنا يا آنستي.. ولهذا نحن نرسم.. ولهذا نحن نكتب.. ولهذا يموت بعضنا أيضاً..

رائع زياد.. كان مدهشاً وشاعراً في كل شيء.

كان يقول شعراً دون جهد. ويحب ويكره دون جهد. ويغري دون جهد.

كنت أنظر إليه وهو يسألك "أنتِ جزائرية إذن؟". ولا أستمع لما تقولينه له.

بدا لي في تلك اللحظة أن الحديث كان يدور بينكما فقط، وأنني لم أقل كلمة واحدة منذ قدومك.

كنت طرفاً فقط في تلك الجلسة الغريبة للقدر.

كنت أنظر إليك.. وأبحث في تفاصيلك عن شرح لما حلّ بي.

سألتك يوماً: "ما هو أجمل شيء فيك؟"

ابتسمت بإيماء غامض ولم تجيبي.

لم تكوني الأجمل، كنت الأشهى. فهل هناك من تفسيرٍ للرغبة!

ربما كان زياد يشبهك أيضاً..

اكتشفت ذلك مع مرور الأيام، وأنا أنظر إليكما وأنتما تتحدثان أمامي كلّ مرة.

كان أيضاً شي من السحر الغامض فيه.. من الجاذبية التي لا علاقة لها بالجمال. وكانت فكرة تشابهكما أو تطابقكما هذه تزعجني.. بل وأزعجتني ربما من اللحظة الأولى. عندما نبّهتني إلى تدهور صحتي وشحوب لوني، بينما كنت أراكما أمامي في صحّة وتألق مثير للغيرة.

ترى بدأت الغيرة تتسلل إلي اللحظة.. وأنا أكتشف أنني لست سوى شبح بينكما، ووجه حشر خطأ في لوحتكما الثنائية؟

لم تَتَنَبّهي يومها أنني وصلت إلى تلك الحالة بسببك. ولذا لم تعتذري لي، بل وأكثر من ذلك كنت تتحدثين قليلاً إليّ.. وكثيراً إليه.

قلتِ له:

- لقد أحببت ديوانك الأخير "مشاريع للحب القادم"؛ لقد ساعدني شيئاً ما على تحمل هذه العطلة البائسة. هنالك مقاطع منه حفظتها لفرط ما أعدت قراءتها..

ورحت تقرأين أمام دهشة زياد:

"تربّص بي الحزن لا تتركيني لحزن المساء
سأرحل سيدتي
أشرعي اليوم بابك قبل البكاء