وربما أريته إياها أيضاً.
كنت على وشك أن أقول شيئاً عندما واصلت:
- تمنيت لو كنت معك هناك.. هل غرناطة جميلة حقاً إلى هذا الحد؟ وهل زرت حقاً بيت غارسيا لوركا في (خوانتا فاكيروس).. أليس هذا اسم ضيعته كما قلت؟ حدّثني عنه..
وجدت في طريقتك في بدء الحديث معي من الهوامش، شيئاً مثيراً للدهشة، وربما للتفكير أيضاً.
أهذا كل ما وجدت قوله بعد كل الزوابع التي مرّت بنا، وبعد عشرة أيام من الجحيم الذي عشته وحدي؟
لا أدري كيف خطر عندئذٍ في ذهني شهد لفيلم شاهدته يوماً عن حياة لوركا..
قلت لك:
- أتدرين كيف مات لوركا؟
قلتِ:
-بالإعدام..
قلت:
- لا.. وضعوه أمام سهل شاسع وقالوا له امشِ.. وكان يمشي عندما أطلقوا خلفه الرصاص، فسقط ميتاً دون أن يفهم تماماً ما الذي حدث له.
إنه أحزن ما في موته. فلم يكن لوركا يخاف الموت، كان يتوقّعه، ويذهب إليه مشياً على الأقدام كما نذهب لموعدٍ مع صديق.. ولكن كان يكره فقط أن تأتيه الرصاصة من الظهر!
شعرت آنذاك أن زياد تلقي كلماتي كرصاصة في الصدر. رفع عينيه نحوي، أحسسته على وشك أن يقول شيئاً ولكنه صمت.
كنا نفهم بعضنا دون كثير من الكلام.
ندمت بعدها على إيلامي المتعمد له. فقد كان إيلامه يعزّ عليّ أكثر من ألمك. ولكن كان هذا أقل ما يمكن أن أقوله له بعد كل ما عشته من عذاب بسببه.
وربما كان أكثره أيضاً.
تحول غداؤنا فجأة إلى وجبة صمت مربك تتخلله أحيانا أحاديث مفتعلة، كنتِ تخترعينها أنتِ بفطرةٍ نسائية لترطيب الجو.. وربما للمراوغة. ولكن عبثاً.
كان هناك شيء من البلّور قد انكسر بيننا. ولم يعد هناك من أمل لترميمه.
سألتكِ بعدها:
- هل ستأتين معي لنرافق زياد إلى المطار؟
أجبتِ:
-لا.. لا يمكن أن أذهب إلى المطار.. قد ألتقي بعمي هناك، إذ أنه يحدث أن يمر بمكتب الخطوط الجوية الجزائرية. ثم إنني أكره المطارات.. وأكره مراسيم الوداع. الذين نحبهم لا نودعهم، لأننا في الحقيقة لا نفارقهم. لقد خلق الوداع للغرباء.. وليس للأحبة.
كانت تلك إحدى طلعاتك العجيبة المدهشة كقولك السابق مثلاً "نحن لا نكتب إهداءً سوى للغرباء وأما الذين نحبهم فهم جزء من الكتاب وليسوا في حاجة إلى توقيع في الصفحة الأولى.."
ولماذا الوداع؟
هل هناك من ضرورة لوداع آخر؟
كنت أراك طوال وجبة الغداء تلتهمينه بنظراتك ولا تأكلين شياً سواه.
كانت عيناك تودّعان جسده قطعة قطعة. تتوقّفان طويلاً عند كلّ شيء فيه، وكأنك تختزنين منه صوراً عدة.. لزمن لن يبقى لك فيه سوى الصور.
وكان هو يتحاشى نظراتك، ربما مراعاة لي، أو لأن كلماتي الموجعة أفقدته رغبة الحب.. ورغبة الأكل كذلك. وجعلته يحوّل نظراته الحزينة إلى أعماقه وإلى ما بعد السفر.
وكنت أنا لا أقل حزناً عنكما، ولكن حزني كان فريداً وفرديّاً كخيبتي. متشعّب الأسباب غامضاً كموقفي من قصّتكما العجيبة.
وربما زاده رفضك مرافقتي إلى المطار توتراً. فقد كنت أطمع في عودتك معي على انفراد لأخلو أخيراً بك. لأفهم منك دون كثير من الأسئلة، إلى أيّ مدى كنت قادرة على محو تلك الأيام من ذاكرتك، والعودة إليّ دون جروح أو خدوش..
كنت أدري أن قلبك قد أصبح منحازاً إليه. وربما جسدك أيضاً. ولكنني كنت أثق بمنطق الأيام. وأعتقد أنك في النهاية ستعودين إليّ، لأنه لن يكون هناك سواي.. ولأنني ذاكرتك الأولى.. وحنينك الأول لأبوة كنت أنا نسخة أخرى عنها.
فرحت أراهن على المنطق وأنتظرك.
رحل زياد..
ورحت أستعيد تدريجياً بيتي وعاداتي الأولى قبله.
كنت سعيداً ولكن بمرارة غامضة. فقد كنت تعوّدت على وجوده معي، وكنت أشعر بشيء من الوحدة المفاجئة وهو يتركني وحدي لموسم الشتاء؛ لتلك الأيام الرمادية، والسهرات الطويلة المدهشة.
رحل زياد.. وفرغ البيت منه فجأة كما امتلأ به.
لم يبق سوى تلك الحقيبة التي قد تشهد على مروره من هنا، والتي تركها أسفل الخزانة بعدما جمع فيها أوراقه وأشياءه، والتي رأيت في بقائها عندي مشروع عودة محتملة، قد تكونين أنت أحد أسبابها.
ولكن لابد أن أعترف أن سعادتي كانت تفوق حزني، وأنني كنت أشعر أنني أستعيدك وأنا أستعيد ذلك البيت الفارغ منه.
كنت أشعر أن هذا البيت سيمتلئ أخيراً بحضورك بطريقة أو بأخرى، وأنني سأخلو فيه بك وأنا أخلو لنفسي.
سأعيدك إليه تدريجياً. ألم تعترفي مراراً أنك تحبينه.. تحبين طريقة ترتيبه.. تحبين ضوءه.. منظر نهر السين الذي يطلّ عليه؟
أن ترى كنت تحبين فقط زياد، وحضوره الذي كان يؤثث كل شيء.. ويجعل الأشياء أحلى!
في البدء.. كنت أتوقع هاتفك. كنت أتمسك به، أستنجد به، ولكن صوتك كان ينسحب أيضاً تدريجياً أمام دهشتي.
كان هاتفك يأتي مرة كل أسبوع، ثم كلّ أسبوعين، ثم نادراً، قبل أن ينقطع نهائياً.
كان يأتي شحيحاً كقطرات الدواء. وكنت أشعر أحياناً أنك تطلبينني مجاملة فقط، أو عن ضجر، أو ربما بنية غير معلنة لمعرفة أخبار زياد.
وكنت أنا أثناء ذلك، أتساءل "تراه كان يكتب إليك مباشرة بعنوان البيت، ولهذا لم تكوني في حاجة إلى أن تسأليني مرة عن أخباره؟
أم أنه كعادته أخبرك مسبقاً أنه لن يكتب إليك، وأن عليك مثله أن تتعلمي النسيان. فرحت تطبّقين تلك العقوبة عليّ أيضاً!.
كان زياد يكره أنصاف الحلول في كل شيء.
كان متطرفاً كأي رجل يحمل بندقية. ولذا كان يكره أيضاً ما كان يسمّيه سابقاً "أنصاف الملذات" أو "أنصاف العقوبات"!
كان رجل الاختيارات الحاسمة. فإما أن يحب ويتخلى عندئذٍ عن كل شيء ليبقى مع من يحب، أو يرحل لأن الذي ينتظره هناك أهم. وعندها لن يكون من مبرر لتعذيب النفس بالأشواق والذكرى.
تساءلت طويلاً بعد ذلك، ماذا عساه اختار؟
تراه تصرّف هذه المرة أيضاً كما تصرف منذ سنوات في الجزائر مع تلك الفتاة التي كان على وشك الزواج منها..
أم أنه تغيّر هذه المرة، ربما بحكم العمر.. وربما فقط لأنك أنت، ولأن الذي حدث بينكما لم يكن قصة عادية تحدث بين شخصين عاديين.
█║S│█│Y║▌║R│║█
كنت أحاول أحياناًاستدراجك للحديث عنه، عساني أصل إلى نتيجة تساعدني على تحديد القواعد الجديدةللعبة.. والتأقلم معها.
وكنت تراوغينني كعادتك. كان من الواضح أنك تحبّين أنأحدثك عنه، ولكن دون أن تبوحي لي بشيء.
كنت تناقضين نفسك كل لحظة. تمزجينبين الجد والمزاح، وبين الحقيقة والكذب، في محاولة للهروب من شيء ما..
كانكلامك كذباً أبيض أستمع إليه بفرشاتي، وألوّن جمله بألوان أكثر تناسباً مع كل ماأعرفه عنك.
تعودت أن أكسو ما تقولينه لي بالبنفسجي، بالأزرق.. والرمادي،بالقلق الذي يخيم على كل ما تقولينه.
تعودت أن أجمع حصيلة ما قلته لي، وأصنعمنها حواراً لرسوم متتالية على ورق، أضع عليها أنا التعليقات المناسبة لحوار آخروكلام لم نقله.
لعلني وقتها بدأت أكتشف تدريجياً تلك العلاقة الغامضة التيبدأت تربطك في ذاكرتي بذلك اللون الأبيض.
لم يكن كلامك وحده كذباًأبيض.
كنت امرأة تملك قدرة خارقة على استحضار ذلك اللون في كل أشكالهوأضداده. أو لعلني وقتها أيضاً بدأت دون أن أدري وبحدس غامض أخرج هذا اللون نهائياًمن ألوان لوحاتي، وأحاول الاستغناء عنه، في محاولة مجنونة لإلغائك.
كانلوناً متواطئاً معك. منذ ذلك اليوم الذي رأيتك فيه طفلة تحبو بينما أثوابهاالطفولية البيضاء تجفّ فوق خشبات منصوبة فوق كانون. غمزة مسبقة للقدر الذي كانيُهيّأ لي معك على نارٍ باردة، أكثر من ثوب أبيض.
كان الأبيض لوناً مثلكيدخل في تركيب كلّ الألوان وكل الأشياء. فكم من الأشياء يجب أن أدمّر قبل أن أنتهيمنه! وكم من اللوحات سألغي إن أنا قاطعته!
كنت أحاول بكل الأشكال (والألوان.. ) أن أنتهي منك. ولكني كنت في الحقيقة أزداد تورّطاً فيحبك.
اعترفت لك مرة على الهاتف.. في لحظة يأس:
أتدرين.. حبك صحراء منالرمال المتحركة، لم أعد أدري أين أقف فيها..
أجبتني بسخريتكِالموجعة:
- قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك. فكل محاولة للخلاص في هذهالحالات، ستجعل الرمال تسحبك أكثر نحو العمق. إنها النصيحة التي يوجهها أهل الصحراءلكل من يقع في بالوعة الرمال المتحركة.. كيف لا تعرف هذا؟!
يومها كان لا بدأن أحزن.. ولكنني ضحكت. ربما لأنني أحب سخريتك الذكية حتى عندما تكون موجعة، فنحنقلما نلتقي بامرأة تعذّبنا بذكاء.
وربما لأنك كنتِ تزفّين لي احتمال موت كنتأراه جميلاً بقدر ما هو حتمي..
تذكّرت مثلاً شعبياً رائعاً، لم أكن قدتنبّهت له من قبل" "الطير الحر ما ينحكمش، وإذا انحكم.. ما يتخبّطش!".
وكنتأشعر آنذاك أنني ذلك الطائر المكابر الذي ينتسب إلى سلالة الصقور والنسور التي لايسهل اصطيادها، والتي عندما تُصطاد، تصبح شهامتها في أن تستسلم بكبرياء، دون أنتقاوم أو تتخبّط كما يفعل طائر صغير وقع في فخّ.
عندما أجبتك يومها بذلكالمثل الشعبي، صحتِ دهشة:
- ما أجمله.. لم أكن أعرفه!
أجبتك وسطتنهيدة:
- لأنك لم تعرفي الرجال.. ليس هذا زمناً للصقور ولا للنسور.. إنهزمن للطيور المدجّنة التي تنتظر في الحدائق العمومية!
ست سنوات مرّت على ذلكالحديث. وها أنا أذكره اليوم مصادفة، وأستعيد نصيحتك الأخيرة:
"قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك!".
كيف صدّقت يومها أنك كنت تخافين عليّ من العواصفوالزوابع.. والرمال المتحركة. أنت التي أوقفتني هنا في مهب الجرح عدة سنوات، ورحتتنفخين حولي العواصف وتحركين أمواج الرمال تحت قدميّ.. وتحرّضين القدرعليّ.
لم أتحرك أنا..
ظللت واقفاً بحماقة عند عتبات قلبك لسنواتعدة.
كنت اجهل أنك تبتلعينني بصمت، أنك تسحبين الأرض من تحت قدمي وأننيأنزلق نحو العمق.
كنت أجهل أن زوابعك ستعود كل مرة، وحتى بعد غيابك بسنواتلتغتالني.
واليوم.. وسط الأعاصير المتأخرة يأتي كتابك ليثير داخلي زوبعة منالأحاسيس المتطرّفة والمتناقضة معاً.
"منعطف النسيان" قلتِ..
من أينيأتي النسيان..أسألك؟
***
مازلت أذكر ذلك اليوم من فبراير، عندما جاء صوت سي الشريف على الهاتف، ليدعوني إلى العشاء في منزله.
فوجئت بدعوته، ولم أسأله حتى عن مناسبتها. فهمت منه فقط أنه دعا آخرين للعشاء، وأننا لن نكون بمفردنا.
أعترف أنني كنت سعيداً ومرتبكاً بفرحي.
خجلت من نفسي لأنني منذ لقائنا الأخير لم أطلبه سوى مرة واحدة بمناسبة العيد، برغم إلحاحه عليّ أن أزوره ولو مرة في المكتب، لنأخذ قهوة معاً.
فجأة، أخذت قراراً ربما كان أحمق.
قررت أن آخذ إحدى لوحاتي لأهديها إياه.
ألم يهدني اليوم تلك الفرحة التي لم أعد أتوقعها؟
سأثبت له دون كلام، أن لوحاتي لا تتداول إلا بعملة القلب وليس بالعملات المشبوهة.
بعد ذلك وجدت لهذه الفكرة حسنة أخرى.
سأكون حاضراً في ذلك البيت الذي تسكنينه ولو معلّقاً على جدار.
في اليوم التالي، حملت لوحتي وذهبت إلى ذلك العشاء.
كان القلب يركض بي، يسبقني في ذلك الحي الراقي بحثاً عن تلك البناية. حتى أنني لم أعد أذكر من اهتدى إلى بيتك أولاً: عيناي.. أم قلبي.
عندما دخلتها شعرت أن عطرك كان يتربص بي عند المدخل..وفي المصعد.. وأنك كنت هنا تقودين وجهتي بعطرك فقط.
استقبلني سي الشريف عند الباب. رحبّ بي بعناق حار، زادت حرارته رؤية تلك اللوحة الكبيرة التي كنت أحملها بصعوبة.
بدا لي في تلك اللحظة أنه لم يصدق تماماً أن تكون هدية له. تردد قبل أن يأخذها مني، لكنني استوقفته لأقول له: "هذه لوحة مني.. إنها هدية لك.."
رأيت فجأة على وجهه فرحاً وغبطة نادرة. وراح ينزع عنها الغلاف على عجل، بفضول من ربح شيئاً في اليانصيب.
ثم صاح وهو يرى منظر تلك القنطرة معلّقة وسط الضباب إلى السماء:
- هذي قنطرة الجبال!
وقبل أن أقول شيئاً عانقني وقال وهو يربت على كتفي:
- يعطيك الصحة.. تعيش آ حبيبي.. تعيش!
لم أتمالك نفسي من تقبيله بالحرارة نفسها، لأنه أهداني شيئاً ربما لم ينتبه لثمنه عندي.
رافقني سي الشريف إلى الصالون وهو يمسك ذراعي بيد، ويمسك لوحتي باليد الأخرى. واتجه بي نحو ذلك المجلس ليقدّمني إلى ضيوفه، كأنه يريد أن يشهد
█║S│█│Y║▌║R│║█
الجميع على امتنانه لي. أو ربما على علاقتنا وصداقتنا الوطيدة، التي كان شائعاً عني أنني لا أجود بها في هذا الزمن المبتذل.. إلا على القلّة.
لفظ أمامي عدة أسماء لعدة وجوه، صافحت أصحابها وأنا أتساءل من يكون معظمهم.
لم أكن أعرف منهم غير واحد أو اثنين، وأما البقية فكانوا ما أسمّيه النبتات الطفيلية.. أو "النبتات السيئة". كما يسمي الفرنسيون تلك النبتة التي تنمو من اللاشيء، في أي حوض أو أية تربة، وإذا بها تمد جذورها فجأة وتضاعف أوراقها وفروعها، حتى تطغى وحدها ذات يوم على كل التربة.
لا أدري لماذا كنت دائماً أملك الحاسة القوية التي تجعلني أتعرّف على هذا النوع من المخلوقات أينما كانوا. فهم على اختلاف أشكالهم وهيآتهم ومناصبهم يمتلكون مظهراً مشتركاً يفضحهم، بذلك الزيف والرياء المفرط وبمظاهر الغنى والوجاهة الحديثة التي لبسوها على عجل.. وبذلك القاموس المشترك في الحديث الذي يوهمك أنهم أهم مما تتوقع.
نظرة خاطفة واحدة، وبعض الجمل المتبادلة فقط، كانت كافية لأستنتج نوعية ذلك المجلس "الراقي" الذي يضم نخبة من وجهاء المهجر، الذين يحترفون الشعارات العلنية.. والصفقات السرية.
من الواضح أنني كنت في كوكب ليس كوكبي..
راح سي الشريف يطلع ضيوفه على تلك اللوحة بشيء من الفخر والمودة معاً..
والتفت إليّ ليقول لي:
_ أتدري خالد.. لقد حققت لي اليوم أمنية عزيزة عليّ. كنت للذكرى أريد أن يكون في بيتي شيء لك. لا تنس أنك صديق طفولتي وابن حيّي "كوشة الزيات".. أتذكر ذلك الحيّ؟
كنت أحب سي الشريف. كان فيه شي من هيبة قسنطينة وحضورها، شيء من الجزائر العريقة وذاكرتها، شيء من سي الطاهر، من صوته وطلّته..
وكان في أعماقه شيء نقيّ لم يلوّث بعد برغم كل شيء. ولكن حتى متى..
كنت أشعر أنه محاط بالذباب وبقذارة المرحلة. وكنت أخاف أن يتسلل إليه العفن حتى العمق ذات يوم.
أخاف عليه، وقد أخاف على ذلك الاسم الكبير الذي يحمله إرثاً من سي الطاهر من التدنيس.
ترى أكان شعوري ذلك حدساً، أم استنتاجاً منطقياً لذلك الواقع الموجع الذي كنت أراه محاطاً به؟
فهل سينجو سي الشريف من هذه العدوى؟ وماذا عساه أن يختار؟ في أية بحيرة سيسبح.. مع أي تيار وضد أي تيار.. ولا حياة للأسماك الصغيرة المعزولة في هذه المياه العكرة التي تحكمها أسماك القرش؟
كان الجواب أمامي ولم أنتبه في تلك السهرة، أنّ سي الشريف قد اختار بحيرته العكرة وانتهى الأمر.
قال جاري الأنيق خلف سيجاره الكوبي:
- لقد كنت دائماً معجباً برسومك.. وطلبت أن يتصلوا بك لتساهم في بعض مشاريعنا.. ولكنني لا أذكر أنني شاهدت لك أي لوحات عندنا.
لم أكن أدري آنذاك من هو محدثي.. ولا عن أية مشاريع كان يحدثني. ولكن كان يكفي أن يتحدث عن نفسه بصيغة الجمع، لأفهم أنه شخصية فوق العادة.
وكأن سي الشريف تنبّه إلى أنني أجهل هوية محدّثي فتدخل موضحاً:
- إن (سي..) مولع بالفن، وهو مشرف على مشاريع كبرى ستغيّر الوجه الثقافي للجزائر.
ثم أضاف وكأنه تنبّه إلى شيء:
- .. ولكنك لم تزر الجزائر منذ عدة سنوات.. صحيح أنك لم ترَ بعد تلك المركّبات الثقافية والتجارية الجديدة.. لا بد أن تتعرف عليها..
ولم أجبه..
كنت أراه يتدحرج أمامي من سلّم القيم، غباءً أو تواطؤاً لا أدري. فاحتفظت لنفسي بما سمعته عن تلك.. "المنشآت" وكل ما جاورها من معالم وطنية بُنيت حجراًً حجراً على العمولات والصفقات، وتناوب عليها السرّاق كباراً وصغاراً.. على مرأى من الشهداء الذين شاء لهم حظهم أن يكون مقامهم مقابلاً.. لتلك الخيانة.
ها هو إذن (سي...) يبدو طيباً و رجلاً شبه بسيط، لولا بدلته الأنيقة جداً.. وحديثه الذي لا يتوقف عن مشاريعه القريبة والبعيدة، التي تمر جميعها بباريس وبأسماء أجنبية مشبوهة، تبدو مخجلة في فم ضابط سابق.
ها هو إذن.. تراه ظاهرة ثقافية في عالم العسكر.. أم ظاهرة عسكرية في عالم الثقافة..
أم أن "الزواج المنافي للطبيعة" أصبح رمزاً طبيعياً مذ شاع وباؤه "رسمياً" في أكثر من قيادة أركان عربية!
كان الجميع يتملقونه، ويجاملونه، عساهم يلحسون شيئاً من ذلك العسل الذي كان يتدفق بين يديه نهراً من العملة الصعبة، في زمن القحط والجفاف..
وكنت أتساءل طوال تلك السهرة، ماذا كنت أفعل وسط ذلك المجلس العجيب؟
كنت أتوقع أن تكون تلك الدعوة، أو على الأقل موعداً نادراً لي مع الوطن، أستعيد فيه مع سي الشريف ذكرياتنا البعيدة.
ولكن الوطن كان غائباً من تلك السهرة. ناب عنه جرحه، ووجهه الجديد المشوه.
كانت سهرة في فرنسا.. نتحدث فيها بالفرنسية.. عن مشاريع سيتم معظمها عن طريق جهات أجنبية.. بتمويل من الجزائر.. فهل حصلنا على استقلالنا حقاً؟!
انتهت تلك السهرة في حدود منتصف الليل. فقط كان (سي...) متعباً وله ارتباطات ومواعيد صباحية.. وربما ليلية أيضاً.
إن المال السريع الكسب، يعجّل في فتح شهيتنا لأكثر من ملذّات.
وكان يمكن أن أكون سعيداً ذلك المساء. لقد كنت في الواقع محطّ اهتمام الجميع لأسباب لم أشأ التعمق فيها..
بل ربما كنت النجم الثاني في تلك السهرة مع (سي...) الذي فهمت أن الدعوة كانت على شرفه، وأنني دعيت لها، لأنه كان يحب أن يكون محاطاً في سهراته بالفنانين دليلاً على ولعه بالإبداع.. وذوقه غير العسكري!
والواقع أنه كان لطيفاً ومجاملاً.. وأنه حدثني يومها عن آرائه الفنية في مجالات مختلفة، وحبه لبعض الرسامين الجزائريين بالذات. بل وقال مازحاً، إنه يحسد سي الشريف على تلك اللوحة، وأنني إذا كنت آخذ معي لوحة حيث أذهب، فسيدعوني إلى بيته عند زيارتي للجزائر..
ضحكت من مزاحه.
ولكنني كنت حزيناً بما فيه الكفاية بعد ذلك لأكون على حافة البكاء، وأنا أنفرد بنفسي ذلك المساء في سريري، وأتساءل أي حماقة أوصلتني إلى ذلك البيت؟
بيت كنت أتوقعه بيتك، وإذا بي أدخله وأغادره دون أن ألمح حتى طرف ثوبك، وهو يعبر ذلك الممر الذي كان يفصلني.. عن عالمك.
في صباح اليوم التالي، دقّ الهاتف. توقعتك أنت، وكانت كاترين.. قالت:
- قبلات صباحية.. وأجمل الأماني لك..
وقبل أن أسأل عن المناسبة أضافت:
- .. اليوم عيد (السان فالنتان) القديس الذي يبارك العشاق.
فكّرت أن أطلبك بدل أن أبعث إليك بطاقة.. ماذا تريد أن أتمنى لك في عيد الحب؟
وأمام دهشتي.. أو تردّدي أضافت بلهجة ساخرة أحبها:
- اطلب أيها الأحمق.. فالدعوات تستجاب اليوم!
ضحكت..
كدت أقول لها أطلب شيئاً من النسيان فقط. ولكنني قلت شيئاً مشابهاً لذلك:
- أريد أن أحال إلى التقاعد العاطفي.. أيمكنك أن تبلّغي قديسك طلبي هذا!
قالت:
- با لك من مجنون.. أتمنى ألا يسمعك فيحرمك من بركاته
█║S│█│Y║▌║R│║█
إلى الأبد.. هل أتعبك موعدنا الأخير إلى هذا الحد؟
يومها ضحكت معكاترين. ثم وضعت تلك السماعة لأبكي معك.
كنت أكتشف لأول مرة ألم ذلك العيدالذي لم أكن سمعت به من قبل.
لم يأت هاتفك حتى ليشكرني على تلك اللوحة، أوحتى على تلك الزيارة، وذلك الموعد المتعمد الذي حضرته وتغيّبت عنه.
جاء عيدالحب إذن..
فيا عيدي وفجيعتي، وحبي وكراهيتي، ونسياني وذاكرتي، كلّ عيد وأنتكلّ هذا..
للحب عيد إذن.. يحتفل به المحبّون والعشّاق، ويتبادلون فيهالبطاقات والأشواق، فأين عيد النسيان سيّدتي؟
هم الذين أعدّوا لنا مسبقاًتقويماً بأعياد السنة، في بلد يحتفل كلّ يوم بقديس جديد على مدار السنة.. أليس بينقدّيسيهم الثلاثمائة والخمسة والستين.. قديس واحد يصلح للنسيان؟
مادامالفراق هو الوجه الآخر للحب، والخيبة هي الوجه الآخر للعشق، لماذا لا يكون هناك عيدللنسيان يضرب فيه سُعاة البريد عن العمل، وتتوقف فيه الخطوط الهاتفية، وتُمنع فيهالإذاعات من بثّ الأغاني العاطفية.. ونكفّ فيه عن كتابة شعر الحب!
منذ قرنينكتب "فيكتور هوغو" لحبيبته جوليات دروي يقول: "كم هو الحب عقيم، إنه لا يكف عنتكرار كلمة واحدة "أحبك" وكم هو خصب لا ينضب: هنالك ألف طريقة يمكنه أن يقول بهاالكلمة نفسها"..
دعيني أدهشك في عيد الحب.. وأجرّب معك ألف طريقة لقولالكلمة الواحدة نفسها في الحب..
دعيني أسلك إليك الطرق المتشعّبة الألف،وأعشقك بالعواطف المتناقضة الألف، وأنساك وأذكرك، بتطرّف النسيانوالذاكرة.
وأخضع لك وأتبرأ منك، بتطرّف الحرية والعبودية.. بتناقض العشقوالكراهية.
دعيني في عيد الحب.. أكرهك.. بشيء من الحبّ.
تراني بدأتأكرهك يومها؟
ومتى ولدت داخلي تلك العاطفة بالتحديد، وراحت تنمو بسرعةمدهشة، وأصبحت تجاور الحب بعنفه؟
ترى إثر خيباتي المتكررة معك، بعد كل تلكالأعياد التي أخلفتها مروراً بذكرى لقائنا، أم بسبب ذلك التوتر الغامض الذي كانيسكنني، ذلك الجوع الدائم إليك، الذي كان يجعلني لا أشتهي امرأة سواك.
كنتأريدك أنت لا غير، وعبثاً كنت أتحايل على جسدي. عبثاً كنت أقدّم له امرأة أخرىغيرك. كنتِ شهوته الفريدة.. ومطلبه الوحيد.
الأكثر إيلاماً ربما، عندما كنتفي لحظة حبّ أمرر يدي على شعر كاترين. وإذا بيدي تصطدم بشعيراتها القصيرة الشقراء،فأفقد فجأة شهيّة حبّي وأنا أتذكر شعرك الغجري الطويل الحالك، الذي كان يمكن أنيفرش بمفرده سريري.
كان نحولها يذكّرني بامتلائك، وخطوط جسدها المستقيمةالمسطّحة تذكرني بتعاريجك وتضاريس جسدك.
وكان عطرك يأتي بغيابه حتى حواسي ليلغيعطرها، ويذكّرني كطفلٍ يتصرف بحواسه الأولى، أن ذلك العطر لم يكن العطر السريلأمي!
كنت تتسللين إلى جسدي كلّ صباح وتطردينها من سريري.
يوقظنيألمك السري، وشهوتك المتراكمة في الجسد قنبلة موقوتة، ورغبة ليلية مؤجّلة يوماً بعدآخر.
هل تستيقظ الرجولة باكراً حقاً، أم الشوق هو الذي لاينام؟
أجيبيني أيتها الأنثى التي تنام ملء جفونها كل ليلة..
أَوَحدهمالرجال لا ينامون؟
ولماذا يرتبك الجسد، وأكاد أجهش على صدر غيرك بالبكاء،أكاد أعترف لها أنني عاشق امرأة أخرى، وأنني عاجز أمامها لأن رجولتي لم تعد ملكي،وإنما تتلقى أوامرها منك فقط!
متى بدأت أكرهك!
ترى في ذلك اليوم الذيلبست فيه كاترين ثيابها، مدّعية بمجاملة كاذبة موعداً ما لتتركني وحدي في ذلكالسرير الذي لم يعد يشبع نهمها.
يوم اكتشفت وأنا أذرف دمعة رجالية مكابرة: أنه يحدث للرجولة أيضاً أن تنكّس أعلامها، وترفض حتى لعبة المجاملة.. أو منطقالكبرياء الرجالي.. وأننا في النهاية لسنا أسياد أجسادنا كما نعتقد.
يومهاتساءلت بشيء من السخرية المرة، إن كان ذلك القديس (السان فالنتان) قد استجاب لدعوتيبهذه السرعة.. وحوّلني حقاً إلى عاشق متقاعد!
أذكر أنني لعنتك.. وحقدت عليكآنذاك، وشعرت بشيء من المرارة المجاورة للبكاء.. أنا الذي لم أبك حتى يوم بترتذراعي، كان يمكن أن أبكي يومها وأنت تسرقين منّي آخر ما أملك.
تسرقينرجولتي!
ذات يوم سألتك "هل تحبينني؟..".
قلتِ:
- لاأدري.. حبك يزيد وينقص كالإيمان!
يمكن أن أقول اليوم، إن حقدي عليك كان يزيدوينقص أيضاً كإيمانك..
يومها أضفت بسذاجة عاشق:
- وهل أنتِمؤمنة؟
صحتِ:
- طبعاً.. أنا أمارس كل شعائر الإسلام.. وفرائضه
- وهل تصومين؟
- طبعاً أصوم.. إنها طريقتي في تحدّي هذهالمدينة.. في التواصل مع الوطن.. ومع الذاكرة.
تعجّبت لكلامك. لا أدري لماذالم أكن أتوقّعك هكذا. كان في مظهرك شيء ما يوهم بتحررك من كل الرواسب.
عندماأبديت لك دهشتي قلتِ:
- كيف تسمّي الدين رواسب، إنه قناعة؛ وهو ككل قناعاتناقضية لا تخصّ سوانا..
لا تصدق المظاهر أبداً في هذه القضايا. الإيمان كالحبعاطفة سرية نعيشها وحدنا في خلوتنا الدائمة إلى أنفسنا. إنها طمأنينتنا السرية،درعنا السرية.. وهروبنا السري إلى العمق لتجديد بطرياتنا عند الحاجة.
أماالذين يبدو عليهم فائض من الإيمان، فهم غالباً ما يكونون قد أفرغوا أنفسهم منالداخل ليعرضوا كل إيمانهم في الواجهة، لأسباب لا علاقة لها بالله!
ما كانأجمل كلامك يومها!
كان يأتي ليقلب ثنايا الذاكرة، ويوقظ داخلي صوت المآذن فيصباحات قسنطينة.
كان يأتي مع الصلوات، مع التراتيل، مع صوت (المؤدّب) فيكتاتيب قسنطينة القديمة. فأعود إلى الحصير نفسه أجلس عليه بالارتباك الطفولي نفسه،أردّد مع أولاد آخرين تلك الآيات التي لم نكن نفهمها بعد، ولكننا كنّا ننسخها علىذلك اللوح ونحفظها كيف ما كان، خوفاً من "الفالاقة". وتلك العصا الطويلة التي كانتتتربص بأقدامنا لتدميها عند أول غلطة.
كان يأتي ليصالحني مع الله، أنا الذيلم أصم من سنين.
كان يصالحني مع الوطن، ويحرّضني ضد هذه المدينة التي تسرقمنّي كلّ يوم مساحة صغيرة من الإيمان.. ومن الذاكرة.
كنتِ يومها المرأة التيأيقظت ملائكتي وشياطيني في الوقت نفسه.
ثم راحت تتفرج عليّ بعدما حوّلتني إلىساحة يتصارع الخير والشر فيها.. دون رحمة!
***
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 8 (0 من الأعضاء و 8 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)