لم تكن تتوقع وقتها، أن عمرنا سيكون أعجب من سنوات شبابنابكثير!
غداً سيكون عرسكِ إذن..
وعبثاً أحاول أن أنسىذلك، وأمشي في شوارع قسنطينة، يسلّمني زقاق إلى آخر.. وذاكرة إلى أخرى.
أماقلتِ إنك لي مادمنا في هذه المدينة؟
أين تكونين الآن إذن؟ في أي شارع.. فيأي زقاق من هذه المدينة المتشعّبة الطرقات والأزقة كقلبك، والتي تذكّرني بحضوركوغيابك الدائم، وتشبهك حد الارتباك؟
لستِ لي..
أدري أنهم يعدّونكالآن لليلة حبك القادمة. يعدّون جسدك لرجل آخر ليس أنا. بينما أهيم أنا على جرحيلأنسى الذي يحدث هناك.
مليئاً كان يومك، كيوم عروس، وفارغاً كان يومي، كيومموظّف متقاعد.
منذ زمان أخذ كلّ واحد منا طريقاً مخالفاً للآخر. وها نحننعيش بمفّكرتين متناقضتينْ، إحداهما للفرح وأخرى للحزن. فكيف أنسى ذلك؟
كانتكل الطرق تؤدي إليك، حتى تلك التي سلكتها للنسيان، والتي كنت تتربّصين ليفيها.
كلّ المدارس والكتاتيب العتيقة.. كل المآذن.. كلّ "البيوت المغلقة".. كلّ السجون.. كل المقاهي.. كل الحمامات التي كانت تخرج منها النساء أمامي جاهزاتللحب، كل الواجهات التي تعرض الصيغة والثياب الجاهزة للعرائس. وحتى.. تلك المقبرةالتي ألقيت نفسي في سيارة أجرة، ورحت أبحث فيها عن قبر (أمّا)، وأستعين بسجلاتحارسها لأتعرف على أرقام الممرات التي كانت توصل إليها.. أوصلتني إليك لاغير.
(أمّا).. لماذا قادتني قدماي إليها ذلك اليوم بالذات، في ليلة عرسكبالذات؟ أرحت أزورها فقط.. أم رحت أدفن جوارها امرأة أخرى توهمّتها يوماًأمي؟
عند قبرها الرخامي البسيط مثلها، البارد كقدرها.. والكثير الغباركقلبي، تسمّرت قدماي، وتجمّدت تلك الدموع التي خبأتها لها منذ سنوات الصقيعوالخيبة.
ها هي ذي (أمّا).. شبر من التراب، لوحة رخامية تخفي كل ما كنت أملكمن كنوز. صدر الأمومة الممتلئ.. رائحتها.. خصلات شعرها المحنّاة.. طلّتها.. ضحكتها.. حزنها.. ووصاياها الدائمة.. "عندك يا خالد يا ابني..".
(أمّأ) عوّضتها بألف امرأة أخرى.. ولم أكبر.
عوّضت صدرها بألف صدر أجمل.. ولمأرتوِ. عوّضت حبها بأكثر من قصة حب.. ولم أشف.
كانت عطراً غير قابل للتكرار. لوحة غير قابلة للتقليد ولا للتزوير.
فلماذا في لحظة جنون تصوّرت أنك امرأة طبقالأصل عنها؟ لماذا رحت أطالبك بأشياء لا تفهمينها، وبدور لن تطاليه؟
هذاالحجر الرخاميّ الذي أقف عنده أرحم بي منك.
لو بكيت الآن أمامه.. لأجهش بدورهبالبكاء.
لو توسّدت حجره البارد، لصعد من تحته ما يكفي من الدفء لمواساتي.
لوناديته (يا أمّا..) لأجابني ترابه مفجوعاً "واش بيك آ ميمة..؟".
ولكن كنتأخاف حتى على تراب (أمّا) من العذاب، هي التي كانت حياتها مواسم للفجائع لاغير.
كنت أخاف عليها حتى بعد موتها من الألم، وأحاول كلّما زرتها أن اخفيعنها ذراعي المبتورة.
ماذا لو كان للموتى عيون أيضاً؟
ماذا لو كانتالمقابر لا تنام.. كم كان يلزمني من الكلام وقتها لأشرح لها كل ما حلّ بيبعدها؟
لم أجهش ساعتها بالبكاء، وأنا أقف أمامها بعد كلّ ذلك العمر.
نحننبكي دائماً فيما بعد.
مرّرت فقط يدي على ذلك الرخام، وكأنني أحاول أن أنزععنه غبار السنين وأعتذر له عن كل ذلك الإهمال.
ثم رفعت يدي الوحيدة لأقرأفاتحة على ذلك القبر..
بدا لي وقتها ذلك الموقف، وكأنه موقف سريالي. وبدتيدي الوحيدة الممدودة للفاتحة وكأنها تطلب الرحمة بدل أن تعطيها..
فتنهّدت.. وأخفيت يدي.
ألقيتها داخل جيب سترتي.. وألقيت بخطاي خارج مدينة التراب.. والرخام.
***
كان ترقب حسان وزوجته للعرس، واستعداداتهما الدائمة له، للقاء كل الذين سيحضرونه من شخصيات وعائلات كبيرة، يجعلني أستمع لهما أحياناً، وكأنني أستمع إلى أطفال يتحدثون عن "سيرك"، سيحلّ بمدينة لم يزرها سيرك ولا مهرّجون من قبل.
وكنت لذلك أشفق عليهما.. وأعذرهما.
لقد كانت قسنطينة في النهاية، مدينة لا يحدث فيها شيء ما عدا الأعراس. فتركتهما لفرحتهما ينتظران "السيرك عمَّار"، واحتفظت لنفسي بخيبتي.
كان كل شيء استثنائياً في ذلك اليوم. وكنت أعرف مسبقاً برنامجه من أحاديث السهرة.
سيذهب حسان لقضاء حاجاته في الصباح، ثم يصلّي صلاة الظهر في المسجد، وبعدها سيمر بي صحبة (ناصر) لنذهب جميعاً إلى حضور العرس.
أما عتيقة فقد تأخذ الأولاد وتذهب منذ الصباح لترافق العروس إلى الحلاق. ثم تبقى هناك لتقوم مع نساء أخريات بخدمة الضيوف وإعداد الطاولات.
كنت أشعر برغبةٍ في البقاء في سريري في ذلك الصباح، وعدم مغادرته قبل الظهر، ربما بسبب متاعب البارحة، وربما استعداداً للسهر والمتاعب الأخرى التي تنتظرني في ذلك اليوم..
وربما فقط لأنني لم أعد أدري أين يمكنني أن أذهب، بعدما قضيت أسبوعاً وأنا أهيم على وجهي في تلك المدينة التي كانت تتربّص بذاكرتي في كل شارع. وكنتِ تختبئين لي فيها خلف كل منعطف..
وجدت بعد تفكير قصير، أن السرير هو المكان الوحيد الذي يمكن أن أهرب منك إليه. أو على الأقل ألتقي فيه معك بلذّة وليس بألم.
ولكن..
هل سأجرؤ حقاً على استحضارك اليوم.. في هذه اللحظة التي كنت أدري أنك تتجمّلين فيها استعداداً لرجل آخر؟
هل سأجرؤ على استحضارك في هذا الصباح.. وهل سيغفر لك جسدي حقاً في لحظة نزوة كلّ خياناتك السابقة واللاحقة؟ كان ذلك جنوناً في جنون!!
ولكن أليس هذا الذي كنت تريدينه في النهاية، عندما قلت: "سأكون لك في تلك الليلة..".
كنت أشعر برغبة في امتلاكك في ذلك الصباح.
وكأنني أريد أن أسرق منك كل شيء، قبل أن أفتقدك إلى الأبد. فبعد اليوم لن تكوني لي، وستنتهي هذه اللعبة الموجعة الحمقاء التي لم تكن هوايتي قبلك.
موجعاً كان لقائي معك ذلك الصباح.
فيه كثير من الشراسة والمرارة الغامضة.
فيه كثير من الحقد والشهوة الجنونية.
لو كنتِ لي..
آه لو كنتِ لي ذلك الصباح.. في ذلك السرير الكبير الفارغ البارد دونك. في ذلك البيت الشاسع بذكريات الطفولة المبتورة.. وشهوة الشباب المكبوت الذي مر على عجل.
لو كنت لي.. لامتلكتك كما لم أمتلك امرأة هنا. لاعتصرتك بيدي الوحيدة في لحظة جنون. لحوّلتك إلى قطع.. إلى مواد أولية.. إلى بقايا امرأة.. إلى عجينة تصلح لصنع امرأة.. إلى أي شيء غيرك أنت، أي شيء أقلّ غروراً وكبرياءً.. أقلّ ظلماً وجبروتاً منك.
أنا الذي لم أرفع يدي الوحيدة في وجه امرأة، ربما كنت ضربتك ذلك اليوم حدّ الألم، ثم أحببتك حد الأم، ثم جلست إلى جوار جسدك أعتذر له..
أقبّل كل شيء فيك، أمحو بشفتيّ حمرة أطرافك المخضّبة بالحناء، لأوشّمك بشراسة القُبَل، عساك عندما تستيقظين تكتشفينني مرسوماً على جسدك كالوشم،
█║S│█│Y║▌║R│║█
بذلك اللون الأخضر الوحيد الذي لا يرسم إلا على الجسد!
من أين جاءني كلّ ذلك الجنون؟ أكنت أريد أن أنفرد بك وأمتلكك قبله، أم كنت أدري يومها بحدسٍ أو بقرارٍ مسبق أنني أنفق معك آخر رعشات اللذّة، وأنني سأضعك خارج هذا السرير بعد اليوم إلى الأبد؟
لم تكن مشكلتي معك مجرد شهوة. لو كانت لحسمتها يومها بطريقة أو بأخرى.
هنالك أكثر من امرأة هنا يمكن أن يمتلكها رجل دون جهد.
هنالك أكثر من باب نصف مفتوح ينتظر أن يفتحه رجل.
هناك جارات تتقاطع خطواتي بهنّ مراراً في هذه البيوت العربية المشتركة، وأدري رغبتهن السرية في الحب.
تعلمت مع الزمن، أن أفكّ رموز نظرات النساء المحتشمات.. والمبالغات في اللياقة والمفردات المؤدبة.
ولكنني كنت أتجاهل نظرتهن ودعوتهن الصامتة إلى الخطيئة.
لم أعد أدري اليوم.. إن كنت أتصرف كذلك عن مبدأ.. أم عن حماقة وشعور غامض بالغثيان؟
كنت في الواقع أشفق عليهن.. وأحتقر أزواجهن الذين يسيرون كالديوك المغرورة دون مبرر..
سوى أنهم يمتلكون في البيت دجاجة ممتلئة متشحّمة لم يقربها أحد ربما عن قرف!
أو أخرى شهيّة ومدجّنة حسب التقاليد ولا يتوقع صاحبها أنّ جناحيها القصيرين.. مازالا يمارسان القفز.. فطرياً!
يا لحماقة الديوك!
إذا كانت كل النساء عفيفات هنا، وشرف كل الرجال مصوناً، فمع من يزني هؤلاء إذن؟ وكلهم دون استثناء يتبجّح في المجالس الرجالية بمغامراته؟
أليس كل واحد منهم يضحك على الآخر.. ولا يدري أن هناك من يضحك عليه؟!
كم أكره ذلك الجو الموبوء بالنفاق.. وتلك القذارة المتوارثة.. بنزاهة!
يحدث عندما تتقاطع نظراتي بهنّ، أن أستعيد قولك مرة، عندما أبديت لك دهشتي مما جاء في روايتك الأولى.. ورحت أستجوبك بحثاً عن ذاكرة مشبوهة.
قلتِ:
"لا تبحث كثيراً.. لا يوجد شيء تحت الكلمات. إن امرأة تكتب هي امرأة فوق كل الشبهات.. لأنها شفافة بطبعها. إن الكتابة تطهّر مما يعلق بنا منذ لحظة الولادة.. أبحث عن القذارة حيث لا يوجد الأدب!"
وكانت القذارة المتوارثة أمامي في كل مكان، في عيون معظم النساء الجائعات لأي رجل كان.
في عصبية الرجال الذين يحملون شهوتهم تراكماً قابلاً للانفجار.. أمام أول أنثى.
ولكن كان عليّ أن أقاوم رغبتي الحيوانية ذلك اليوم. وألا أترك تلك المدينة تستدرجني إلى الحضيض.
فهنالك مبادئ لا يمكنني التخلّي عنها مهما حدث. كأن أعاشر امرأة متزوجة، تحت أي مبرر كان.
وربما كان هذا سر حزني الآخر. فقد كنت أدري أن مستحيلاً آخر قد أضيف إلى مستحيلات أخرى يومها، وأنك لن تكوني لي أبداً بعد اليوم.
لم أكن خجولاً من يدي اليمنى ذلك اليوم.
شعرت بشيء من الارتياح، وأنا أكتشف أنني برغم كل ما حلّ بي مازلت أحترم جسدي.
المهم في هذه الحالات، ألا نفقد احترام جسدنا ونحن نمنحه لأول عابر سبيل.
فأين يمكن أن نسكن بعد ذلك إن نحن أهنّاه.. وإن رفض أن ينسى ذلك؟
رميت فجأة بالغطاء، واتّجهت نحو النافذة وأشرعتها وكأنني أفتحها ليخرج طيفك منها إلى الأبد، ويدخل النور إلى تلك الغرفة.
في هذه المدينة المسكونة بالجنّ والسحرة، ماذا لو كنت جنّية تتسلل إليّ مع العتمة، تنام إلى جواري، تقصّ عليّ قصصاً عجيبة، تعدني بألف حلّ سحري لمأساتي.. ثم تختفي مع أول شعاع وتتركني لهواجسي وظنّي؟
هل خرج طيفك حقاً يومها من سريري.. من غرفتي وذاكرتي. وهرب من تلك النافذة؟ لا أدري!
أدري فقط أن قسنطينة، دخلت من تلك النافذة نفسها، التي قلّما فتحتها.
وإذا بالأذان يفاجئني من أكثر من مئذنة في آن واحد، ويسمّرني في مكاني أمام الأقدام المسرعة في كل الاتجاهات.
وكان جسر (سيدي راشد) يبدو بدوره منهمكاً في حركة دائمة كامرأة تستعد لحدثٍ ما.. مأخوذاً بهمومه اليومية، وبحماس نهايات الأسبوع.
وجدت في انشغاله عن حزني ذلك الصباح بالذات شيئاً شبيهاً بالخيانة.. وعدم العرفان بالجميل.
قررت بدوري ألا أجامله.. فأغلقت في وجهه وجهي.. ورَدَدْت النافذة..
وفجأة.. انتابتني رغبة جارفة للرسم. زوبعة شهوة الألوان.. تكاد توازي رغبتي الجنسية السابقة وتساويها عنفاً وتطرّفاً.
لم أعد في حاجة إلى امرأة.. شفيت من جسدي وانتقل الألم إلى أطراف أصابعي..
في النهاية لم يكن السرير مساحة للذّتي ولا لطقوس جنوني. وحدها تلك المساحة البيضاء المشدودة إلى الخشب كانت قادرة على إفراغي من ذاتي.
فيها أريد أن أصبّ الآن لعنتي، أبصق مرارة عمرٍ من الخيبات.
أفرغ ذاكرة انحازت للون الأسود.. مذ انحزت لهذه المدينة الملتحفة _حماقة_ بالسواد منذ قرون، والتي تخفي وجهها _تناقضاً_ تحت مثلث أبيض للإغراء.
سلاماً أيها المثلث المستحيل.. سلاماً أيتها المدينة التي تعيش مغلقة وسط ثالوثها المحرم ( الدين – الجنس – السياسة).
كم تحت عباءتك السوداء.. ابتلعت من رجال. فلم يكن أحد يتوقّع أن تكون لك طقوس مثلث (برمودا) وشهيته للإغراق..
كانت الأفكار الرمادية تتوالد في ذهني في ذلك الصباح. والغيظ يملؤني تدريجياً كلما تقدّمت الساعة واقترب وقت قدوم حسان وناصر لمرافقتي إلى ذلك البيت، لأحضر عرسك.
وكان غيظي وخيبتي قد شلا يدي ومنعاني حتى من أن أحلق ذقني أو أستعد لذلك الفرح المأتم.
كنت أذهب وأجيء فجأة في تلك الغرفة بعصبية مدمن تنقصه رشفة أفيونه.
كيف لم أتوقع أن أشعر بهذه الحاجة المرضيّة اليوم لإمساك فرشاة، وبهذه الرغبة الجارفة للرسم؟ تلك
█║S│█│Y║▌║R│║█
يعجز اللسان عن وصف تلك الكاتبة فان كلماتها تدل عنهاأكتب إليك من مدينه ما زالت تشبهك, وأصبحت أشبهها. ما زالت الطيور تعبر هذه الجسور على عجل, وأنا أصبحت جسرا آخر معلقاً هنا
احلام مني تأوي الى حنين الماضي
سلمت يداك اخي الكريم
نيالك شو ع بالك ... ضيعتنا الحلوة قبالك ... علي وقلي ع قبالك .. بالخير عليي فول
الرغبة التي لا تقاوم، والتيتصبح ألماً في أطراف الأصابع، وتوتراً جسدياً ينتقل من عضو إلى آخر؟
كنتأريد أن أرسم.. وأرسم.. حتى أفرغ من كل شيء. وأقع ميتاً.. أو مغمى عليّ إرهاقاًونشوة.
من الأرجح أنني هذه المرة لن أرسم جسوراً ولا قناطر. ربما رسمت نساءًبملاءات سوداء.. ومثلثات بيضاء.. وعيون كاذبات، واعدات بفرح ما. فاللون الأسود لونكاذب في معظم الأحيان.. تماماً مثل اللون الأبيض.
وقد لا أرسم شيئاً، وأموتهكذا واقفاً، عاجزاً أمام لوحة بيضاء.
فهل أروع من أن نوقّع مساحة بيضاءببياض، وننسحب على رؤوس الأصابع، مادمنا لم نوقّع شيئاً في النهاية، ووحدها الأقدارتوقّع حياتنا، وتفعل بنا ما تشاء؟
لماذا التحايل على الأشياء إذن.. لماذاالمراوغة؟
أما كنتِ لوحتي؟ ما فائدة أن أكون رسمتك ألف مرة، مادام آخر سيضعتوقيعه عليك اليوم، سيضع بصماته على جسدك، واسمه جوار أوراقكالثبوتية؟
وماذا تفيد عشرات المساحات التي غطيتها بك، أمام سرير سيحتويجسدك.. ويخلّد أنوثتك الأبدية؟
أيّ جدوى لما أرسمه.. إذا كان هناك دائماً منسيضع توقيعه نيابة عني كالعادة؟
***
في تلك اللحظة المتقدمة من اليأس، دقّ فجأة الهاتف، وأخرجني للحظة من وحدتي وهواجسي. فرحت أسرع نحو الغرف البعيدة الأخرى، لأردّ عليه.
كان حسان على الخط. سألني دون مقدمات:
- واش راك تعمل..؟
أجبته بشيء من الصدق:
- كنت غافياً شيئاً ما..
قال:
- حسناً إذن.. توقعت أن تكون جاهزاً وتنتظرني منذ مدة. كنت أريد أن أخبرك أنني قد أتأخر بعض الوقت. هنالك مشكل صغير يجب أن أحلّه.
سألته متعجباً:
- أيّ مشكل؟
قال:
- تصور بماذا طلع لي ناصر اليوم؟ إنه لا يريد أن يحضر عرس أخته..
قلت وأنا أزداد فضولاً:
- لماذا؟
قال:
- إنه ضد هذا الزواج.. ولا يريد أن يلتقي بالضيوف ولا بالعريس.. ولا حتى بعمّه!
كدت أقاطعه "معه حق".. ولكنني سألته:
- وأين هو الآن؟
قال:
- لقد تركته في المسجد. قال لي إنه يفضّل أن يقضي يومه هناك بدل أن يقضيه مع هؤلاء "القوّا..."!
ولأول مرة ضحكت من قلبي. ولم أستطع أن أمنع نفسي من التعليق بصوت عالٍ:
- رائع ناصر.. والله "نستعرف بيه".!
ولكن حسان قاطعني بصوتٍ فيه شيء من العتاب والعجب:
- واش بيك هبلت إنت تاني.. عيب.. شفت واحد ما يروّحش لعرس أختو.. واش يقولوا الناس..
- الناس.. الناس.. يقولوا واش يحبوا.. خلينا يا راجل يرحم والديك..
وقبل أن أقول له شيئاً قال:
- ابق في البيت إذن.. سأمر عليم حال ما انتهي. سنتحدث في هذا الموضع فيما بعد، فأنا أحدثك من مقهى، وحولي كثير من الناس (... على بالك..!).
ثم أضاف:
- ستجد في المطبخ أكلاً أعدّته لك عتيقة..
وضعت السماعة. وعدت إلى غرفتي.
لم أكن في حاجة إلى أكل. كنت فقط أشعر بشيء من الظمأ الصباحي، وبشيء من المرارة التي صار لها فجأة بعد ذلك الهاتف، مذاق السعادة الغامضة.
لقد ملأني موقف ناصر غبطة. شعرت أن هناك شخصاً آخر يشاركني حزني دون علمه، ويقف معي ضدّ هذا الزواج، ولكن على طريقته..
فحلٌ ناصر، جدير بأن يكون ابن سي الطاهر.
لم ألتقِ به بعد. ولكن أتوقع أن يكون (راسو خشين..) مثل أبيه. أن يكون عنيداً ومباشراً مثله.
وإذا كان فعلاً مثله فلن ينجح حسان أبداً في تغيير رأيه.
مازلت أذكر عناد سي الطاهر وقراراته النهائية دائماً، التي لا يمكن لأحد أن يزيحه عنها.
وقتها كنت أجد في تلك المواقف شيئاً من الدكتاتورية، وغرور القائد. ثم مع الزمن، أدركت أنه كان لا بد للثورة في أيامها الأولى من رجالٍ مثل سي الطاهر، بذلك العناد، وتلك الثقة المطلقة بالنفس، حتى يفرضوا رأيهم وسلطتهم على الآخرين، ليس حباً بالجاه والسلطة، إنما للمّ شمل الثورة وعدم ترك مجال للخلافات والاعتبارات الشخصية، وحتى لا تموت تلك الشعلة الأولى وتبعثرها الرياح..
عادت ذكرى سي الطاهر فجأة. في لحظة لم أحجزها له..
وعادت طلّته، موجعة كتلك الرصاصات التي أفرغوها في جسده يوماً، وأودت به قبل أن يشهد استقلال الجزائر بأشهر.
أين هو ليحضر هذا اليوم الاستثنائي الذي سيخلف موعده أيضاَ؟
أكان قدره أن يخلف فرحتين؟
رحل كما جاء، سابقاً لزمنه، وكأنه أدرك أنه لم يخلق للزمن الآتي. كنت أعي بشيء من المرارة، أن كلّ الذين أحبّوكِ لن يحضروا عرسك هذا.
سيتغيب عن فرحك كل الذين كنتِ فرحتهم. سي الطاهر وزياد.. وناصر أيضاً.
لماذا وحدي وقعت عليّ تلك القرعة، وقادتني الأقدار إليك؟
ولماذا استدرجتني حتى هنا، باسم الذاكرة والحنين.. وذلك الحب الجنوني المستحيل، وقلت تلك الجملة التي ملأت جيوب الأحلام وهماً.. "سأكون لك مادمنا في قسنطينة..".
كيف صدّقتك.. وجئت؟
وكنت أدري انك تكذبين، وتهدينني الغيوم البيضاء.. لصيف طويل. ولكن.. من يقاوم مطر الكذب الجميل؟
هنالك أكاذيب نحاول أن نصدّقها حتى نحرج النشرات الجوية. لكن عندما تنهطل الأمطار داخلنا.. من يجفف دمع السماء؟
في الواقع كنتِ امرأة ساديّة، وكنت أعرف ذلك.
أذكر ذلك اليوم الذي قلت لك فيه: "لو خلّف هتلر ابنة في هذا العالم.. لكنتِ ابنته الشرعية!".
ضحكتِ يومها. ضحكت.. ضحكة حاكم جبّار واثق من قوّته. وعلّقت أنا بسذاجة الضحية: "لا أدري ما الذي أوصلني إلى حبك، أنا الهارب من حكم الجبابرة.. أيمكن بعد هذا العمر أن أقع في حبّ امرأة طاغية..!".
ابتسمت فجأة.. ثم قلت بعد شيء من الصمت: "مدهش أنت عندما تتحدث، تفجّر فيّ أكثر من موضوع للكتابة.. سأكتب يوماً هذه الفكرة..".
اكتبيها إذن ذات يوم.. صحيح أنها تصلح لرواية!
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 7 (0 من الأعضاء و 7 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)