نزل علينا أناوفرانسواز صمت مفاجئ. شعرت بارتباك أنوثتها. كأنما بدأت أبوابها بالانفتاح أمام ذلكالرجل الذي لم تكن توليه اهتماماً في البدء.
لا أدري من أين جاء مراد بذلكالتحليل الفرويدي, فقد اعتاد أن يقحم الجنس في كل شيء. حتى إنه ذات مرة راح يقنعناأثناء مرافعة سياسية دفاعاً عن الديمقراطية, أن الجزائريين ككل العرب ما استطاعواأن ينجزوا من الانتصارات غير تلك الشعارات المذكرة, فدفعوا من أجل فحولة الاستقلالملايين البشر, بينما استخفوا بالشعارات المؤنثة, استخفافهم بنسائهم. ولذا كان هوسمراد في المطالبة بتذكير كلمات " الديمقراطية" و " الحرية" عساها تجد طريقها إلىالإنجاز العربي.
عندما حاولت معارضة فكرته, متحججاً بانتماء زيان لجيل لا يرىالأمور بهذه الطريقة, قال:
- الإبداع وليد أحاسيس ودوافع لا شعورية وأنت لن تدريأبداً, مهما اجتهدت, ماذا كان يعني مبدع بلوحة رسمها أو بقصيدة نظمها.
قلت:
- إن كنت تعرف حياة المبدع, تدرك ما أراد إيصاله إليك. حياته هي المفتاح السريلأعماله.
عندما اشتد بنا النقاش قال متهكماً:
- بربك, كيف تحارب الذين يمنعونعنك حرية الرأي إن كنت ترفض عدم تطابقي معك في تفسير لوحة؟ " الحقيقة في الفن هيالتي يكون نقيضها حقيقة كذلك".
أكثر من قناعتي برأيه, كنت على قناعة بضرورةإبعاد هذا الرجل عن فرانسواز, حتى لا يفسد علي ما كنت أخطط له منذ شهر, خاصة أنهبعد ذلك عندما جلسنا في المقهى, راح بمزاح لا يخلو من الجدية يوضح لي ما يعتقدهشبهاً بين نوعية الأبواب, وما يقابلها من أجناس النساء. فهو يرى الأوربيات مثلا, كالأبواب الزجاجية للمحلات العصرية التي تنفتح حال اقترابك منها, بينما تشهرالعربيات في وجهك وقارهن كأبواب خشبية سميكة لمجرد إيهامك أنهن منيعات ومحصنات. وثمة من , حتى لا تستسهلهن,يتبعن بطء الأبواب اللولبية الزجاجية للفنادق التي تدوربك دورة كاملة كي تجتاز عتبة كان يمكن أن تجتازها بخطوة! وأخريات يحتمين بباب عصريمصفح, كثير الأقفال والألسنة, ولكنهن يتركن لك المفتاح تحت دواسة الباب.. كما عنغير قصد.
كان الأمر بالنسبة إليه قضية صبر لا أكثر. لكنه كان يكره مهانةالانتظار خلف باب موصد. كان يحتكم إلى حاسة الفراسة ليعرف نوعية المرأة التي أمامه, وإلى خبرة اللصوص في اكتشاف أي نوع من الأبواب عليه أن يتحدى استعصاءه! وكنت علىفرحي بوجوده معي, وحاجتي إلى ما أدخله إلى حياتي من حركة, قررت أن أجعل لقاءاتنامتباعدة, تفادياً لمناوراته الفحولية التي بدأت تحوم حول فرانسواز.
في صباحاليوم التالي, قصدت الرواق بحثاً عن فرانسواز, كما لأتأكد من أنها ما زالت على ذلكالقدر من اشتهائها إياي.
لم أكن يوماً رجلاً للمغامرات العابرة. ولا كان يروق ليالنوم في شراشف المصادفة. ولكن فرانسواز كانت تعنيني لسبب, وأصبحت تعنينيلسببين.
قد أكون تعلقت بها لحطة شرود عاطفي من أجل رجل, هي المعبر الإجباري لأيطريق يوصل إليه. لكنني الآن أريدها بسبب رجل آخر قررت ألا أدعه يأخذها مني. فقطلأنه يمتلك جسارة ليست من طبعي.
***
كان في حوزتي ذرائع جميلة تعفيني من الإحساسبالذنب, إن أنا استسلمت لعروضها المواربة.
في الواقع لم يكن لي مفر من تلكالنوايا الخبيثة لأسئلة بريئة, تطرحها عليك امرأة تضمر لك متعة شاهقة.. أو هكذاتستنتج من كلامها.
فرانسواز فتحت بجملة واحدة بوابة الشهوات الجهنمية, وتركتنيمذهولاً لا أدري كيف أوقف سيل الحمم. أبمقاومتها, أم بالاستسلام لها؟
فأمام أيخيار من الخيارين كان احتمال ندمي قائماً.
لتنجو من أسئلتك, عليك في الجنس أنتتغابى أحياناً, حتى لا تتنبه إلى كونك تذهب نحو المتعة, لأنك تحتاج إلى خيبة صغيرةتلهيك عن خيبات أكبر.
ولذا أنت تحتاج إلى أكاذيب الجسد, إلى غبائه وفسقهوتناسيه, كي تقصد النزوات المسروقة من دون شعور بالذنب.
أنت في حاجة إلى الإذعانللمتعة التي تهيئك للألم, وللألم اللذيذ المخدر الذي يهيئك للموت, مستندا إلى قولعنيف للمركيز دي ساد " لا طريق لمعرفة الموت أفضل من ربطه بمخيلة فاسقة".
وأنتستحتاج حتما إلى تلك المخيلة, لتوقظ صخب حواس ذكورية تعودت الاستكانة قهراً. تحتاجأن تضرم النار في رغبات مؤجلة دوماً. أنت المسكون بنزوات الذين يذهبون كل
█║S│█│Y║▌║R│║█
صباح نحوموتهم, يستعدون لمواجهة الموت بالصلاة حيناً, وبالآثام الأخيرة أحياناًأخرى.
غير أن قبولي دعوة فرانسواز لقضاء " وقت ممتع" كان يحمل فرحةمشوبة بذعر لم أعرفه من قبل, خشية أن تخونني فحولتي عند اللقاء. حتى إنني, قبل ذلكبليلة, تذكرت مغنية أوبرا شاهدتها تقول في مقابلة تلفزيونية إنها في الليلة التيتسبق حفلاتها تعيش كابوساً مزعجاً ترى فيه نفسها تقف على المسرح وقد فقدت صوتها, مما يجعلها تستيقظ مذعورة كل مرة, وتجلس في سريرها لتجرب صوتها إلى أقصاه, كي تطمئنإلى قوته, ثم تخلد إلى النوم.
تراني بلغت عمر الذعر الذكوري, وذلك الخوف المرضيمن فقدان مباغت للفحولة, في تلك اللحظة الأكثر احتياجاً لها, أمام الشخص الذي تريدإدهاشه بالذات؟ أكل رجل هو مغني أوبرا مذعور, لا يدري لفرط صمت أعضائه كيف يختبرصوت رجولته!
فرانسواز وجدت في تمنعي وعدم استعجالي الانفراد بها, شيئاًمغرياً ومثيراً للتحدي الأنثوي الصامت, ومثيراً أيضاً للاحترام. خاصة بعدما اعتذرتعن قبول عرضها الذي أظنه كان نابعاً من طيبتها في استضافتي بعض الوقت في بيتها, لتوفر علي مصاريف الإقامة المكلفة. قالت مثبتة حسن نواياها:
- عندي غرفة إضافيةيحدث أن يقيم فيها لبعض الوقت الأصدقاء العابرون لباريس, ومعظمهم من معارف زيان. آخر من شغلها زوجة مدير معهد الفنون الجميلة في الجزائر التي اغتيل زوجها وابنهاداخل المعهد. كانت فكرة هذا المعرض لدعم عائلات المبدعين من ضحايا الإرهاب بمبادرةمنها, ولهذا ارتأيت أن أستقبلها في بيتي لحاجتها إلى دعم نفسي كبير بعد هذهالمحنة.
لم تكن فرانسواز تدري أنها قالت العبارة التي كانت تكفي لإقناعي بأي شيءتعرضه علي بعد الآن.
سألتها مندهشاً:
- وهل زيان يقيم في بيتك؟
أجابتضاحكة:
- أجل , وإن شئت أنا من يقيم في بيته. فعندما عاد إلى الجزائر ترك ليالبيت لفترة طويلة, ثم عرضت عليه بعد ذلك أن أتقاسم معه الإيجار. لقد كان الأمريناسبني تماما. يدفع نصف إيجار البيت مقابل أن يشغله أحياناً عندما يزور باريس. إنني محظوظة حقاً. فهذا البيت جميل, ولم يعد بإمكانك العثور بسعر معقول على شقةكهذه تطل على نهر السين!
لم أعد أصدق ما أسمع. سألتها:
- وهل الشقة تطل علىجسر ميرابو؟
ردت متعجبة:
- هل زرتها؟
كنت سأبدو مجنوناً لو أخبرتها أننيسبق أن زرتها في رواية.
فأجبت بهدوء كاذب:
- لا .. قلت هذا لأنني أحب هذاالجسر, وتمنيت لو كان الأمر كذلك.
- إنه فعلاً كذلك.. ولذا بإمكانك أن تزورالشقة كلما شعرت برغبة في رؤية ذلك الجسر.
سألتها فجأة مجازفاً بكبريائي:
- أما زال عرضك قائما باستضافتي لبعض الوقت في بيتك؟
- طبعاً..
ثم واصلت:
طبعا.. كانت على خطأ. لم يكن " كل هذا بسبب جسر". وربماكانت في خطئها على صواب, مادامت قد صاحت " يا إلهي كم تذكرني بزيان".- Oh.. mon Dieu.. comme tu me rappelles
Ziane c'est fou.. tout ca pour un pont!
ذلك أن هذاالجسر ماكان بالنسبة لكلينا مجرد... جسر.
أضافت:
- بالمناسبة.. سيكون افتتاحمعرض زيان بعد يومين. أتمنى أن أراك هناك.
أجبتها وأنا أفكر في كل ما ينتظرني منمفاجآت بعد الآن:
- حتماً.. سأحضر.
█║S│█│Y║▌║R│║█
الفصل الرابع
برغم درايتي بعدم حضوره, ذهبتلحضور افتتاح معرضه الفردي, فقد كان في الأمر ما يغريني بإستهلاك احتياطي الحزنالذي أحتفظ به لحدث كهذا.
لا أظن مرضه هو الذي أفسد عليّ لقاءنا الأول. الأمر لايعدو احتفاظ الرسام بحقه في أن يخلف موعداً, حتى لو كان حفل زفافلوحاته.
فرانسواز قالت أنه يكره حضور يوم افتتاح معرض له, لأنه بضوضائه وأضوائهيوم للغرباء. ما عاد له من صبر على ملاطفة ومسايرة من يحرصون على حضور شعائرالافتتاح, أكثر من حرصهم على تأمل أعمال أخذ بعضها أعواماً من عمر الرسام. بل أنهحدث في أحد معارضه, أن طلب منها أن تتولى مع إدارة الرواق أمر تعليق اللوحاتواختيار أماكنها على الجدران, لأنه يكره أن يعلق لوحاته, حتى يمكنه زيارة نفسه بعدذلك كغريب.
هو الهارب الأبدي, لا ملاذ له سوى البياض.
كان له ما أراد. أيكونتمارض كي يجد ذريعةً للإنسحاب المتعالي.. فسقط في براثن المرض الحقيقي؟
فيغياب الرسام, كل شيء يأخذ لونه الأول. تخفت البهجة المظللة لفراشات الضوء وأناسإمتهنوا طقوس الإفتتاحات. ينتابك شعور بالفقدان, بإفتقاد شيء لم تمتلكه بعد. يجتاحكالأسى من أجل رجل لن تراه, يحجبك عنه حضوره في غيابه المريع.. غيابه الرائع.
رجلستدرك لاحقاً, أنه يكره أن يساء فهم حضوره, أن يساء تفسير كلامه. ذلك أن " الرساميين لا يجيدون فن الكلام. إنهم موسيقيون صامتون كل الوقت".
وهو هنا, كبيانو أسود مركون مغلقاً على صمته, في صالة تضج بلوحاته, ازدحمت بغيابه الصاخب, مبعثراً, متناثراً, متدفقاً على الجدران, كغيوم نفسه المنهطلة على الزوار.
لاتملك إلا أن تتعاطف معه, وهو يواجه الخسائر بفرشاة. ذلك أن هذا المعرض في فن بعثرةالحزن على الجسور والأبواب التي تصهل بها اللوحات, ليس سوى إعادة اعتبار للخساراتالجميلة.
عندما غادرت ذلك المعرض , فكرة واحدة كانت تزداد رسوخاً داخلي: أنأطارد طيف هذا الرجل حتى بيت فرانسواز, كي أواصل تباعاً لملمة سره, هو الذي يتقنأيضاً فن بعثرة الغياب.
***
تماماً, كما لو كنت بطلاً في رواية, غادرت الفندقالصغير الذي كنت أقيم فيه منذ ما يقارب الشهر, وأعددت حقيبتي لسفر مفاجئ نحو بيتكنت أظنه ليس موجوداً إلا في كتاب!
متعاقد أنا مع الجسور, مع مدن يشطرها جسر, معنساء حيث أحل يكنّ على أهبة عبور.
بذرائع العشاق, أذهب على خيول الشك الهزيلة, صوب بيت هو بيته. أقيم مستوطنة غير شرعية, فوق ذاكرة الآخرين, حيث التقى هذا الرسامحتماً مع تلك الكاتبة.
كيف ترصد ذبذبات بيت تدخله كما تدخل معتقلاً للكآبةالجميلة.
تفاجئك ألفة الأمكنة, فتستأنف حياة بدأتها في كتاب. كأنك موجودلاستئناف حياة الآخرين.
تدخله كبطل في رواية. تفتحه كما تفتح كتاباً مكتوباً علىطريقة برايل, متلمساً كل شيء فيه, لتتأكد من أن الأشياء حقيقية, أو بالأحرى لتتأكدأنك تعيش لحظة حقيقية, ولست هنا لمواصلة التماهي مع بطل وهمي. أشياء تومي لك أنكتعرفها وهي ليست كذلك . لحظات تتوهم أنك عشتها وهي ليست كذلك.
وكنت تظن أنالحياة تلفقك كتاباً, فإذا بكتاب يلفق لك حياة. فأيهما فيك الأحزن: القارئ الذيانطلت عليه خدعة الرواية؟ أم العاشق الذي انطلت عليه خديعة مؤلفتها؟
ولماذا أنتسعيد إذن؟ ما دمت بفرح غريب تفعل الأشياء الأكثر ألماً, تعاشر جثة حب, تضاجع رممالأشياء الفاضحة, باحثاً في التفاصيل المهملة عما يشي بخيانة من أحببت.
أهيمعابثة للذاكرة؟ أم تذاكٍ على الأدب؟ أم .. حاجتك أن تغار؟ كحاجتك إلى النوم علىأسرة علقت بشراشفها رائحة رجال سبقوك, كحاجتك إلى الأغطية الخفيفة, للهاث امرأةاستعادت أنفاسها على صدر غيرك, كحاجتك إلى البكاء على وسادة تنام عليها وحيداً, وكانت وسادة لرأسين.
لا أسوأ من غيرة عاجزة. غيرة متأخرة لا تستطيع حيالهاشيئاً.
لا أدري متى أصبت بكآبة المخدوعين, وقررت التوقف عن التفتيش في ذلكالبيت عن شيء, بعد أن حاولت كثيراً, على طريقة "شارلوك هولمز" أن أفك شيفرة ذلكالكتاب, مقارناً تفاصيله بموجودات الكتاب.
بحثت طويلاً عن شفاء الأشياء كي أقيممعها حواراً استنطاقياً بحثاً عن احتمالات لقاء, عن احتمالات خلاف, عن متع قد تكوناختلست في مكان ما.
كما أمام " العلبة السوداء" لطائرة سقطت, كنت أريد أن أعرفآخر كلمة قالها العشاق قبل حدوث الكارثة. من أي علو هوى ذلك الحب؟ في أي مكانبالذات؟ في أي غرفة تبعثرت شظايا المحبين؟ وهل نجا من تلك الكارثة العشقية غير ذلكالكتاب؟
فرانسواز وضعتني, بكثير من الاحتفاء, في الغرفة المجاورة لغرفتها, موضحة أنها الغرفة التي كان يشغلها زيان كمرسم. ثم أضافت بلهجة مازحة:
- أنتمحظوظ: بإمكانك أن تفرد أشياءك. قل شهرين كانت اللوحات في كل مكان , حتى هذا السريرلم يكن صالحاً للاستعمال.
سألتها متعجباً:
- وماذا فعلتما بها؟
- شاركزيان ببعضها في المعرض الجماعي الخيري, ويعرض ما بقي في حوزته من لوحات في معرضهالفردي الحالي الذي يذهب نصف ريعه للجمعية الخيرية نفسها. حاولت عبثاً إقناعهبإبقاء بعضها. إنه دائماً متطرف. أحياناً كان يرفض لسنوات بيع لوحة واحدة, وهذهالمرة رفض أن يبقي على واحدة منها. تصور.. لم تبق سوى اللوحات المعلقة على الجدران, ولو لم يكن أهداني إياها لعرضها للبيع. لعله المرض. أظنه أراد أن يتخلص منها وهوعلى قيد الحياة, ووجد لوحة لمن لا يعنيه سوى أن يعلقها على حائط زهوه. كان يردد قولرسام آخر " أنت لا تفقد لوحة عندما تبيعها بل عندما يمتلكها من لن يعلقها على جدرانقلبه بل على حائط بيته قصد أن يراها الآخرون".
ربما خوفه من أن يقع في يد هؤلاء, هو الذي جعله يعرضها جميعها للبيع, لأنه واثق من أن الذين سيشترون لوحاته, أواللوحات المعروضة لكل هؤلاء الرسامين الجزائريين,المعروفين منهم والجدد, هم حتماًأناس بقلب كبير رغم الإمكانات القليلة لبعضهم.
كانت فرانسواز تحتفظ في غرفةنومها باللوحة التي رسمها لها زيان سنة 1987 عندما تعرف عليها أول مرة كموديل فيمعهد الفنون الجميلة.
على عريها, كانت الرسمة لا تخلو من مسحة حياء تعود حتماًلريشة زيان, لا لامرأة كانت تحترف التعري, وتغطي جدران غرفة نومها بأكثر من لوحةتحمل تواقيع فنانين آخرين.
بدت لي فرانسواز امرأة لا يملها رسام. لكأنها أنثىلكل فرشاة. لفرط اختلاف شخصيتها بين لوحة وأخرى, كنت تشعر معها وكأنك تسلم نفسك إلىقبيلة من النساء.
رغم ذلك لم يكن في الأمر ما يغريبني, ولا كانت لي رغبة أن أدخلفي تحد مع الرجال الذين سبقوني إليها. فقد كنت على جوعي الجسدي, رجلاً انتقائياً فيحرماني كما في متعتي, أنا المولع بانحسار الثوب على جسد متوهم, ما وجدت في جسدهاالمكشوف مكمن فتنتي.
كنت أريد امرأة كـ " فينوس" في انزلاق نصف ثوبها. أكسونصفها, أو أعري نصفها الآخر حسب رغبتي. امرأة نصفها طاهر ونصفها عاهر, أتكفل بإصلاحأو إفساد أحد نصفيها. فبكل نصف فيها كنت أقيس رجولتي.
فرانسواز بهذاالمقياس, كانت اختباراً سيئاً للرجولة. كانت امرأة بفصلين يعاشر أحدهما الآخرأمامك: ربيع شعرها المحمر, وخريف شفتيها الشاحبتين. وكانت مشكلتي الأولى
█║S│█│Y║▌║R│║█
ثغرها: كيفأضاجع امرأة لا تغريني شفتاها الرفيعتان بتقبيلهما؟
كنت أجد شجاعتي في مواجهةشفتيها بالتفكير في زيان, الذي حتماً سبقني إلى ذلك. أخاله مثلي كان يعاشرفرانسواز, مستحضراً حياة. فهل اكتشف قبلي أن زيف القبلة أكثر بؤساً من زيفالمضاجعة؟!
حتماً, كان السرير في ذلك الموعد الأول مزدحماً بأشباح من سبقونيإليه, ووحدي كنت أشعر بذلك محاولاً استنطاق ذاكرته.
أسرّة تراكمت فيها الخطايا, تتوقع منها خرق قاعدة الكتمان. أحقاً تريد لذلك " المخدع" أن يكسر قانون الصمت.. وينطق؟
صمت الأسرّة إحدى نعم الله علينا, ما دمنا, حيث حللنا, جميعنا عابريسرير.
أدري ارتباك جسدين يلتقيان لأول مرة, ولم يبتكرا لغتهما المشتركة بعد. لكنكان واضحاً أننا ما كنا نملك الأبجدية نفسها للتحاور.
كنت أكره امرأة تصرخ لحظةالحب. ففي كل صراخ مراوغة لا تخلو من نوايا الغش النسائي. كنت لا أعرف للمتعة إلااحتمالين: أن تبكي امرأة, أو يغمى عليها. فلا متعة دون بلوغ وعي الإغماء. كطائرمحلق فارد جناحيه ولا يسمع لتحليقه خفقاً. المتعة حالة غيبوبة شاهقة الصمت.
كانتفرانسواز لا تعرف صمت كائنين لحظة توحد. كانت تموء كقطة, تنتفض كسمكة, تتلوى كأفعى, وكلبوءة تختبر ذلك العصيان الشرس في مواجهة الذكورة. كانت كل إناث الكائنات. وكنترجلاً لا يدري كيف يتدبر لجاماً لتلك المهرة الجامحة.
كان للحب مع فرانسوازمذاق الفاكهة المجففة. وكنت أحتاج فجأة إلى وحدتي, حاجة رجل مهموم إلى تدخين سيجارةفي الفناء.
انتهى الحب. وها أنا أرتعد عارياً كجذع شجرة جرداء.
لا أكثر كآبةمن فعل حب لا حب فيه, بعده تعتريك رغبة ملحة في البكاء. إنها خيانتك الأولى لامرأةقد تكون خانتك منذ ذلك الحين كثيراً. وأنت لست حزيناً من أجلها.. بل من أجلك. بعدتلك المتعة, تشعر فجأة بالخواء, ينقصك شيء ما, لا تدري ما هو.
كنت تظن أنكبنزوتك الأولى تلك, ستمحو, كما بإسفنجة, آثار ما علق بك من زرقة الألم. ولكن, كمالو كنت تمرر إسفنجة لتنظيف سبورة من الطباشير, إذا بك تزيد اللوح ضبابيةوتلوثاً.
أليست هي التي قالت مرة أثناء حديثها عن معاشرة زوجها مكرهة:" لا بد أنتوضع على أبواب غرف النوم " ممنوع التلويث" كما توضع في بعض الأماكن شارات لمنعالتدخين.. ذلك أننا نلوث دائماً بمن لا نحب".
لماذا مارست الحب إذن؟ ولماذا كنتعلى عجل؟ ألانك لفرط ما عاشرت جسدك مكتفيا بمتعته السرية, لم تعد تعرف التعامل معجسد غيره؟
أذكر ذلك الصديق الذي قضى في سجن عربي ستة عشر عاماً بتهمةالانتماء إلى حزب محظور, تزوج في الأعوام الأخيرة, من محامية أحبته وانتظرتهطويلاً. كم من الأعوام قضيا يمنيان النفس بلقاء حميمي جميل, لا يكون فيه للحارس حقالتلصص على وشوشة متعتهما!
وذات يوم أطلق سراح الرجل. هكذا , فجأة, ذات عيدقرروا أن يهدوه الحرية. ألقوا به أمام السجن مع صرة تضم بؤس متاعه. وما كان يدريأنه في تلك الأقبية الرطبة قد فقد وإلى الأبد عنفوان فحولته, إلا عندما احتضن بولعالسجين العاشق, تلك المرأة التي حلم بها طويلاً.
أثناء تحسسه لجسد الحرية, ارتطمبعنة عبوديته, مكتشفاً أنه ما عاد قادراً على معاشرة أحلامٍ لا تمت إلى جسدهبصلة!
منذ مدة سمعت بخبر انفصالهما, بعد أن أخفقت الحياة في ترميم ما ألحقتهالمعتقلات العربية من عطب بحبهما.
أثناء هدر عمرك في الوفاء, عليك أن تتوقعأن يغدر بك الجسد, وأنت تتنكر لك أعضاؤه. فوفاؤك لجسد آخر ما هو إلا خيانة فاضحةلجسدك.
بغروب آخر يوم في خريف القلب, ندخل في سباتٍ طويل لشتاءٍ عاطفي, مقتاتينبدسم الذكرى ومجزون الأمل الذي ما فتئنا كحيوانات القطب الشمالي نجمعه تحسباًلمواسم البؤس الجليدية.
ذات جليد.. لن يسعفك اختباؤك تحت الفرو السميكللأمنيات.
رويداً.. يضمحل قلبك العاطل عن الحب. تتقلص فحولتك العاطلة من التمتعوالإمتاع, وإذا كل عضو فيك لم تستعمله, قد اضمحل.
تدري أنك مدين في الماضي للحبوحده بإنجازاتك الفحولية الخارقة, لكن زمن العشق ولى.
خيباتك السابقة علمتكالاحتراس من حب يؤسس نفسه على كلمة " إلى الأبد". حب بعد آخر, مات وهمك بحب حدالموت, حب حتى الموت.
كل مأساتك الآن تدور حول هذا الاكتشاف!
***
في اليوم التالي, قصدت السوق المجاور لملء البرادوالتبضع بالمواد الغذائية, فلم يكن بإمكاني الإقامة في بيت, بدون الإنفاق عليه.
كنت أتجول مكتشفاً مساحيق فرح نهايات الأسبوع على وجه باريس المرتجفة برداً, عندما استوقفني محل جزار يزين خطاطيفه الحديدية برؤوس الخنازير الوردية المعلقة, حاملة بين أسنانها قرنفلة ورقية حمراء.
بقيت للحظة أتأملها, متسائلاً أهي إهانةللقرنفل أن يوضع في فم خنزير؟ أم الإهانة أن يتحول رأس كائن حياً إلى مزهرية لدىجزار؟
أعادني المشهد إلى السبعينات, يوم كان جيراننا الأوربيون الآتون منأوربا الشرقية, لا ينفكون يخططون بحماسة ولهفة, لنهايات الأسابيع التي يذهبون فيهازرافات لاصطياد الخنازير البرية في الغابات المنتشرة على مشارف العاصمة.
اليوم, لا أحد يجرؤ على القيام بجولة صيد, مذ أصبح القتلة ينزلون مدججين بالسواطير والفؤوسوأدوات قطع الرؤوس, ليصطادوا ضحاياهم من البشر من بين القرويين العزّل, ويرحلونتاركين للخنازير البرية مهمة قطع أرزاق من بقي على قيد الحياة, بإفساد وإتلافمحاصيلهم...
كان اصطياد رأس خنزير ومطاردته في الغابات, يأخذ من الصيادين آنذاكوقتاً وجهداً أكثر مما يأخذه اليوم قطع رؤوس عائلة بأكملها من القرويين الذين يعرفالقتلة تماماً مواقع أكواخهم ولا يجدون صعوبة في ذبحهم كالنعاج.
وكانت العودةبرأس خنزير واحد, تملأ الصيادين الأوربيين آنذاك زهواً. لكن صيادي الطرائد البشريةيلزمهم كثير من الرؤوس كي يضمنوا فرحة وجودهم على الصفحات الأولى للجرائد, فهميشترون برؤوس الآخرين صدارة خبر تتناقله وكالات الأنباء.
هكذا ولدت ظاهرة الرؤوسالبشرية المعروضة للإشهار أ, للاستثمار, وأخرى للفرجة أو للعبرة, كتلك التي حدثلأمراء الموت عندما وجدوا متسعاً من الوقت, أن زينوا بها أشجار القرية كما أشجارأعياد الميلاد, وفخخوها لتكون جاهزة لتنفجر في أول من يحاول "قطف" رأسقريبه.
في حرب "الرؤوس الكبيرة" التي بسقوطها يسقط وطن في مطب التاريخ, وتلكالصغيرة التي يلزم منها الكثير لتصنع خبراً في جريدة, وتلك النكرة التي لن يسمعبقطافها أحد, لا تستطيع إلا أن تتحسس رأسك, حتى وأنت أمام واجهة جزار في باريس. وتحزن من أجل
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)