- منذ متى تعرفه؟
- منذ زمن بعيد.. كأنني عرفته دوماً. عرفته في صغري الأول عندماكان يزورنا في تونس بعد وفاة أبي, ثم أضعته بعض الوقت, وعدت فإلتقيت به في قسنطينةبمناسبة زفاف أختي حياة. لا أفهم حتى اليوم كيف قبل أن يحضر ذلك الزفاف.. كانتالمرة الوحيدة التي اختلفنا فيها.. لكن كان له دوماً في قلبي شيءً من ذكرى هيبةأبي.
عندما استيقظنا, ذهب ناصر ليأخذ حمامه الصباحي ويحلق ذقنه. سألتهمازحاً ونحن نتناول قهوة الصباح:
- هل حلقت لحيتك خوفاً من المضايقات؟
رد وهويحرك قهوته بتأن:
- ماكانت لي يوماً لحية لأحلقها. أنا أحب قول الإمام علي رضيالله عنه " أفضل الزهد إخفاءه". بعض اللحى عدة تنكرية, كتلك اللحية التي حكمتنا فيالسبعينات. أنت حتماً تعرف صاحبها, فقصته معروفة لدى رجال جيله الذين يروون أنه يومكان شاباً تلقى ضربة بالموسى في وجهه في أحد مواخير قسنطينة, فأخفاها منذ ذلك الحينبلحية غطت عاره بهيبة.
سألني بعد ذلك عن عنوان المستشفى الذي يتعالج فيه زيان, وقال متأسفاً إنه كان يتمنى أن يذهب ليعوده اليوم.. لولا أنه مشغول باستقبال والدتهوأخته.
هكذا , وقد نصبت فخاخ المصادفة في كل مكان, كان علي بعد الآن أن أنتظرمجيئها بصبر صياد, أو بصبر مصور ينتظر ساعات ليصطاد صورة. فالصورة كما المرأة, لاتمنح نفسها إلا لعاشق جاهز أن يبذر في انتظارها ما شاءت من العمر.
عدت إلى البيتسعيداً, فمراد من النوع الذي تسعد عندما تلتقي به, وتسعد أيضاً عندما تفارقه وتعودإلى سكينتك.
غير أنني لم أعد إلى سكينتي خالي اليدين. استعرت منه شريطين: ذاكالذي رقص عليه, وآخر كنت أنوي البكاء عليه. اعتاد الحزن عندي أن يرافق كل فرحة, كمايصاحب فنجان القهوة كوب الماء المجاني الذي يقدمه لك نادل عندما تطلب قهوة فيفرنسا.
احتفت فرانسواز بعودتي. شعرت أنها افتقدتني.
سألتني عن مراد. قلت لهاإنه هايص وحايص كعادته. ضحكت:
وأن يكون هذا الرجل "طريفاً" أو "لطيفاً" حسب قولها, لم يكن ليثير شكوكي بعد. في الواقع, كنت دائم التفكير في إحكامفخاخ المصادفة.- Il est marrant ce type..
قلت حتى أهيئها لتواجدي المكثف بعد الآن أكثر في قاعةالمعرض:
- هل من إزعاج إن ترددت هذين اليومين على الرواق؟ إنني أحتاج أن أرىاللوحات, وأن ألتقي بزوار المعرض لأكتب عن زيان بطريقة أكثر حيوية.
- فكرةجميلة.. طبعاً لا إزعاج في ذلك. كارول تجدك لطيفاً, وسألتني عنك البارحة.
- حقاً؟ بأية مناسبة؟
- أخبرتها أنني قد أسافر في نهاية الأسبوع إلى جنوب فرنسالأزور والدتي. سألتني إن كنت ستسافر معي فأجبتها أنك على الأرجح لن تأتي.
برغمأنني ما كنت رافقتها, لو عرضت علي ذلك, مفوتاً علي فرصة لقائي بحياة, آلمني أن تزفلي الخبر بتلك الطريقة.
ثم عدت وعذرتها, فأنا أقيم معها منذ بضعة أيام فقط, وهذالا يعطيني حق ملاحقتها وإحراجها أمام والدتها.
اتجهت فرانسواز نحو طاولة ركنفي الصالون, عليها صور مختلفة الأحجام , وعادت بواحدة لسيدة ستينية, قالت وهي ترينيإياها:
- إنها ماما.. أعز مخلوق عندي. أتردد عليها كثيراً لمواساتها منذ فقدتأبي في السنة الماضية.
- يؤسفني ذلك.
أخذت منها الصورة. تأملتها بمحبة ثماستطردت:
- هي أجمل من أن تطوقي ابتسامتها بهذا البرواز الفضي الضخم.
- أحبه.. قديم وثمين. اشتريته قبل سنتين من سوق البراغيث.
- ربما كان ثميناً لكنهلا يليق بها. الناس الذين نحبهم لا يحتاجون إلى تأطير صورهم في براويز غالية. إهانةأن يشغلنا الإطار عن النظر إليهم ويحول بيننا وبينهم. الإطار لا يزيد من قيمة صورةلأنها ليست لوحة فنية وإنما ذكرى عاطفية, لذا هو يشوش علاقتنا الوجدانية بهم ويعبثبذاكرتنا. الجميل أن تبقى صورهم كما كانت فينا عارية إلا من شفافية الزجاج.
صمتتفرانسواز مأخوذة بكلامي, ثم قالت:
- ربما كنت على حق. هذا المنطق لا يدركه إلامصور.
صححت لها:
- أو محب!
ثم واصلت واجداً في اقتناعها مناسبة لالتفاتةجميلة:
- أتسمحين أن أهديك بروازاً لهذه الصورة. إن كانت الأعز عندك, ميزيهابألا تضيفي إليها شيئاً.
طوقتني بذراعيها وقالت وهي تضع قبلة على خدي:
قلت مدعياً التعجب:- Tu sais que je taime.. toi.
كيف ترد علة امرأة تطوقك باعتراف في صيغةسؤال جميل " أتدري أنني أحبك؟" إلا بسؤال آخر " أحقاً هذا؟" متفادياً أسئلة أخرى قدتفضي بك إلى السرير في وضح النهار مع امرأة دائمة الاشتعال.- C'est vrai ca?
قلت وأناأداعبها:
- أجلي أسئلتك إلى المساء. سأجيب عنها واحداً.. واحداً. لكن بهدوءوبدون صراخ إذا أمكن!
ضحكت وقالت:
- أيها اللعين.. سأحاول!
- سأزور زيانبعد الظهر. لم أطمئن عليه منذ يومين.
- حسن.. فقد صدر مقال جيد عن معرضه سيسعدهحتماً الإطلاع عليه. خذه إليه معك. أخبره أيضاً أن ثلاثاً من لوحاته بيعت البارحة. كانت نهاية أسبوع مثمرة بالنسبة للرواق.
ثم أضافت:
- لم أعد أدري أيجب أنأفرح أم أحزن عندما تباع له لوحة. من ناحية يذهب ريعها في عمل خيري.. ومن ناحيةأخرى أشعر كأنه يقوم بمجزرة تجاه أعماله بتصفيتها جميعها خلال معرضين بينهما أقل منشهر.. أنا لم أسمع بمذبحة فنية غريبة كهذه.
أجبتها وأنا أتنهد:
- أتمنى أنهيعي ما يفعل!
كانت الساعة الثانية ظهراً عندما قصدته.***
صادفت ممرضةغادرت غرفته. سألتها عن وضعه الصحي.
قالت:
- في تحسن.
ثم واصلت:
- إنكنت من أقاربه أقنعه بعدم مغادرة المستشفى هذا الأسبوع.
█║S│█│Y║▌║R│║█
لماذا ؟ هل طالب هوبذلك؟
- أجل.. يريد أن يزور معرضه ويجمع لوحاته عند انتهاء المعرض. لكن الطبيبيخشى أن يتسبب هذا الجهد في انتكاس صحته.. هل هو رسام؟
- رسام كبير.
أريتهاالمجلة التي كنت أحملها في يدي عسى ذلك يمنحه حظوة خاصة لديهم.
قالت مكتفيةبرؤية صورته وعنوان المقال:
- فعلاً.. يبدو كذلك. يحتاج إذن لعناية أكثر, فالفنانون مفرطو الحساسية.
عندما دخلت عليه, أضاءت وجهه فرحة المفاجأة. نهض منسريره يسلم علي بحرارة. وجلس قبالتي على الكرسي الجلدي.
بادرني:
- وَينك.. حسبتك نسيتني!
- طبعاً لا.. انشغلت ببعض الأمور.
لم أشأ أن أخبره بوجود ناصرفي باريس. وماكنت لأخبره طبعاً بوصول حياة ووالدتها اليوم.
واصلت:
- أراكاليوم أفضل.. حتى الممرضة تجد صحتك في تحسن.
- ربما.. لكنني سأكون أحسن لو زرتالمعرض. أحب أن أرى لوحاتي مرة أخيرة قبل أن تباع, وأن أجمع ما بقي منها.
مددتهبالمجلة:
- بالمناسبة أرسلت لك فرانسواز معي مقالاً صدر في مجلة " سثزء" عنمعرضك. اطلعت عليه في المترو.. مقال جيد.
- سأقرؤه لاحقاً.
قلت وأنا أبحث عنشيء آخر قد يسعده:
- أحضرت لك أيضاً الصورة التي منحوني جائزة عليها, وطلبت منيأن أحضرها لك.
دبت فيه حماسة مفاجئة. أخذها مني, وراح يتأملها بعض الوقت:
- مؤثرة حقاً. الموت فيها يجاور الحياة, أو كأنه يمتد إلى ما يبدو حياة برغم أنه لايمثل فيها سوى جثة كلب.
قاطعته, مستأذناً منه فتح المسجل حتى لا أفوت شيئاً منحواراتنا.
أجاب بشيء من التعجب:
- افعل إن شئت. ] ثم واصل[ أفهم أن يكونوامنحوك جائزة على هذه الصورة. في الحرب يصبح موت حيوان موجعاً في فجيعة موت إنسان, ككلب تجده ميتاً مضروباً على رأسه بالحجر بعد أن قتله الإرهابيون ليتمكنوا من دخولبيتك. جثته مشروع جثتك.
ثمة صورة تحضرني الآن, هي منظر جثث الحيوانات التي كناأيام حرب التحرير أثناء اجتيازنا الحدود الجزائرية التونسية نصادف جثثها تكهربتوعلقت في الأسلاك , أثناء محاولتها اجتياز خط موريس, أو تبعثرت أشلاؤها وهي تمر فوقلغم. دوماً كنت أرى فيها إحدى احتمالات موتي أو عطبي. ولم يخطئ إحساسي إذ انفجر لغموذهب يوماً بذراعي.كل جثث الكائنات التي كانت حية, تتشابه. ولذا الذين يسرعون بدفنكلب أو قط ما كانوا يسرعون لإطعامه يوم كان حياً. يفعلون ذلك لأنهم يروا في جثتهرفاتهم.
- يسعدني رأيك. عذبتني التأويلات الكثيرة لهذه الصورة. خاصة من الصحافةالجزائرية التي رأت بعضها أن فرنسا كرمت في هذه الصورة كلاب الجزائر.. لاموتاها.
أجابني مبتسماً:
- وهذا أيضاً تأويل فيه صواب. مع أن البعض لا يأخذمن التأويلات إلا ما يضرك . لمتعة إفساد فرحتك بالنجاح. ولكنهم هنا يستندون إلىحقيقة أن الإنسان الغربي أكثر شفقة على الحيوان منه على الإنسان, مما جعل المتسولينوالمشردين يخرجون إلى التسول بصحبة كلب وأحياناً كلبين. تراهم جالسين على الأرصفةمع كلابهم الضخمة النائمة أرضاً بعدما أدركوا أن الكلب شفيعهم لدى المارة. سمعتأحدهم يقول مرة على التلفزيون إن الناس يتصدقون على كلبه وليس عليه, وإن إحسانهمليس رأفة به وإنما بكلبه, فقبله كان يموت جوعاً. في بلاد يحسن فيها الإنسان للحيوانلا لصاحبه, من المنطقي أن يكرم جثة كلب.. لا صورة طفل بائس جواره!
أصابتني حججهبحزن إضافي. لكنها أضافت إلى إعجابي به انبهاراً بمنطقه السليم في التحليل وهو يقولبعد شيء من الصمت كأنه وقع على اكتشاف جديد:
- ثمة مع الأسف احتمال آخرلاختيارهم هذه الصورة , إنها شهادة عن وفاة الثورة الجزائرية, متمثلة في وحدة مصيرالإنسان والكلاب في الجزائر بعد سبع سنوات من النضال, وأربعين سنة من الاستقلال. فيها إراحة للضمير الفرنسي وتشف مستتر.
قلت بنبرة أسىً قاطعاً صمت حزنفاجأنا:
- ما عاد يعنيني أن أعرف شيئاً عن هذه الصورة. بل كيف أتخلص من مال هذهالجائزة بعمل يعود ريعه لضحايا الإرهاب.
ثم أضفت وقد تذكرت شيئاً:
- بالمناسبة : ثلاث من لوحاتك بيعت البارحة.
قال بسعادة:
- جميل.. لا أدريأياً منها بيعت.. لا يهم. أظنها ستباع جميعها.
قلت بعد شيء من الصمت:
- لاأفهم أن يتخلى رسام عن كل لوحاته دفعة واحدة. في هذا الفقدان الكامل والفوري إشعاربالفاجعة وإصرار على الخسارة.
- أتعتقد هذا؟
صمت حتى ظننت أنه لن يضيف شيئاً. لكنه واصل بدون توقف, وبحزن هاتف يرن طويلاً ولا يرفعه أحد:
- الفاجعة.. أنتتخلى الأشياء عنك, لأنك لم تمتلك شجاعة التخلي عنها. عليك ألا تتفادى خساراتك. فأنت لا تغتني بأشياء ما لم تفقد أخرى. إنه فن تقدير الخسائر التي لا بد منها. ولذا, أنا كصديقي الذي كان يردد " لا متاع لي سوى خساراتي. أما أرباحي فسقطمتاع",أؤثر الخسارات الكبيرة على المكاسب الصغيرة. أحب المجد الضائع مرةواحدة.
لو تدري كم من الأمور الغريبة كنت شاهداً عليها. لو تدري لبلغت عمق رحمالحكمة.
صمت قليلاً, ثم واصل:
- في 16 نوفمبر الماضي, شب حريق ليلاً فيالقاعة, حيث كان يعرض الرسام المغربي المهدي القطبي أعماله في مدينة ( ليل). أنا لاأعرف هذا الرجل. لكنه أصبح صديق فجائعي عندما قرأت في الصحف أن معرضه ذاك كان يضمخلاصة خمس وعشرين سنة من أعماله الفنية.
ثلاثون سنة قضاها في باريس مثابراً علىإنجاز لوحات أخذت منه أجمل أعوام عمره, حرم فيها نفسه من كل شيء لينجز معرضاً بدلأن يحضره الزوار زارته النيران.
في هذه الحالة, قد تقول, ليت اللصوص هم الذينحضروا بدل النار. ربما في الأمر عزاؤك. هكذا عودتنا الأخبار التي تنقل لنا بينالحين والآخر سرقات لأشهر اللوحات. غير أن السرقات كما الحريق, قسمة ونصيب, لايحددها قدر اللوحات بل قدر أصحابها وشأنهم, ولذا أنت لن تسمع يوماً بنار التهمتلوحات بيكاسو أو فان غوغ.. كما لن تسمع بسارق غامر بسرقة لوحاتي!
قلت كمنيتمتم:
- غريب هذا الأمر!
قال متهكماً:
█║S│█│Y║▌║R│║█
ثمة أقدار أكثر غرابة تذهب فبهااللوحات بنفسها إلى أعدائها وسارقيها. اسمع هذه القصة العجيبة: لي صديق عراقي يقيمفي أوربا منذ عشرين سنة. رجل مهووس بالبصرة كهوسي بقسنطينة. لا يرسم إلا مدينته, لايتحدث إلا عنها. وكان لشهرته, يعرض الكثيرون عليه شراء لوحاته تلك. وعلى حاجته كانيرفض ويقول: " إنني أحتفظ بها لذلك اليوم الذي يتحرر فيه العراق من طغاته, فأهدييومها لوحاتي إلى متحف البصرة, مكانها الحقيقي".
ذات يوم زارته سيدة كويتية ثريةمشهورة بولعها باقتناء الأعمال الفنية وحبها لمساعدة المبدعين العرب في المنافي. وعبثاً حاولت إغراءه بشراء لوحاته, غير أنه أمام خوفه أن تتشرد لوحاته بعده, وثقةمنه في تقدير تلك السيدة للفن, قبل عرضها في أن تحتفظ بها وتبقى في حوزتها حتى "تتحرر البصرة" فتسلمها بنفسها إلى متحف المدينة.
غير أن الذي حدث لا يمكن حتىلسينمائي أن يتصوره. بعد سنة من حيازتها اللوحات, قامت جيوش صدام بغزو الكويت, وأثناء احتلالهم قصرها وقعوا على لوحات الرسام, فأخذوها غنيمة حرب إلى العراق حيثاختفت أخبارها مع المختفين والمخطوفين. وربما تكون أعدمت نيابة عن صاحبها المحكومعليه بالإعدام منذ عشرين سنة! أو ربما تكون زينت قصور الطغاة أنفسهم, أو قد تكونبيعت بسعر رخيص في سوق الخردة. فهكذا كان يفعل النازيون الذين كانوا عندما يريدونإذلال رسام كبير يصادرون لوحاته ويبيعونها بأسعار زهيدة لا تتجاوز أحياناً الثلاثينماركاً!
كما ترى.. ثمة حكمة لا تبلغها إلا في عز وحدتك وغربتك, عندما تبلغ عمراًطاعناً في الخسارة. تلزمك خسارات كبيرة لتدرك قيمة ما بقي في حوزتك, لتهون عليكالفجائع الصغيرة. عندها تدرك أن السعادة إتقان فن الاختزال, أن تقوم بفرز مابإمكانك أن تتخلص منه, وما يلزمك لما بقي من سفر. وقتها تكتشف أن معظم الأشياء التيتحيط بها نفسك ليست ضرورية, بل هي حمل يثقلك. ولأنني وصلت إلى هذه القناعة قررت أنأبيع جميع لوحاتي. حتى اللوحة الأحب إلى قلبي عرضتها للبيع, وضعت عليها إشارة توهمأنها محجوزة, في الواقع, أنا حجزتها خشية أن يشتريها من ليس أهلاً لها. إنهاالوحيدة التي يعنيني أ، أعرف لمن ستكون. هل ستعلق على جدار قلب, أم على حائطبيت.
في النهاية, عندما تبدأ في الاختزال تكتشف أن عمرك كله قد يختصر في إنجازواحد. أما الأكثر ألماً, فأن تترك إنجاز عمرك لقريب لا يقدر قيمته. يرثه منك بحكمصلة الدم لا صلة الفن.
هل يجوز أن أترك أعمالي لابن أخي الإرهابي, الذي قد يكونفنانون وكتاب قد قتلوا على يده؟ إن من يقتل بشراً لا يؤتمن على شيء.
ثم فجأةصمت, ذلك الصمت الذي يحدث فيك أثراً أكثر من الكلمات.
ذهب بي التفكير وقتهابعيداً. جمعت شجاعتي وقلت له:
- أريد أن أشتري منك هذه اللوحة.. هل تبيعنيإياها؟
فوجئ بسؤالي. أجاب بذكاء من عثر على مخرج:
- ولكنك لا تدري عن أيةلوحة أتكلم. كيف أثق في حبك للوحة لا تعرفها!
أجبته:
- أنا أحب كل أعمالك.. وهذه اللوحة خاصة. وقفت أتأملها طويلاً في المعرض ولم أفهم أن تكون بعتها!
أصلحمن جلسته, ثم قال بنبرة متعجبة:
- تعرفها؟ كيف لك أن تعرفها؟ ثمة سبع عشرة لوحةمن أعمالي عليها إشارة حمراء تقو إنها بيعت!
أجبته بعناد جميل:
- ألا يشفع ليعندك أنني عرفتها من بين 17 لوحة؟!
رد مستسلماً وقد حشرته في المربعالأخير:
- إن دليتني عليها حقاً.. فهي لك!
ثم أضاف بعد صمت, كمن يريد أن يكونكبيراً في هزيمته:
- أقصد.. هي لك بدون مقابل!
- بل مقابل كل ما بقي لي منمال تلك الجائزة.
ثم واصلت في محاولة لإقناعه بمكاسبه:
- صفقة جميلة. أملكمالاً أريد أن أتخلص منه في عمل خيري.. وأنت تملك لوحة لا تدري لمن تتركها. بهذاتصنع سعادتنا نحن الثلاثة, أنا , وأنت , والناس الذين سيذهب ريع هذه اللوحةلهم.
ثم أضفت, وفكرة مجنونة تعبر ذهني:
- وربما تصنع سعادة شخص رابع.
- من؟
- المرأة التي قد أهديها إياها!
غير أني استدركت خشية أن أجعله يعدل عنرأيه:
- لا تخش على لوحتك.. إنها سيدة الجسور.. ككل نساء قسنطينة!
لعلي قلتله كل شيءدفعة واحدة, أو قلت أكثر مما يجب أن أقول في جلسة واحدة.
بدا لي للحظةحزيناً, حزن محارب تخلت عنه زوجته وهو في الجبهة.. ويعرف ذلك.
لكنه كان في مشهدهذاك, ذكياً كما ينبغي, متغابياً كما يليق, متهكماً حتى لكأن حزنه يدافع عن نفسهبالسخرية.
قال بصوت خافت الإضاءة, كفنار بحري في ليل ممطر:
- يا مغبون.. لاتحب امرأة تحب الجسور. الجسر لا يصلح لتعمر بمحاذاته بيتاً. هو لا يصلح سقفاًلمأواك. أن تبني بيتاً على طرف جسر. كأن ترفع الكلفة بينك وبين الهاوية!
كانمريضاً بحكمته المتهكمة حتى لكأنه يعاني منها.ذكياً ذكاء المرض الأخير الذي يمنحكفرصة التفكير. يجعلك تتنبه لما لم تكن تراه من قبل.
ألأن المرض يعيد الإنسانطفلاً. يستعيد المرض حدس الأطفال في معرفة من يحبهم ومن يكذب عليهم؟
كنت واثقاًأنه أحبني منذ اللقاء الأول. لكن ماذا كان يعرف عني هذا الرجل المحتفي بي كقريب أوصديق كما لو كان ينتظر مجيئي, هو الذي لم أصادف أحداً يعوده؟ حتماً, هو لم يصدقأعذاري الصحفية في طلب مقابلة. لكن, كان يتحدث إلي كما لو كان يحادث صحفياً حيناً.. وصديقاً أحياناً أخرى, بدون أن يغفل أثناء ذلك الغريم الذي كان يتوجسه في.
سألتهشبه معتذر:
- إن كان يزعجك أن أهدي هذه اللوحة لشخص آخر سأحتفظ بهالنفسي.
ضحك متهكماً, وقال ذلك الكلام الذي لم أختبر صدقه إلا لاحقاً:
- لاتهتم.. حتى أن تكون اللوحة لك, فلست من يقرر قدرها. أنت لست سوى يد في عمر أشياءستتناوب عليها أيد كثيرة. كل شيء يغير يد صاحبه, وأحياناً يستبدلها بيد عدوه. امرأتك, وظيفتك, بيتك, مقتنياتك, كل شيء لك سينتقل إلى غيرك شئت أم أبيت. المهم ألاتدري بذلك. ولذا عليك باكراً أن تتمرن على تقبل الخيانة.
صمت قليلاً ثم واصل وهويحرك كتفه الأيسر مشيراً إلى ذراعه المبتورة:
- عندما تهجرك أعضاؤك, وتتخلى عنكوهي من لحمك ودمك, عليك ألا تعجب أن يتخلى عنك حبيب أو قريب أو وطن.. فما بالكبلوحة؟
شعرت كأنما الحزن رفعني إلى عمره, أنني شخت في لحظات, وأفلست وأنا أراهيستعرض خساراته.
قلت:
- أحسدك.. لم أعرف قبلك رجلاً على هذا القدر منالحكمة.
رد بتهكمه الموجع:
█║S│█│Y║▌║R│║█
سأجيبك بقول أحبه في الكتاب المقدس : " مادمتسأنتهي إلى مصير الجاهل.. فلماذا كنت حكيماً؟"
كنت على وشك مغادرته حين نادانيلأول مرة:
- خالد...
ثم واصل ممازحاً كمن لا يعنيه جوابك بقدر ما يعنيه ألاتستخف بذكائه:
- أما زال اسمك خالد؟
- أحياناً..
- وأحياناًأخرى..؟
قلت متهرباً من سؤاله:
- في معظم الأحيان اسمي خالد بن طوبال.. الاسمالذي يشبهني أكثر.. في الواقع أخذته من رواية.
وقبل أن أواصل, قاطعني قائلاً كماليوفر علي جهد البحث عن ذريعة:
- أتدري لماذا انتحر خالد بن طوبال في رواية مالكحداد " رصيف الأزهار لم يعد يجيب؟" قلت معتذراً:
- في الواقع, قرأت هذه الروايةمنذ زمن بعيد ونسيت أحداثها.
قال:
- رواية صغيرة من مائة صفحة. لا يحدث فيهاشيء تقريباً, عدا انتحار بطلها في آخر الرواية, عندما علم أثناء وجوده في فرنسا منالجرائد, أن وريدة زوجته التي يعشقها وقاوم من أجلها كل إغراءات مونيك, مستعجلاًالعودة إلى قسنطينة ليراها, هربت أثناء غيابه مع أحد المظليين الفرنسيين, وانفضحأمرها عندما ماتت معه في حادث. ولذا يلقي خالد بنفسه من القطار. شخص غيره كان فكرفي طريقة أخرى للموت, لكن القسنطيني الذي أمه صخرة وأبوه جسر, يولد بعاهة روحية, حاملاً بذرة الانتحار في جيناته, مسكوناً بشهوة القفز نحو العدم, وتلك الكآبةالهائلة التي تغريك بالاستسلام للهاوية.
ليست الخيانة هي التي كانت سبباً في موتخالد بن طوبال, إنما علمه بها. كان عليه ألا يدري, غير أن خالد بن طوبال في كلالروايات يدري.. لأن وريدة التي , حسب تعبير مارغريت دوراس في إحدى رواياتها." عقدتقرانها على الريح" تخونه في كل رواية مع مظلي جديد. وفي كل الروايات يموت خالدمرتين: مرة بسبب جيناته القسنطينية.. ومرة بذكائه!
ماذا كان علي أن أفهم من كلامرجل ينصب لك بين الكلمات فخاخ الصمت, وبين صمت وصمت يهديك مفك تأويلالألغام.
سألني فجأة:
- هل أنت قسنطيني؟
قلت كمن يعترف بخطيئة:
- أجل..
- ما دام ليس في إمكانك تغيير جيناتك.. لا تحب امرأة تحب الجسور. كل حبقسنطيني يقف على حافة المنحدرات العاطفية.
يا لهذا الرجل.. فقد غفلة الصحة, لكنهاكتسب فطنة المرض. وعبثاً حشرت حواسي لألتقط ما يمكن أن يشي بما جئته متقصياًإياه.
كرجال جيله, كان به ورع عاطفي, هو لن يكاشفني, ولا أنا سأسألهعنها.
ربما يكون تعرف علي بذكاء القلب وحدسه. لكننا منذ البدء جعلنا التغابيبيننا ميثاق ذكاء, أو ميثاق كبرياء.
كنت سعيداً بما لا أعرفه عنه, سعادتي بما لنيعرفه عني.
كنا هناك, لأن كلانا خالد بن طوبال, وهذا الأمر, الوحيد الذي كانكلانا يعرفه.
ما كدت أعود إلى البيت, حتى اتصلت بمراد متذرعاً بالاطمئنانعلى وصول أم ناصر وسلامتها.
قال:
- وصلت ظهراً صحبة أخته, وناصر سيبقى لقضاءالأمسية معهما.
تنفست الصعداء. سألني بعد ذلك:
- متى نراك؟
وجدتني فجأةعلى عجل. قلت له شبه معتذر:
- سأكون مشغولاً هذه الأيام.
ثم أضفت:
- الحالة مخلّطة شوية.
ودعني مراد مازحاً أو ناصحاً وهو يقول:
- " خلهاتصفى".
طبعاً ما كان يدري أنها كانت " مخلّطة بكراع كلب". ولا مجال لأزيد عليهاخلطة أخرى!
كان السؤال الأول: كيف بإمكاني بعد الآن وبالقدر الأدنى منالأضرار ومن الشبهات, أن أدير علاقات متداخلة متشابكة مع بعضها البعض, خلقتهامصادفة تواجدنا جميعاً في باريس, حتى أصبحت تحتاج إلى شرطي القدر لتفادي حوادث سيرالمصادفات!
فبقدر إصراري على رؤية حياة, كنت لا أريد أن أفقد احترام ناصر, ولاأن أثير شكوك زيان أو أسبب ألمه, ولا أن أخسر علاقة جميلة تجمعني بفرانسواز.
ثمةأيضاً مصيبة الدخول في مدار حب محفوف بالمخاطر والمجازفات, مع امرأة تلاحقها دائماًفتنة الشائعات, وتسبقها حيث حلت عيون المخبرين وأجهزة التنصت. وأنت دوماً خائفعليها منها.. خائف منها عليك!
أن تحب امرأة يحكم زوجها بلداً, بماله ومخبريه, يالغواياتك الجميلة المكلفة.. يا لجنونك يا رجل!
لم أستطع ليلتها معاشرة فرانسواز. كان جسدي سبقني وراح يبحث عنها في عناوين الفنادق. كيف لي أن أنام وأنا بكاملترقبي, كأني ما خلعت يوماً انتظارها. أكنت أفتقدها لأقاصص نفسي باشتياقها بعد أنعذبني الامتلاك المؤقت لها؟
وأنا الذي أعلم أنها ما عادت لتبقى, وأنني لن أمتلكمنها هذه المرة أيضاً إلا غبار السفر. لماذا تراني على عجل؟
***
استيقظت في الصباح بمزاج جميل.
قررت أن أذيب الفرحة في فنجان قهوة, أنأبدأ النهار بإقامة علاقة جميلة وكسولة مع الحياة, أن أفك ربطة عنق الوقت, وأتركقميصي مفتوحاً لرياح المصادفة.
قصدت المعرض في حدود الثانية عشرة, واثقاً أنهالن تغادر الفندق باكراً, نظراً لعادتها الصباحية الكسولة.
منت أشك أن تحضريومها.كان اليوم الأول لوجودها في باريس, ولم يكن من الطبيعي أن تأتي إلى الرواقلمشاهدة معرض خالد, حال خروجها إلى المدينة. لكن, لم أكن أريد أن أفوت أي احتماللمرورها.
كنت مستعداً أن أجلس طويلاً على كرسي الوقت, في مخادعة الزمن خشيةانفراط حبات مسبحة الصبر. لا أرتجي ثواباً غير لهفة القبلة الأولى.
أحب ذلكالتبذير الجميل في الحب. بي ولع بكل أنواع الهدر الجنوني, عندما يتعلق الأمر بغايةعاطفية.
وكنت قبل كل هذا رجلاً طاعناً في الصبر, بحكم مهنتي.
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 9 (0 من الأعضاء و 9 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)