أوحدي كنتأنتظرها تائهاً بين تلك اللوحات؟ خطر لي أننا كنا ننتظرها معاً.. أنا ولوحاته. أناوهو. وهذه أيضاً مصادفة عجيبة أخرى.
كأنما الحياة تفكك نسيج قصته وتعيد نسجهامنن جديد باستبداله بي في كل موقف. هكذا حدثت الأشياء في تلك الرواية التي أحفظهاعن ظهر قلب.. عن ظهر مقلب!
هكذا كان ينتظرها هو نفسه في بداية "ذاكرة الجسد", عساها تأتي وتزور معرضه ثانية بمفردها.
بالترقب نفسه, بنفس الإصرار واليأسوالأمل, كان يروح ويجيء داخل هذه القاعة التي قدّم فيها أول معرض له, والتي تشهداليوم معرضه الأخير. كان حسب قوله رجلاً "وفياً للأمكنة.. في أزمنةالخيانة".
منذ ذلك الحين, كم مر على هذا المعرض من لوحات قبل أن تعود " حنين" لتأخذ مكانها على جدار, كما لو أ، الزمن بالنسبة لها ظل معلقاً كما الجسر المرسومعليها.
سعادتي هذا الصباح تعود أيضاً لأنني اشتريتها بعد أن عقدت تلك الصفقةالمجنونة مع زيان.أدرك دون أن أشرح له أكثر, أنه لا يملك سواي وريثاً لها.
هي ليإذن.. وأنا في هذه القاعة ملك متوج بها, أختبر فرحة أ، أفلس, مقابل قطعة قماشمصلوبة على جدار أسميتها قسنطينة!
كان الوقت يمر رتيباً.
مرت ثلاث ساعاتعلى وجودي في القاعة. قررت أن أقصد المقهى على الرصيف المقابل لأحتسيقهوة.
اخترت طاولة بمحاذاة واجهة زجاجية. حتى ألمحها في حالة قدومها. لكنني بعدبعض الوقت فوجئت بمراد يدخل الرواق.
حمدت الله لأنني ما كنت هناك. فربما ظل معيطوال الوقت وأفسد علي لقائي بها لو جاءت.
عجبت لمروره, فما كان من تقاليده زيارةالمعارض أكثر من مرة, ولا كان مهتماً بلوحات زيان.. أو بصاحبها.
ولو أطال البقاءلاعتقدت أنه غير عادته. لكنه بدا كما لو أنه جاء لسبب آخر, أو لملاقاة شخص ما. ربماما كان سوى فرانسواز.
اقتنعت بذلك وأنا أراها تودعه عند الباب بحميمية, وهو يطبعقبلة على خدها, بينما ذراعه تخاصرها بمودة تتجاوز البراءة.
هي حتماً حسبتنيغادرت الرواق إلى البيت. وهو ما توقع أن أكون هنا قبالة خيانته.
عبرتني سحابةكآبة, وأدركت سر سؤاله الدائم لي, متى أنوي العودة إلى الجزائر, بذريعة أنه يريدإرسال شيء معي بعدما تأكد أنني لا أملك سوى تأشيرة سياحية, وأنني أقيم في بيتها. أما هو فلم يكن يريد الإقامة عندها..بقدر ما كان يرى بن فخذيها أوراق إقامته فيفرنسا وربما.. مشروع جواز سفر " أحمر"!
بلعت كوب الماء على عجل.. ذلك الذيأحضره لي النادل مجاناً مع القهوة.. كما ليساعدني على ابتلاع غصة.
غادرت المقهىبعد ذلك بدون أن أعود إلى الرواق كما كنت أنوي.
قصدت المترو عائداً إلى البيت. انشقت السماء فجأة بسيول من الأمطار كأنها تبكي نيابة عني. كنت دون مظلة.. أمشيمتقدماً في وحل الأحاسيس الإنسانية.
عندما عادت فرانسواز في المساء, قالت بتذمروهي تخلع معطفها:
- أتمنى ألا أجد هذا الطقس في انتظاري في ( نيس) .. يا إلهي كمكرهت المطر!
سألتها:
- متى تنوين السفر؟
- صباح الجمعة.. سأقضي هناك نهايةالأسبوع وأعود الإثنين صباحاً.
لم أقل شيئاً. مددتها فقط بصورة والدتها كماأعددت بروازها الزجاجي دون إطار.
قبلتني على خدي موشوشة:
قلت أنا أعابث شعرهاالأحمر:- Oh merci.. elle est mieux ainsi.!
- تدرين.. في الماضي كان حزني يعود لعجزي على جعل الرائحة ترى علىالصورة. الآن لم أعد أحزن مذ طوّرت آلة تصويري.
قالت مصدقة:
- حقاً! كيف؟
أجبت متهكماً:
- الآن مثلاً.. بإمكانك ألا تتكلمي. ما أطبقت شفتيك عنهسألتقطه بعدسة في داخلي.
لم أتوقع منها أن تفهم, ولذا لم أعجب وهي تجيبني:
- أتكون اخترعت الصورة الفاضحة؟
- لا .. اخترعت فاجعة الصورة!
اشتقت فجأةإلى خالد. وحده كان سيفهم جملة على هذا القدر من وجع السخرية. فهو من اخترع قبلي " فاجعة اللوحة".. وهو من سبقني إلى تقاسم هذا البيت مع امرأة.. لا تتفجع سوى أمامالنشرة الجوية!
سألتها بعد ذلك, إن كانت تفضل أن أقيم في مكان آخر أثناءغيابها.
قالت محتجة:
- أبداً.. كيف فكرت في شيء كهذا!
- في جميع الحالات.. سأعود بعد أسبوعين أو ثلاثة إلى الجزائر. وسأغادر الشقة حتماً قبل خروج زيان منالمستشفى. لا أريد أن يعلم بإقامتي هنا.
أضفت:
- وبالمناسبة..أنوي شراء هاتفخلوي يمكنك أن تطلبينني عليه لأنني لا أرد على الهاتف كما تعلمين, خشية أن يكونزيان على الخط, فهو يعرف صوتي.
- فكرة جيدة.. في جميع الحالات, من يتصلون بيأثناء غيابي بإمكانهم أن يتركوا لي رسالة صوتية على الهاتف.
بعد ذلك, عندماتقاسمنا السرير نفسه للنوم, وجدتني عاجزاً عن ضمها بدون مشقة, أو تقبيل شفتيهاالرفيعتين بدو استجداء بلاهة الحواس.
كان عزائي أن كل مساء: ملايين البيوت ينزلعليها الليل كما ينزل علينا, بذلك القدر من نفاق المعاشرة, وأن ملايين الناس غيريلا يدري كيف يهربون من وشاية الليل الفاضحة لاغترابهم الجسدي عن أقرب الناسإليهم.
تذكرت زوجتي التي إستطاعت أن تسرق مني طفلاً بفضل ذرائع فراشالزوجية.
ففي حوادث السرير, يحدث أن تصطدم بشخص ينام جوارك أو أن تلامس شيئاًمنه وجد في متناول جسدك.
أثناء تسكعك في أزقة الأقدر, قد تتعثر بحب امرأةمرتكباً حادثاً عاطفياً للسير, ولكن امرأة أخرى هي التي تحبل منك إثر حادثسرير!
دوماً كان لي سوء ظن بالفرح, ارتياب من البهجة المضللة للعيد. فليس العيدسوى الاستعداد له, تماماً كعيد انتظاري إياها.
عندما غادرت البيت ظهراً متجهاًإلى الرواق. كانت المدينة مزدانة كما لتستخف بي.
أسريعاً جاءت نهاية السنة؟ أمهم التجار دوماً على عجل كي يبيعوك عيداً ليس عيدك. فنحن نصنع أعيادنا الحقيقية فيغفلة من كل الأعياد.
أليست هي من كانت تقول إننا نحتاج إلى مدينة ثالثة ليستقسنطينة ولا الجزائر, لا تكون مدينتي, ولا مدينتها. مدينة خارج خارطة الخوفالعربية, نلتقي فيها دون ذعر؟
هي ذي باريس, وحب ينتمي للشتاء, لبائع الكستناءالمشوية, لليل ينزل على عجل, لمطر
█║S│█│Y║▌║R│║█
يظل يهطل, لواجهات مرشوشة برذاذ الثلجإليها.
لو أثلجت وهي هنا, يا إله الشتاء, لو تكوّم الثلج عند باب بيت انغلقعلينا كي أختبر تلك العدوانية الجميلة للثلج, عندما يتساقط في الخارج ونكون معاًجوار مدفأة الأشواق.
لكنها لم تأتِ. والثلج واصل تساقطه داخلي, وأنا أنتظرهافي الرواق مبعثراً بين ارتياب الاحتمالات, مدافعاً عن هشاشة الممكن بمزيد منالانتظار.
كانت لغيابها الرهيب المحرق, غيابها الشهي الصقيعي, امرأة جميل معهاحتى أن تخلف موعداً.
عندما يئست من مجيئها, عاودتني الحاجة إلى لقاء زيان عسانيأطمئن على أخباره وأتسقط أخبارها, داعياً الله كي لا يجمعني بها عنده تفادياًلمصادفة لن يخرج منها أحدنا سالماً.
كانت الساعة الرابعة بعد الظهر عندماقصدته.
فاجأتني باقة ورد منتقاة بذوق راقٍ جوار طاولة سريره. كانت في الغرفةذبذبات بهجة, خلقتها الورود الصفر والبنفسجية.
وجدته سعيداً. ربما سعادة المتكئضاحكاً على خرائبه.
بدا لي خفيفاً ومفلساً. لا تدري ما الذي سرق منه بالتحديدليكون حزيناً ساخراً إلى ذلك الحد.
همّ بالنهوض لاستقبالي. لكنني طلبت منه ألايغادر سريره. فوضع على الطاولة المجاورة كتاباً كان يقرأه. وقال وأنا أنحنيلتقبيله:
- أهلاً.. توحشناك يا راجل.. وين راك غاطس؟
أجبت كمن يرد عنه شبهةالسعادة التي يرى فيها المريض اعتداءً على حزنه:
- راني غاطس في المشاكل.. علىبالك.
كان جواباً على الطريقة الجزائرية. يحمل كمّا من الشكوى والتذمر التي لستمضطراً لشرح أسبابها, ما دام الذي يستمع إليها " على بالو" بحكم أنه غارق حتماً فيالمشاكل نفسها.. لكونه جزائرياً!
وكما ليفهم مصدر مشاكلي فاجأني سائلاً:
- هلأنت متزوج؟
قلت ساخراً:
- أحياناً
- وأحياناً أخرى؟
- متشردعاطفي.
أضفت ممازحاً كما لأطمئنه:
- لكنني رجل حذر.. ألزم جغرافيتي!
ردضاحكاً:
- أنت تذكرني بصديق كان يحترف المغامرة المحسوبة, أي أنه ما كانمغامراً, ولا كان وفياً. كان يخاف الأمراض الشائعة, وكنت أقول له عندما يدعيالاستقامة " إن الوفاء المبني على الرعب الوبائي, كالسلام المبني على الرعب النووي, لا يعوّل عليه. فاختر صفك يا رجل.. ولا تحد عنه, كن خائناً بجدارة.. أو مخلصاً كمالو بك مس من وفاء!"
كانت تلك المرة الأولى التي سألني فيها عن حياتي الخاصة. أعطاني الحق في أن أطرح عليه السؤال نفسه. قلت:
- وهل أنت متزوج؟
ردضاحكاً:
- لأنني أكره الخيانة رفضت الزواج. فالزواج الناجح يحتاج إلى شيء منالخيانة لإنقاذه. إنه مدين لها بدوامه, بقدر ما هي مدينة له بوجودها. فلا أكثر كآبةمن إحساسك بامتلاك أحد.. أو بامتلاكه لك إلى الأبد.
أنا أرفض امتلاك شيء, فكيفأقبل بامتلاك شخص ومطالبته بالوفاء الأبدي لي بحكم ورقة ثبوتية. لا أظنني قادراًعلى أن أكون من رعاة الضجر الزوجي في شراشف النفاق.
أضاف بعد شيء من الصمت:
- تدري.. أجمل شيء في الحياة وفاء مغلف بالشهوة. أما الأتعس فشهوة مكفنةبالوفاء!
من أين له صفاء الذهن ليصل إلى حكمة كهذه, وهو جالس بين قوارير الأدويةومصل الكلمات. ومتى خبرَ هذا؟ ومع من؟
كان لعينيه جمالية تعب مزمن. ولكنه كانيبدو غير حزين.
- أراك سعيداً اليوم.
رد ضاحكاً
- حقاً؟ وما جدوى أنتتعذب؟ لا تصدق أن العذاب يجعلك أقوى وأجمل, وحده النسيان يستطيع ذلك. عليك أن تلقيعلى الذاكرة تحية حذرة, فكل عذاباتك تأتي من التفاتك إلى نفسك.
عندما راح يسكبلنفسه كوب ماء, دققت في ذلك الكتاب الموجود على الطاولة المجاورة لسريره, كانكتاباً صغيراً ليس على غلافه ما يلفت النظر. عنوانه:
لكن فضولي لاكتشاف مطالعات رجل, مارأيت كتاباً قبل اليوم على طاولته, جعلني أمد يدي تلقائياً لأتصفحه, غير متوقعالمفاجأة التي كانت تنتظرني داخله.- Les jumeaux de Nedjma.
لم يقل شيئاً وأنا آخذه عن الطاولة. بداوكأنه فوجئ بتصرفي.
تأملت العنوان, ثم فتحت الكتاب تلقائياً على الصفحة الأولى, وإذ بي أمام إهداء بخطها!
كلمات لم أقرأها بعد أن أحسست أن نظراته تراقبنيصمتاً. أحرجني كبرياء صمته. ربما كان يختبر قلة ذوقي أو وقاحتي في التجسس على سرهالكبير.
اكتفيت بقراءة التاريخ المكتوب على الإهداء.
استنتجت أنها زارته هذاالصباح. وأدركت من أين جاءت باقة الورد الجميلة وعلبة الشوكولاطة الفاخرة جوارسريره. فهمت أيضاً ذكاء تلك الطرفة, عندما قال ليقنعني بفضائل الشوكولاطة مصراً علىأن يضيفني منها:
- الشوكولاطة لا تعطيك نشوة وطاقة للإبداع فحسب, بل للذتهاتساعدك على ابتلاع أي مذاق مر يرافقها, مسهلة عليك الموت لحظة تلقّيك رصاصة. حتى إنهامنغواي عندما كتب لزوجة أبيه طالباً منها أن تبعث ببندقية أبيه التي انتحر بها, أرسلتها إليه مرفوقة بعلبة شوكولاطة لعلمها أنه يريدها.. كي ينتحر!
يا لذكاءهذا الرجل وجمال تهكمه!
كما ليذهب بكلامنا منحىً بعيداً عن تلك المرأة, قال وهويراني أعيد الكتاب إلى مكانه:
- إنه كتاب جميل. فيه تفاصيل مذهلة لم أكن أعرفهاعن موت كاتب ياسين. سجنت معه في 8 ماي 1945 في سجن الكديا, عشت معه كل ولادة " نجمة", كنا جيلاً بحياة متشابهة, بخيبات عاطفية مدمرة, بأحلام وطنية أكبر منأعمارنا, بآباء لم نتعرف عليهم يوماً, بأمهات مجنونات من فرط خوفهن علينا. كنانتشابه تقريباً جميعنا في كل شيء. ولم نعد نختلف بعد ذلك إلا في موتنا.
مديده إلى جارور الطاولة الصغيرة الموجودة على يمينه. أخذ سيجارة لم يشعلها. ظلممسكاً بها كما لو كان أشعلها. ثم قال:
- أنتمي إلى جيل النهايات الغريبة غيرالمتوقعة. عندما قرأت في هذا الكتاب تفاصيل موت كاتب ياسين في فرنسا التي تصادفت معموت ابن عمه مصطفى كاتب, ثم كيف شيعت
█║S│█│Y║▌║R│║█
جنازته في الجزائر, فكرت في قول مالرو " لايحدث للإنسان ما يستحقه, بل ما يشبهه".
موت ياسين كحياته, موت موجع ومشاغبومسرحي ومعارض ومحرض وساخر.
تصور.. يوم مات ياسين في مدينة ( غرونوبل) في 29أكتوبر 1989 حدث زلزال في الجزائر. ولكن نشرة الأخبار ذلك المساء كانت تتضمن فتوىبثتها الإذاعة الوطنية, أصدرها المفتي محمد الغزالي رئيس المجلس الإسلامي لجامعةقسنطينة, ومستشار الرئيس بن جديد آنذاك, يعلن فيها أن مثل هذا الرجل ليس أهلاً لأنيواريه تراب الجزائر, ويحرم بحكمها دفنه في مقبرة إسلامية. ولكن ياسين ظل حتى بعدموته يستخف بالفتاوى وبكل أنواع السلطات. حملت نعشه النساء كما الرجال. لأول مرة, رجل تحمل نعشه فرقة مسرحية بكاملها.
كانت نكتته الأخيرة أن تعطلت سيارة الـ " البيجو" 504 التي كانت تنقل جثمانه, لكثرة الممثلين الذين كانت تحملهم, مما جعلالمشيعين يترجلون ويذهبون به إلى المقبرة على الأقدام وسط زمامير السياراتوالزغاريد ونشيد الأممية الذي كانوا ينشدونه باللغة البربرية.
لم يستطع الإمامولا الرسميون شيئاً لإسكات كاتب ياسين حياً ولا ميتاً. ولم يستطيعوا منع القدر أنيجعله يدفن في أول نوفمبر تاريخ اندلاع الثورة الجزائرية. كان أول من أدخل الفوضىوالديمقراطية والزغاريد إلى المقابر كما أدخلها قبل ذلك إلى المعتقلاتوالسجون!
قلت متعجباً:
- إنه لموت طريف حقاً.. لم أسمع بهذه التفاصيل منقبل.
قال ساخراً:
- ليس هذا الطريف في حد ذاته, إنما تشكيلة الموت في غرابةأقداره كما عرفه جيلنا. تصور يا رجل: لي صديقان كلاهما من رجال التاريخ وكبارمجاهدي الثورة, أحدهما مات قهراً والآخر مات ضحكاً. هل تصدق هذا؟ أنت سمعت حتماًبعبد الحفيظ بوالصوف؟
- طبعاً.. كان مدير الاستخبارات العسكرية أثناءالثورة.
- أتدري كيف مات هذا الرجل الصلب المراس الذي اشتهر بغموضه وأوامره التيلا رحمة فيها في التصفيات الجسدية للأعداء كما للرفاق؟ توفي سنة 1980 إثر أزمةقلبية فاجأته وهو يضحك ضحكاً شديداً على نكتة سمعها من صديق عبر الهاتف!
كان قدانسحب من الحياة السياسية نهائياً بعد الاستقلال, رافضاً أي منصب قيادي وأصبحبإمكانه أن يموت ضاحكاً!
أليست نهايته أفضل من نهاية سليمان عميرات, رفيق سلاحهالذي مات بعد ذلك حزناً بسكتة قلبية أثناء معركة الفاتحة على جثمان محمد بوضياف, رفيق سلاحهما الآخر الذي سقط مغتالاً؟
لم ينج من هذه اللعنة حتى من مات منجيلنا شهيداً ميتة الأبطال. أورث نحس جيله إلى ذريته, كالشهيد البطل مصطفى بنبولعيد الذي اغتيل ابنه عبد الوهاب وهو في الخمسين من عمره في 22 آذار 1995 , نهاراغتيل أبوه على أيدي الفرنسيين قبل تسعة وثلاثين سنة, بعد أن نصب له الإرهابيونحاجزاً وهو في طريقه إلى بلدته " باتنة" ليشارك ككل سنة في التأبين الذي يقام فيذكرى استشهاد أبيه.
ربما كانت في هذه الميتة بالذات كل فاجعة جيلنا. رجل مثلمصطفى بن بولعيد , أحد رموز مقاومتنا, تهديه الجزائر جثمان ابنه في يوم استشهاده.. أي وطن هذا؟
توقف في تلك اللحظة شريط التسجيل. انتبه إلى أنني كنت فتحتالمسجل, قال وأنا أقلب الشريط:
- خليك م التسجيل يا راجل.. التاريخ " الحلّوف" راه يسجل!
قلت مازحاً في محاولة للتخفيف من مرارته:
- التاريخ يسجل لكن أناأنشر. أريد نشر هذه المقابلة كشهادة عن تلك المرحلة.
رد بتهكم مر:
- أيةمرحلة؟ تلك المرحلة لم تنته يا رجل. الجزائري يعيش جدلية تدمير الذات, هو مبرمجلإبادة نفسه والتنكيل بها عندما لا يجد عدواً لينوب عنه في ذلك. تظن أن الإرهابيينكان لهم الفضل في بدعة قتل الكتاب والقضاة والأطباء والسينمائيين والشعراءوالمحامين والمسرحيين.. الجزائر لها تقاليد في قتل مثقفيها.. وأنا كنت في صفوفالمجاهدين عندما في خدعة هدفها إلحاق ضرر نفسي بالمقاومة, أوحت فرنسا للعقيد عميروشبأن بين رجاله من يعملون مخبرين لصالح الجيش الفرنسي. فقام في يوليو 1956, وبعدمحاكمة سريعة, بقتل ألف وثمانمائة من رجاله, في حادثة تاريخية شهيرة باسم " La bleuite". فوراً وجهت أصابع الاتهام إلى المثقفين, أي إلى المتعلمين الذين تركوادراساتهم ليلتحقوا بالجبهة, والذين بسبب علمهم وثقافتهم الفرنسية لم تكن جبهةالتحرير تثق في ولائهم. أما القتلة الذين انقضوا عليهم فكانوا رفاقهم من المجاهدينالقرويين والأميين في معظمهم, والذين منذ البدء لم يغفروا لهم تميزهم عنهمبالمعرفة. واليوم أيضاً لم يتغير شيء. كل جاهل يثأر لجهله بقتل مثقف بعد المزايدةعليه في الإيمان والتشكيك في ولائه للوطن. وها نحن في ما بقي لنا من ضحايا الإرهابضد المثقفين.
توقف ليسألني فجأة:
- هل اشتريت تلك اللوحة؟
وقبل أن أجيب, فتح الجارور يبحث عن شيء. أخرج ولاعة, أشعل السيجارة التي كان ممسكاً بها طوالالوقت.
وبدون أن أقول له شيئاً أجاب متهكماً من تعجبي لتدخينه في المستشفى:
- لا تهتم.. أنا أنتمي إلى جيل من الرجال المجبولين بالعصيان.
ثم أعاد سؤاله بصيغةأخرى:
- ماذا ستفعل بتلك اللوحة؟
- سآخذها معي إلى قسنطينة عندما أعود بعدأسبوعين أو ثلاثة.
ثم أردفت خشية أن يكون قد غير رأيه:
- ستبقى بتصرفك. بإمكانك أن تراها عندما تزور قسنطينة.
- لم أعد أتردد على قسنطينة. لم يبق ليفيها أحد ولا شيء. آخر مرة زرتها منذ سنة ونصف لأحضر جنازة ابن أخي حسان.شعرت أنهامدينة لم تعد تصلح إلا صورة على بطاقة بريدية أو جسراً على لوحة. بدت لي جسورهاهرمة تعبة, كأنها شاخت وتساقطت عنها حجارتها, كأفواه تعرت عن أسنانها, كسحنة منيعبرونها بملامح تعرت من تعابيرها, مسرعين حيناً.. متثاقلي الخطى أحياناً أخرى, تائهين حائرين, كمن ينتظر فاجعة.
- ربما لأنك زرتها في ظرف حزين.
- ما كان لييوماً معها موعد سعيد. دوماً غادرتها مفجوعاً. رافضاً عقد ميثاق مع الوحل الذي أتىعلى كل شيء. لا أريد أن أكون هناك عندما تخلع قسنطينة حجارتها.. وتنزلق نحو وهدالهاوية.
صدقني منذ اغتيال بوضياف أصبحت أكره حتى السفر إلى الجزائر, فبموته ماتشيء فينا. عندما جاؤوا به متضرعين كي ينقذ الجزائر ويكون رئيسها, ما ظنوا أن ذلكالرجل الذي جبلته السجون والمنافي وخيانات الرفاق, على هزاله, ما كان يصلح لإبرامصفقة فوق الجثث فحولوه إلى جثة كي نتعلم من جثته.
ألا ترى كل ذلك الحجر المتساقطعلينا بعده؟ بإمكاننا الآن أن نواصل التراشق بذلك الكم من الأسئلة. ما عاد السؤال " من قتل بوضياف؟" صار :" صوب أي مصب ذاهب بنا الوحل؟ صوب أي وحل ذاهب بناالتاريخ؟"
ساد بيننا صمت الفاجعة.
ثم , لا أدري كيف حدثت الأشياء. اتجهتنحو السرير كمن يحتضن صخرة خشية أن يجرفه السيل, ضممته.. وفاجأني البكاء.
حتماً, كانت دموع مؤجلة تجمعت داخلي كغيمة مثقلة تبحث عن جو مناسبلتهطل.
█║S│█│Y║▌║R│║█
قلت كمن يبرر حماقة:
- خالد.. نشتيك.
لم يحتج لأنني ناديته خالد, ولا تعجب أن يكون حبه ذريعتي للبكاء.
تصرف كما لو كان من عادة الرجال أن يبكوا. ضمني دون أن يفهم ما بي, أو ربما أدرك أكثر مما قلت, لكنه لم يبكِ, من مثله يدمعفقط, قال:
- لا تحزن.. خلقت الأحلام كي لا تتحقق!
أثناء ضمه لي اقشعر جسديوأنا أصطدم بالفراغ الذي خلفته ذراعه الناقصة. كنت أختبر لحظتها كيف ضمها. كيفبإمكان رجل بذراع وحيدة أن يضم إنساناً آخر إلى صدره. لم أعد أدري أكنت أبكيهافيه.. أم أبكيه فيها؟ أو أنني أبكي نفسي بينهما.
هي التي كانت هنا وجلست على هذاالكرسي مكاني. لكأنها ما زالت بيننا. أشم عطر غيابها.
عندما أراد بعد ذلك أنيغادر سريره ليودعني, أوقع المزهرية بحركة من يده وهو يحاول الاستناد إلىالطاولة.
انحنيت متأسفاً أرفعها من الأرض وأجمع الورود.
قال كمن يعتذر عنحماقة:
- في الفترة الأخيرة أصبحت مصاباً بعمى الأطراف. ما مررت بشيء إلاواصطدمت به. دعك من جمعه.. ستحضر الممرضة للملمته.. إنه ورد فقط وهو آيلللذبول!
ثم أردف بتهكم وحده يتقنه:
- حتى وإن سقطت ذراعي.. حاذر أنتلتقطها.
- أنت تعاكس قصيدة محمود درويش.
" سقطت ذراعي فالتقطها
وسقطتجنبك فالتقطني"
قاطعني مواصلاً:
- " واضرب عدوك بي.."
- أتعرفها؟
ردمبتسماً:
- أعرفها؟ كم أعرفها! كانت القصيدة المفضلة لصديقي زياد. كان دوماًيقول: ليتني كاتبها. فأعلق " لا تهتم.. إن سقطت سألتقطك بذراعي الوحيدة". لأنني معزياد كنت أعرف كم العدو الذي سأقذف بجسده في اتجاهه. لكنك إن التقطت ذراعي فعلى منستقذفها؟
واصل بسعادة:
- بالمناسبة عندما أغادر المستشفى سأطلعك على بعضأشعار زياد.
- أما زالت في حوزتك حتى اليوم؟
- طبعاً.. قد أفرط بلوحاتي ولاأفرط بها.. مشكلتي دوماً كانت إرث الشهداء.
افترقنا دون أن أدرك إن كان يومهاأكثر سعادة أو أكثر حزناً من العادة.
كان يتصرف باستخفاف المفلس. يدخن ويدرك أنفي السجائر مضرة له. وطلب مني أن أحضر له قارورة ويسكي صغيرة من تلك التي تقدم فيالطائرات لملء كأس واحدة, غير معني بأنه ممنوع من تناولها مع دوائه. وينسى أن يأخذدواءه لأنه يدري أن لا جدوى من الدواء. ويأكل أشياء قد تتدهور بها صحته عسى بهاترتفع معنوياته التي لا تتغذى سوى بالمحظورات.
أظنه كان سعيداً, غير أن السعادةلم تكن لها علاقة بباقة الورد, ولا بالشوكولاطة الفاخرة التي أحضرتها له, والتي وضعحبات منها في جيبي وهو يودعني, ولا بذلك الكتاب الذي تلقاه منها, كما تلقى هامنغوايالبندقية من زوجة أبيه.
سعادته كانت بسبب سماح الطبيب له بمغادرة المستشفى يومالأربعاء, فقد كان يخطط لمشاريع كثيرة أولها زيارة معرضه وجمع ما بقي منلوحاته.
أما مرارته, فكان سببها السري على الأرجح كون المرأة التي أحبها عادتبعد أن شفي منها لتعوده وتتفرج عليه في بشاعة مرضه الأخير.
هو نفسه قال مرة إنهعندما يشعر بأنه أصبح بشعاً في علاقة, ينهيها ويهرب حتى عندما يكون الطرف الآخروطناً. لكن أين كان بإمكانه أن يهرب وهو رهين سرير المرض؟
أتوقع أن يكون استأصلالزائدة العاطفية وراح يختبر قدرته على تجميل البشاعة بالسخرية. كذلك اليوم الذياعتذر لي فيه مازحاً لعدم استطاعته مغادرة سريره كالعادة والجلوس معي بسبب استلقائهعلى ظهره ووجود ذراعه الوحيدة موصولة إلى أنبوب مصل الدواء.
قال متهكماً:
- في هذا الوضع تماماً رسم ميكيل أنجلو سقف كنيسة ( كابيلا سيستينا). ظل هكذا يرسموهو ممدد عارياً على السقالة لعدة أشهر ويده اليمنى مرفوعة إلى السقف. كان يرفضالاستعانة بالمساعدين ويصر على إنجاز رسم السقف وحده. وكان لأوجاع جسده يقول " أعيشفي الجحيم.. وأرسم لوحة". وكان البابا يتسلق السلم الخشبي ويصعد للتجسس عليهومباركته!
أحياناً يكرم المرء في وضع مهين! وهو ما يذكرني بقول جميل لمناضل سيقإلى الشنق. فسئل قبل إعدامه " هل ليك ما تقوله قبل الموت؟" فأجاب جلاده " يكفيفخراً أن أموت وقدماي فوق رؤوسكم".
ليست المهانة أن أكون في هذا الوضع. إنما فيكوني هنا أضاجع الموت في سرير. قصدت السرير دوماً لمنازلة الحب!
في طريق العودة إلى البيت توقفت في مكتبة بحثاً عن كتاب " توأما نجمة" لبنعمار مديان الذي كان زيان يطالعه. كان بي فضول أن أعرف لماذا أهدته إياه.
وماكدت أعود إلى البيت وينتهي العشاء الخفيف الذي فاجأتني فرانسواز بإعداده حتى اعتذرتمنها وذهبت إلى غرفة النوم مستعجلاً مطالعته.
رغم انشغالها ببرنامج تلفزيوني لمتبد فرانسواز سعيدة أن تراني أتركها وأختلي بنفسي للمطالعة. كان الأمر غريباً حقاً, فأنا لم أعرف امرأة إلا واعتبرت الكتاب غريمها الأول في البيت. وجربت بما أوتيت منمواهب نسائية أن تسرقني من القراءة كما لو أن في انشغالي بها إهانة لأنوثتها. كانما يزيد الطين بلة, ويجعل من الكتاب ضرة, عادتي القراءة في السرير. كنت دوماً أدعوالكتب التي أحبها إلى غرفة نومي لاعتقادي أن الكتب الجميلة كالنساء الجميلات, لايمكن مجالستهن في الصالون, ولا بد أن تراودك الرغبة في أ، تخلو بهن.. فيمخدع.
الصالون خلق لتلك الكتب الوقورة الرصينة المصطفة في مكتبة, تدافع عن صيتهابثقل وزنها, وتعوض عن بلوغها سن اليأس الأدبي بتجليدها الفاخر وخطها الذهبي.
كنتبدون قصد أؤنث الكتب.
تلك السهلة التي تندس في جيبك. كتب الانتظار والضجر التيكنساء المصادفات تصلح لقراءة واحدة. وأخرى للمؤانسة ترافقك إلى سريرك لتنهي ليلهاأرضاً منهكة, نائمة على بطنها كامرأة بعد ليلة حب. وأخرى صقيلة الورق فاخرةالطباعة, تتربص بجيبك كبغايا أمستردام خلف واجهة زجاجية.. قد تنقل إليك عدوىالرداءة.
أعتقد أنني خلال سنوات طويلة ما أقمت علاقة جميلة سوى مع الكتب. بعض هذه العلاقات كانت تضاهي في شغفها وطقوسها شيئاً شبيهاً بالخيانة الزوجية, مماجعلني أتعاطاها أحياناً سراً متبرءاً من شبهتها, خاصة عندما كنت أقضي وقتاً طويلاًمنشغلاً عن زوجتي النائمة جواري, بمطالعة كتاب يعطيني من متعة المعرفة والمباغتة, أكثر مما يعطيني جسدها الذي أعرفه عن ظهر زوج!
في ذلك البيت الذي في البدءوبصفتي الابن البكر سكنته مع زوجة أبي وأختي المطلقة, كنت
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 8 (0 من الأعضاء و 8 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)