فلِمَ الخجل؟

هل هناكملك عربي واحد.. حاكم عربي واحد، لم يبكِ منذ أبي عبد الله مدينة ما؟

فاسقطيقسنطينة.. هذا زمن السقوط السريع!

هل سقطت حقاً يومها.. هذا ما لن أعرفهأبداً.

ولكن أعرف فقط تاريخ سقوطك الأخير، سقوطك النهائي الذي كنت شاهداًعليه بعد ذلك.

فأيّ جنون كان أن تزيد المسافات من حبّك، وأن تأخذي ملامح تلكالمدينة أيضاً. وإذا بي كمجنون أجلس كلّ ليلة لأكتب لك رسائل كانت تولد من دهشتيوشوقي وغيرتي عليك. كنت أقصّ لك فيها تفاصيل يومي وانطباعاتي في مدينة تشبهك حدالدهشة.

كتبت لك مرة:

"
أريد أن أحبك هنا. في بيتٍ كجسدك، مرسوم علىطراز أندلسي.
أريد أن أهرب بك من المدن المعلّبة، وأُسكن حبّك بيتاً يشبهك فيتعاريج أنوثتك العربية.

بيتاً تختفي وراء أقواسه ونقوشه واستداراته ذاكرتيالأولى. تظلّل حديقة شجرة ليمون كبيرة، كتلك التي يزرعها العرب في حدائق بيوتهمبالأندلس.

أريد أن أجلس إلى جوارك، كما أجلس هنا على حافة بركة ماء تسبحفيها سمكات حمراء، وأتأملك مدهوشاً.

أستنشق جسدك، كما أستنشق رائحة الليمونالبلدي الأخضر قبل أن ينضج.

أيتها الفاكهة المحرّمة.. أمام كلّ شجرة أمرّبها، أشتهيك.."

كم من الرسائل كتبت لك.. هل يمكن لكاتبة أن تقاوم الكلمات؟كنت أريد أن أطوقك بالحروف، أن أستعيدك بها، أن أدخل معكما حلقة الكلمات المغلقة فيوجهي بتهمة الرسم فقط، فرحت أخترع من أجلك رسائل لم تكتب قبلك لامرأة. رسائل انفجرتفي ذهني فجأة بعد خمسين سنة من الصمت.

تراني بدأت يومها أكتب كتابي هذا دونأن أدري، بعد أن انتقل عشقي لك إلى هذه اللغة التي كنت أكتب بها رسائل لأول مرة. قبلك كتبت لنساء عبرن حياتي أيام الشباب والمراهقة.

لم أكن أجهد نفسي آنذاكفي البحث عن الكلمات.
كانت اللغة الفرنسية تستدرجني تلقائياً بحريتها للقول دونعقد.. ولا خجل.

معك رحت أكتشف العربية من جديد. أتعلم التحايل على هيبتها،أستسلم لإغرائها السري، لإيحاءاتها.

رحت أنحاز للحروف التي تشبهك.. لتاءالأنوثة.. لحاء الحرقة.. لهاء النشوة.. لألف الكبرياء.. للنقاط المبعثرة على جسدهاخال أسمر..

هل اللغة أنثى أيضاً؟ امرأة ننحاز إليها دون غيرها، نتعلم البكاءوالضحك.. والحب على طريقتها. وعندما تهجرنا نشعر بالبرد وباليتم دونها؟

تراكقرأت تلك الرسائل؟. هل شعرت بعقدة يتمي وخوفي من مواسم الصقيع؟

أأدهشتك أمتراها جاءت في غير وقتها؟

كان لا بد أن أكتبها لك قبل أن يتسلل زياد إليك منكل المسام، ويصبح لغتك.

فهل تفيد رسائل الحب عندما تأتي متأخرة عنالحب؟

ألم يحب سلفادور دالي وبول إيلوار المرأة نفسها؟

وعبثاً راحبول إيلوار يكتب لها أجمل الرسائل.. وأروع الأشعار.. ليستعيدها من دالي الذي خطفهامنه. ولكنها فضّلت جنون دالي المجهول آنذاك.. على قوافي بول إيلوار. وظلّت حتىموتها منحازة لريشة دالي فقط الذي تزوجها أكثر من مرة بأكثر من طقس، ولم يرسم امرأةغيرها طوال حياته.

الواقع أن الحب لا يكرر نفسه كل مرة، وأن الرسامين لايهزمون الشعراء دائماً.. حتى عندما يحاولون التنكّر في ثياب الكلمات.


***


عندما عدت بعد ذلك إلى باريس، كان في الحلق غصّة لازمتني طوال تلك الأيام، وأفسدت عليّ متعة نجاح ذلك المعرض. واللقاءات الجميلة أو المفيدة التي تمّت لي أثناءه.

كان هناك شيء داخلي ينزف دون توقّف. عاطفة جديدة للغيرة والحقد الغامض الذي لا يفارقني ويذكّرني كلّ لحظة أن شيئاً ما يحدث هناك.
استقبلني زياد بشوق. (أكان حقاً سعيداً بعودتي؟). أمدّني بالبريد الذي وصل أثناء غيابي وبورقة سجّل عليها أسماء الذين طلبوني هاتفياً خلال تلك الأيام.

أمسكتها دون أن ألقي عليها نظرة. كنت أدري أنني لن أجد اسمك فيها.

ثم راح يسألني عن المعرض.. عن سفرتي وأخباري العامة، ويحدثني عن آخر التطورات السياسية بشيء من القلق، الذي فسّرته بارتباكه لحظتها أمامي لسبب أو لآخر.

كنت أستمع إليه وأنا أتفقد بحواسي ذلك البيت كما في خرافة الغول الذي كان كلما عاد إلى بيته، راح يتشمّم الأجواء بحثاً عن إنسان قد يكون تسلّل إلى مغارته أثناء غيابه..

كنت أشعر أنك مررت بهذا البيت. إحساس غامض كان يؤكد لي ذلك، دون أن أجد في الواقع حجة تثبت لي شكوكي.

ولكن هل تهم الحجّّة؟.. هل يعقل أن تمر عشرة أيام دون أن تلتقيا.. وأين يمكن أن تلتقيا في مكان غير هذا؟ وإذا التقيتما هل ستكتفيان بالحديث؟

كنتِ منجماً للكبريت.. وكان زياد عاشقاً مجوسياً يعبد اللّهب!

فهل كان يمكن أن يصمد طويلاً في وجه نيرانك.. أنت المرأة التي يحلم الرجال أن يحترقوا بها ولو وهماً؟

رحت أبحث في ملامح زياد عن فرحٍ ما، عن سعادةٍ ما أجد فيها الحجة القاطعة على أنك كنت له.
ولكن لم يبدُ على وجهه أي شعور خاص، غير القلق.

فجأة حدثني عنك قال:

- لقد طلبت منها أن تأتي غداً لنتناول معاً غداءنا الأخير..

صحت بشيء من الدهشة:

- لماذا الأخير؟

قال:

- لأنني سأسافر الأحد..

- ولماذا الأحد؟

قلتها وأنا أشعر بشيء من الحزن والفرح معاً.

أجاب زياد:

- لأنني يجب أن أعود.. كنت أنتظر فقط عودتك لأسافر. لم يكن مقرراً أن أبقى هنا أكثر من أسبوعين. لقد قضيت شهراً كاملاً ولا بدّ أن أعود..

ثم أضاف بشيء من السخرية:

- قبل أن أتعود على الحياة الباريسية.

تراك أنتِ الحياة الباريسية التي كان يخاف أن يتعود عليها؟ تراه كان يهرب مرة أخرى من حبٍ آخر أم أن مهمته قد انتهت أخيراً فلم يعد أمامه غير الرحيل؟

مر يوم السبت وسط مشاغل عودتي، وانشغال زياد بترتيب تفاصيل سفره.

حاولت أن أتحاشى الجلوس إليه ذلك المساء. ولكن كان يوم الأحد يتربص بنا ويضعنا أخيراً وجهاً لوجه نحن الثلاثة في ذلك الغداء الحاسم.

يومها قابلتني بحرارة لم أتوقعها. فسّرتها على طريقتي بأنها شعور بالذنب، (أو ربما بالامتنان). ألم أقدم لك حباً على طبق من شعر على طاولة هي.. بيتي؟!

ثم شكرتني على رسائلي، وأبديت إعجابك بأسلوبي.. وكأنك أستاذة قدم لها تلميذ نصّاً إنشائياً.

أزعجني شكرك العلني، وشعرت أنك حدّثت زياد عنها