كان ينساق إلى حبك دون تفكير ودون شعوربالذنب.

لم يكن لأحدنا وعي كامل لينتبه إلى أن العشق اسم ثنائي لا مكان فيهلطرف ثالث. ولذا عندما حوّلناه إلى مثلث، ابتلعنا كما يبتلع مثلث "برمودا" كلالبواخر التي تعبره خطأ؟

كيف وصلنا إلى هنا.

أيّ ريح حملتنا إلى هذهالديار الغريبة عن طقوسنا؟ أيّ قدر بعثرنا ثم أعاد جمع أقدارنا المتناقضة المبعثرة،وأعمارنا وتواريخنا المتفاوتة، ومعاركنا وأحلامنا المتباعدة، وأوقفنا هنا، أطرافاًفي معركة نخوضها مع بعضنا ضد بعضنا دون وعي؟

بعد أشهر قرأت بين أوراق زيادخاطرة، أدهشتني بتطابقها مع أحاسيسي هذه، كتب فيها:

"
عشقنا جولة أخرىخسرناها في زمن المعارك الفاشلة، فأيّ الهزائم أكثر إيلاماً إذن؟
مقدراً كان كلّالذي حصل.
شعبين كنا لأرض واحدة.
ونبيين لمدينة واحدة.
وها نحن قلبانلامرأة واحدة.
كل شيء كان معدّاً للألم. (هل يسعنا العالم معاً؟).
ها نحننتقاسم كبرياءنا رغيفاً عربياً مستديراً كجرحنا. رصاصة مستديرة الرأس.. أطلقوها علىمربع أحمر، يتدرب فيه القدر على إطلاق الرصاص على دوائر سوداء تصغر تدريجياًكالدوّار.. حتى تصل مركز الموت..
حيث الرصاصة لا تخطئ.
حيث الرصاصة لاترحم.
وحيث سيكون قلب أحدنا.."

كان زياد في تلك الأمسيات الشتائية، يسهرأحياناً في غرفته ليكتب. وكنت أرى في ذلك علامة لا تخطئ..

لا بد أن يكونعاشقاً ليعود إلى الكتابة بهذه الشراهة، هو الذي لم يكتب شيئاً منذ عدةسنوات.

كنت أبتسم أحياناً، وصوت موسيقى خافتة ينبعث من غرفته حتى ساعةمتأخرة من الليل.

كأن زياد كان يريد أن يملأ رئتيه بالحياة، أو كأنه لم يكنيثق بها تماماً. ويخاف إن هو نام أن تسرق منه شياً.

كان يستمع دائماً إلىالأشرطة نفسها التي لا أدري من أين أحضرها، والتي لم أكن مولعاً بها أنا على وجهالتحديد، كالموسيقى الكلاسيكية.. وشريط لفيفالدي وآخر لتيودوراكيس.

وكنتأقول لنفسي وأنا أقضي أحياناً سهرة كاملة بمفردي أمام التلفزيون:

"
إنه يعيشجنونه أيضاً. هنالك جنون الصيف.. وهنالك جنون الشتاء. انتهى جنوني وبدأجنونه!".

ولكن.. كيف يمكن لي أن أعرف درجات جنونه هذا؟ من أين آتي بمقياسللزلزال، أعرف منه ما يحدث في أعماقه بالتحديد؟

كيف يمكن ذلك، ونوباتهكتابات سرية لا يدري بها غير الورق. بينما يعلّق جنوني على الجدران إحدى عشرة لوحةتشهد ضدي.. وتفضحني.

فهل انتهى جنوني حقاً؟

لا.. أصبح فقط جنوناًداخلياً لا علاقة له بالإبداع. أصبح أحاسيس مرضيّة أبذّرها هباءً في الغيرةواليأس.

كان إذا غيّر زياد بدلته، شعرت أنه يتوقع قدومك، وإذا جلس ليكتب فهويكتب لك، وإذا ترك البيت فهو على موعد معك..

نسيت في زحمة غيرتي، حتىالأسباب التي جاء من أجلها زياد إلى باريس، ولقاءاته.. وهواجسه الأخرى.

..
ثم جاء ذلك السفر الذي كدت أنساه.

ربما كانت تلك أكثر تجاربي ألماً علىالإطلاق. فقد كان عليّ أن أترككما عشرة أيام كاملة معاً في مدينة واحدة. وربماغالباً في بيتٍ واحد هو بيتي.. نظراً لصعوبة لقائكما خارج البيت.

سافرتيومها وأنا أحاول أن أقنع نفسي أنها فرصة لنا جميعاً، لنضع شيئاً من الترتيب فيعلاقتنا، وأنه كان لابد لأحدنا أن يتغيّب لتحسم هذه الأمور الغامضة بيننانهائياً.

طبعاً، لم أكن مقتنعاً في أعماقي بهذا المنطق، أو على الأقل بهذاالقدر العنيد الذي جعل القرعة تقع عليّ.

فمن الواضح أن القدر كان منحازاًلكما. وكان ذلك يؤلمني كثيراً. ولكن ما الذي كان أشدّ إيلاماً لي:

أن أدريأنك مع رجل آخر، أم أن يكون ذلك الرجل هو زياد لا سواه، أم أن تتم خيانتي في بيتيفي غرف لم أتمتع بك فيها؟

إلى أيّ حدّ ستذهبين معه.. وإلى أي حدّ سيذهب هومعك؟ وهل ستوقفه ذاكرتنا المشتركة.. وكل ما جمعنا يوماً من قيم؟

قلت لكِالكثير عن زياد.. ولم أقل لك الأهم.

كان زياد يوماً خليّتي السرية، أوراقانتمائي السرية.

كان هزائمي وانتصاراتي، حججي وقناعاتي، كان عمراً سرّياًلعمرٍ آخر. فهل سيخونني زياد؟

كنت قد بدأت أعتب عليه، وربما أحقد عليهمسبقاً.

نسيت في جنون غيرتي، أنني لم أفعل شيئاً غير ذلك معك، أنا الذيتنكّرت أيضاً لسي الطاهر، لرجلٍ كان يوماً قائدي، وكان يوماً صديقي.. لرجل أودعكعندي وصيّة ذات يوم ومات شهيداً.

من منا الأكثر خيانة إذن؟

هو الذيقد يضع أحلامه ورغباته حيّز التنفيذ.. أم أنا الذي لم أنفّذها لأنني لم أجد فرصةلذلك؟

أنا الذي أنام وأصحو معك من شهور، وأغتصبك حتّى في غفوتي.. أم هو الذيستكونين له بإرادتك؟





هنالك مدن كالنساء، تهزمك أسماؤها مسبقاً. تغريك وتربكك، تملأك وتفرغك، وتجرّدك ذاكرتها من كل مشاريعك، ليصبح الحب كل برنامجك.

هنالك مدن.. لم تخلق لتزورها بمفردك. لتتجول وتنام وتقوم فيها.. وتتناول فطور الصباح وحيداً.

هنالك مدن جميلة كذكرى، قريبة كدمعة، موجعة كحسرة..

هنالك مدن.. كم تشبهك!

فهل يمكن أن أنساك في مدينة اسمها.. غرناطة؟

كان حبّك يأتي مع المنازل البيضاء الواطئة، بسقوفها القرميدية الحمراء.. مع عرائش العنب.. مع أشجار الياسمين الثقيلة.. مع الجداول التي تعبر غرناطة.. مع المياه.. مع الشمس.. مع ذاكرة العرب.

كان حبك يأتي مع العطور والأصوات والوجوه، مع سمرة الأندلسيات وشعرهن الحالك.

مع فساتين الفرح.. مع قيثارة محمومة كجسدك.. مع قصائد لوركا الذي تحبينه.. مع حزن أبي فراس الحمداني الذي أحبه.

كنت أشعر أنك جزء من تلك المدينة أيضاً.. فهل كل المدن العربية أنت.. وكل ذاكرة عربية أنت؟

مر الزمان وأنت مازلت كمياه غرناطة، رقراقة الحنين.. تحملين طعماً مميزاً لا علاقة له بالمياه القادمة من الأنابيب والحنفيات.

مر الزمن، وصوتك مازال يأتي كصدى نوافير المياه وقت السّحر، في ذاكرة القصور العربية المهجورة، عندما يفاجئ المساء غرناطة، وتفاجئ غرناطة نفسها عاشقة لملك عربي غادرها لتوه..

كان اسمه "أبا عبد الله". وكان آخر عاشق عربي قبّلها!

تراني كنت ذلك الملك الذي لم يعرف كيف يحافظ على عرشه؟
تراني أضعتك بحماقة أبي عبد الله، وسأبكيك يوماً مثله؟
كانت أمه قد قالت له يوماً وغرناظة تسقط في غفلة منه: "ابك مثل النساء مُلكاً مُضاعاً، لم تحافظ عليه مثل الرجال.."

فهل حقاً لم أحافظ عليك؟. وعلى من أُعلن الحرب.. أسألك؟

على مَنْ.. وأنتما ذاكرتي وأحبّتي.
على مَنْ.. وأنت مدينتي وقلعتي.