أكان في مقدوري تفادي هذه الخسارة؟ بإمكاني أن أؤجلها فقط. فما أنا إلايد في حياة كل شيء أمتلكه, تسبقني إليه يد, وتليني إليه أخرى, وجميعنا يملكه إلىحين.
الأفضل كان أن نستشير الأشياء, كما يستشير القاضي عند الطلاق الأطفال, مع نيريدون أن يذهبوا, مع أمهم؟ أم مع أبيهم؟
أيّ تجنِّ في حق الأشياء, ألا يكونلها حق اختيار مالكها؟ كم من المشاكل كانت ستحل لو أننا بدل استفتاء البشر, استفتينا ما يختلفون حوله.. ويقتتلون عليه.
وقفت أتأملها, كأنني أعتذر لهالأنني ما استطعت أن أحتفظ بها, كأنني بطول النظر إليها أحاول اغراءها بأن تلحق بي " خطيفة" كما تهرب عروس ليلة زفافها , وتلتحق بمن تحب.
الآن وقد أصبحت لغيري, صارلي الدور الأجمل, فقد أصلح أن أكون لها عشيقاً, كقسنطينة الجالسة منذ 25 قرناً فيحضن التاريخ, تمشّط شعرها وتمدّ من علوّ عرشها حديثاً مع النجوم. كان يلزمها عشيقيتغزّل بها, ويحنِّي قدميها المتدليتين في الوديان, يدلّلها, يغطيها ليلاً بالقبلكي تنام.. لا زوجاً سادياً يعود كلّ مساء بمزاج سيء فيتشاجر معها ويشبعهاضرباً!
ألم يقل عبد الحق متحسراً على قدر قسنطينة " هذه أنثى أكثر فتنة من أنتكون امرأة لأحد, وأكثر أسطورة من أن تحبل بكلّ هذه الأجنة العشوائية. فكيف أوثقوهاإلى هذه الجبال.. وأنكروا عليها أن تتململ انزلاقاً لحظة اغتصاب".
كنّا أناوهي في مناظرة صامتة. كانت, كنساء قسنطينة, أكثر جبناً من أن تحسم قدرها. وكانت منذلك النوع من اللوحات, الذي ينظر إليك تلك النظرة المخترقة, فتتحول أمامها بدوركإلى لوحة, في لحظة ما, بدت لي كأنها ما عادت جسراً, بل أنا الذي مسخت جسراً. حتىإنها ذكرتني بـ" ماغريت" حين رسم غليوناً وسمّى لوحته " هذا ليس غليوناً".
أكانيلزم زيان عمر آخر ليدرك أن هذا الشيء الذي رسمه منذ أكثر من ثلاثين سنة, ما كانجسراً ولا امرأة ولا مدينة ولا وطناً. ذلك أن " الوطن ليس مكاناً على الأرض إنهفكرة في الذهن".
إذن من أجل فكرة, لا من أجل أرض, نحارب ونموت ونفقد أعضاءناونفقد أقرباءنا وممتلكاتنا. هل الوطن تراب؟ أم ما يحدث لك فوقه؟
أنسجن ونشردونغتال ونموت في المنافي ونهان من أجل فكرة؟
ومن أجل تلك الفكرة التي لا تموتحتى بموتنا نبيع أغلى ما في حوزتنا, كي نؤمن تذكرة شحنٍ لرفاتنا, حتى نعود إلى ذلكالوطن الذي ما كان ليوجد لولا تلك الفكرة المخادعة!
كنت أفكر : ماالذي جعلهذه اللوحة هي الأهم دون غيرها لدى زيان؟ لم أجد جواباً إلا في قوله ذات مرة:" نحنلا نرسم لوحاتنا بالشيء نفسه, كل لوحة نرسمها بعضو فينا". منذ زمان توقفت عن رسمالأشياء بيدي أو بقلبي. جغرافية التشرد الوجداني علمتني أن أرسك بخطاي. هذا المعرضهو خريطة ترحالي الداخلي. أنت لا ترى على اللوحات إلا آثار نعلي. بيكاسو كان يقول" أذهب إلى المرسم كما يذهب المسلم إلى الصلاة,تاركاً حذائي عند الباب". أنا لا أدخلاللوحة إلا بأتربة حذائي. بكل ما علق بنعلي من غبار التشرد.. أرسم".
كانت, إذن, اللوحة التي رسمها زيان بقلبه, ومن كل قلبه قصد أن يتمدد عليها كجسر ويخلد إلىالنوم.
بها بدأت وانتهت قصة العجوز والجسر. رجل عاش في مهب الجسور. له الريحكلها وكل هذه الأبواب المخلوعة التي تؤثث الجدران في غيابه وتعبث بها الريح فيالمساء, لكأنها تقول لمن توقف عندها: " لا تطرق كل هذا الطرق.. ما عاد الرسامهنا".
هو الذي كان يعكس أسئلته جسوراً وأبواباً. تصورته كلما توقف أمام لوحةيجيب بجديته العابثة على سؤال لها:
- لماذا توقفت عن الرسم؟
- لأنسى .. " أنترسم يعني أن تتذكر"
- لماذا تخليت عن الألوان المائية؟
- لأن الألوانالزيتية تسمح لك بتصحيح أخطائك.. أن ترسم أي أن تعترف بحقك في الخطأ.
- يا سيدالسواد.. لماذا أنت ملفوفاً بكل هذا البياض؟
- لأن الأبيض خدعة الألوان. يومطلبوا من ماري أنطوانيت وهم يقودونها إلى المقصلة, أن تغيِّر فستانها الأسود.. خلعته وارتدت ثوبها الأكثر بياضاً.
- لماذا أنت على عجل؟
- أمشي في بلادونعلي يتحسَّس تراب وطن آخر.
- ولماذا حزين أنت؟
- نادم لأني ارتكبت كلّ تلكالبطولات في حقّ نفسي.
- ماذا نستطيع من أجلك نحن لوحاتك المعلقة على جداراليتم؟
- متعب! اسندوني إلى أعمدة الكذب.. حتى أتوهم الموت واقفاً!
***
مساءً , عدت إلى البيت محملاً بزجاجة خمرٍ فاخرة, وبقارورة عطر ملفوفةبكثير من الشرائط الجميلة هدية لفرانسواز.
كنا في أعياد نهاية السنة. كلّ شيءكان يذكرك بذلك. وأنت الذي لا تملك ثقافة الفرح, إمعاناً منك في الألم, عليك أنتنفق ما بقي من ثمن تلك التذكرة في تبضع مبهج.
فوجئت فرانسواز بحمولتي وهي تفتحلي الباب. سألتني إن كنت أحضرت التذاكر.
طمأنتها:
- نعم. ثم واصلت: هذا العطرلك.
قالت وهي تقبلني:
- شكراً. كيف فكّرت في هدية, في خضم هذه الأحزان؟
- ليس أمامي إلا اليوم لأشكرك على كلّ شيء.
قرَّرت لليلةٍ أن آخذ إجازة من المآسيبما يقتضيه الموقف من تطرّف الحزن. إحساس عصيّ على الإدراك ينتابني دائماً. رغبة فيأن أعيش تعاسة خالصة أو سعادة مطلقة. أحبّ في الحالتين أن أدفع باللحظة إلى أقصاها, أن أطهو حزني بكثير من بهارات الجنون وتوابل السخرية, أحب أن أجلس إلى مائدةالخسارات بكل ما يليق بها من احتفاء, أن أحتسي نبيذاً فاخراً, أن أستمع إلى موسيقىجميلة, أنا الذي لم يكن لي وقت لأستمع إلى شيء عدا نشرات الأخبار.
وحدها تلكالسخرية, ذلك التهكم المستتر, بإمكانه أن ينزع وهم التضاد بين الموت والحياة, الربحوالخسارة.
قبل أن أجلس إلى كأسي, طلبت ناصر لأخبره بوفاة زيان, وكنت أجّلتالاتصال به إلى اليوم, حتى لا أجدني مضطرَّاً إلى الحديث مع مراد, الذي انتهى أمرهبالنسبة لي, وحتى لا ينقل ناصر الخبر إلى حياة فتفسد عليّ قدسية حزني. فقد أصبح موتزيان قضيتي وحدي.
صاح ناصر من هول الخبر:
- إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. ياخويا مش معقول كنت معاه غير هاذ الجمعة.. كان يبان لا بأس عليه.. الدنيا بنت الكلبتدّي الغالي وتخلّي الرخيص.. كان سيد الرجال.
أخبرته أن الجثمان سينقل غداً إلىقسنطينة وأننا سنكون في المطار عند السادسة مساءاً , إن كان يريد أن يقرأ الفاتحةعلى روحه.
قال إنه سيأتي طبعاً. وبدا متأسّفاً لغياب مراد الذي سافر قبل يومينإلى ألمانيا. كان هذا أجمل خبر زفّه لي. سألني إن كان سيحضر أحد من السفارة. قلت " لا أعتقد". قال " موعدنا إذن غداً".
█║S│█│Y║▌║R│║█
كانت فرانسواز أثناء ذلك طلبت بيتزا إلىالبيت. فقصدت المطبخ أعدّ سلطة, وأقلي صحناً من " النقانق" التي اشتريتها قبل يومينمن جزّارة " حلال" . فلتناقضاته الغريبة يصرّ الجزائري حتى وهو يحتسي نبيذاً ألاَّيتناول معه إلا اللحم الحلال!
قالت فرانسواز وهي تراني أضع الصحن علىالطاولة:
- يا إلهي.. كم في هذا الصحن من مواد دسمة. أتدري أن زيت القليّة عدوكالأول؟
ابتسمت. كيف لي أن أرتب سلم العداوات, وأين أضع أعدائي الآخرين إذن, إذاكان الدسم هو عدوي الأول! وأين هي عداوة الزيت, ومكيدة الزبدة, وغدر السجائر, ومؤامرة السكّر, ودسائس الملح, من غدر الأصدقاء وحسد الزملاء وظلم الأقرباء ونفاقالرفاق ورعب الإرهابيين ومذلة الوطن؟ أليس كثيراً كل هذه العداوات على شخصواحد!
تذكرت زيان يوم طلب مني أن أغلق باب غرفته كي يشعل سيجارة. سألتهمتعجباً:
- أوَليس التدخين ممنوعاً في المستشفى؟
ردَّ مبتسماً:
- طبعاً.. بل يعادل ارتكاب جريمة. لكن كما قال أمل دنقل لطبيبه وهو على سريره الأخير:" خُلِقالقانون ليخترق". ثم أنت لا تستطيع يا رجل أن تعيش وتموت مطيعاً, ولا أن تكونجباناً في السابعة والستين من عمرك.. وتخاف سيجارة!
تأملت يومها منفضته المخبأةفي جارور الطاولة الصغيرة القريبة من سريره. كانت ملأى بأعقاب سجائر تكاد تكونكاملة, كحرائق أخمدت على عجل, كأنه لم يسحب منها سوى نَفَس واحد.
كان يبددالحياة, كما يتلف السجائر لمتعة إشعالها. ما كان في المنفضة من وجود لأعواد ثقاب. إن رجلاً بيد واحدة لا يمكن أن يستعمل علبة كبريت, ألذا لا تفارقه الرغبة في إضرامالنار؟
قال متهكماً:
- لا تصدق أن الأشياء مضرة بالصحة. وحدهم الأشخاصمضرّون. وقد يلحقون بك من الأذى أكثر مما تلحق بك الأشياء, التي تصرّ وزارة الصحةعلى تحذيرك من تعاطيها. ولذا كلَّما تقدَّم بي العمر, تعلَّمت أن أستعيض عن الناسبالأشياء, أن أحيط نفسي بالموسيقى والكتب واللوحات والنبيذ الجيد, فهي على الأقل لاتكيد لك, ولا تغدر بك. إنها واضحة في تعاملها معك. والأهم من هذا أنها لا تنافقكولا تهينك ولا يعنيها أن تكون زبّالاً أو جنرالاً.
واصل ساخراً:
- قرأت منذمدّة أن زبالاً في فرنسا فقد ذراعه بعدما علق قفّازه في أسنان مكبس الشاحنة, بينماكان يحاول دفع النفايات الضخمة بيده بعيداً في جوفها. فكرت أن هذا الرجل الذي فقدذراعه في معركة الحياة "القذرة" وهو ينازلها للحصول على لقمة نظيفة, لن تكون لهوجاهة ضابط فقد ذراعه في معركة من أجل الإستيلاء على الوطن. فالأعضاء تساوي مايساويه أصحابها. الجنرال أنطونيو لوبيز دي سانتانا الذي حكم المكسيك حكماًدكتاتورياً ثلاث مرّات, أقام جنازة رسمية مهيبة لساقه اليمنى التي فقدها في ما يسمىحرب الفطائر. فبين ذراع الزبال وساق الجنرال فرق خمس نجوم. نحن لسنا متساوين فيالإعاقة سوى أمام الأشياء. فالرّجْل الخشبية التي كانت تحمل ذلك الجنرال.. وحدها لمتكن ترى نجومه!
أكثر من فنّه, كانت حكمة ذلك الرجل هي ما يذهلني. ذلك أنصوته لم يفارقني. كان يأتي في كل مناسبة ملتبس الإضاءات في جملة. وسعادتي اليومتكمن في تلك الأشرطة التي سجّلت عليها جلسات حواراتنا, يوم كان, وهو ممدد في ذاكالسرير مربوطاً إلى أكسير الذاكرة, يحدثني عن قناعات سكن فيها مع العمر.
رجل ماتوترك لي صوته. صوته ذاك, بين غيوم اللغة وصحو الصمت, يتقدَّم ككاسحة أوهام, يدرّبكعلى فنّ إزالة خدع الحياة الفتّاكة وألغامها.
وقفت أبحث عن أغنية تناسب مزاجي, أغنية كمكعّبات الثلج, كانت تنقص كأسي. كنت أريدها عربية. استأذنت فرانسواز فيسماعها, ذلك أن الحزن في هذه الحالات كالطرب لا يكون إلا عربيَّا.
سألتني عنكلماتها. ما كانت لي رغبة في أن أشرح لها الأغنية, لكنني قلت بمجاملة:
- إنهاأغنية يتوجّه فيها المغني لامرأة قاسية.. أحبّها وتخلَّت عنه.
كيف أترجم لهاأغنية تحيك لك مؤامرة بكاء, وتذبحك فيها الكمنجة ذهاباً وإياباً. أية لغة, أيةكلمات, تحمل كمَّا كافياً من الشجن لتقول بها:
- " آآآه يا ظالمة.. وعليك انخلّيأولاد عرشي يتامى".
شعرت أن لا عجب في تشابه حياة بهذه المرأة التي يبكيهاالفرقاني. لكأن كل أغنية في العالم أيّاً كان من يغنيها, هو لا يبكي ولا يشكوسواها. هي المتهم الأول في كل أغاني الحبّ, الخائن دوماً في كل قصة, الجاني في كلفيلم عاطفيّ, وبإمكانك إلباسها كلّ الجرائم العشقية عبر التاريخ.
سألتنيفرانسواز:
- أكلّ الأغاني العربية حزينة هكذا؟
أجبتها كمن ينفي تهمة:
- لا.. ليس دائماً.
ردت كأنها تجاملني:
- قد يكون هذا الحزن سر رومنطيقية العربوتمتعهم بذلك السخاء العاطفي.
قلت متهكماً:
- سخاؤنا العاطفي يا عزيزتي سببهيتمنا لا حزننا, لاأكثر سخاءً من اليتامى. نحن , على كثرتنا أمة يتيمة, مذ تخلّىالتاريخ عنّا ونحن هكذا... اليتيم كما يقول زيّان لا يشفى أبداً من إحساسهبالدونية- واصلت بعد شيء من الصمت- العطر الذي أهديتك إياه " شانيل رقم "5" دليلعلى ذلك. حتى عندما نجحت كوكو شانيل واشتهرت, لم تشف من عقدة يتمها.. وأطلقت علىعطرها الأول الرقم الذي كانت تحمله في دار الأيتام التي تربَّت فيها. لاحظي بساطةالقارورة في خطوطها المربعة دون أيّ نقوش أو فخامة أو طلاء. ذلك أن اليتم عارٍوشفاف إلى ذلك الحد. حتى أنه لا يحمل اسماً . بل رقماً. إن معجزة شانيل ليست فيابتكارها عطراً شذيًّا, بل في جعلها من اليتم عطراً ومن الرقم اسماً.
قالتفرانسواز مندهشة:
- عجيب.. لم أكن أعرف هذا.
- هذا أمر لا يعرفه الكثيرون. وربما لم تكن تعرفه حتى مارلين مونرو التي كانت لا تتعطَّر بغيره, حتى إنها عندماسئلت مرة " ماذا ترتدين للنوم؟" أجابت " بضع قطرات من شانيل رقم 5". وفهم من كلامهاأنها لم تكن ترتدي شيئاً.
- يا إلهي من أين لك هذه المعلومات؟
قلتمازحاً:
- هذه يا عزيزتي ثقافة اليتم. ثم واصلت بنبرة أخرى: أحدثك عن مارلينمونرو لأنني تذكرتها اليوم في المعرض. يحكى أنها لفرط إحساسها باليتم, كانت تملكالقدرة عند دخولها أي مكان, أن تميز يتيماً من بين أربعين شخصاً. قد فاجأني هذاالإحساس اليوم وأنا أدخل الرواق, كان بإمكان أي زائر للمعرض بدون أن يمتلك هذهالحاسة, أن يكتشف يُتْم تلك اللوحة بين كل اللوحات.
مرعب ذلك الإحساس الذيتخلّفه في قلب أي ناظر إليها. ما كنت قبل اليوم لأصدق يُتْم اللوحات. على كلٍّ.. ماكان في المعرض زوار ليلحظوا ذلك.
قالت فرانسواز:
- لا تقلق, الناس مشغولونبالأعياد.. والكثيرون لم يسمعوا بموت زيان بعد.
ثمواصلت بتذمر:
█║S│█│Y║▌║R│║█
- بالمناسبة.. أتدري أن الرواق قد باع تلك اللوحة بـ 50 ألف فرنك؟ كسب 20 ألف فرنك مندون حتى أن تتحرك اللوحة من مسمارها. كان يكفي أن تتصل كارول هاتفياً بأحد زبائنهاوتخبره أن الرسام مات , ليتضاعف السعر.
قلت بغضب:
- مكر سماسرة الفنون. ينتظرون موت الرسام, ليصنعوا ثروتهم من فنّ لم يستطع صاحبه التعيّش منه, ولا أنيضمن به موتاً كريماً.
سألتها بفضول:
- من اشتراها بهذه السرعة وبهذاالثمن؟
كنت أتوقع أن يكون المشتري أحد أثرياء المهجر الجزائريين الذين, وقدانتفخت حساباتهم بالمال المنهوب, درجوا على تبييض سمعتهم بالتسابق إلى شراء كل مايعرض لكبار المبدعين الجزائريين, فلا أرى غير أحدهم بإمكانه أن يدفع خمسين ألف فرنكلشراء لوحة تعرض عليه بالهاتف, وقد سمعت أحد هؤلاء يقول مرة في مجلس مبرراً ولعهالمفاجئ بالفن " إن كسب المال موهبة, وإنفاقه ثقافة". أثبت بما اختلس من أموال أنه " موهوب" لم يبق عليه إلا أن يثبت بما يقتني أنه مثقف!
غير أن فرانسواز فاجأت كلتوقعاتي وهي تقول:
- إنه فرنسي ثري من ذوي " الأرجل السوداء" يملك لوحات نادرةمنها مجموعة من لوحات " Les orientalistes ", وأخرى لمحمد راسيم. اشترى مؤخراًلوحات لأطلان عرضت للبيع. حتماً سمعت بأطلان.. رسام يهودي قسنطيني يعتبر أحد وجوهالفن التجريدي, مات في الستينات.. إشتهر بولعه بقسنطينة وبسجنه أكثر من مرة بسببمساندته للحركات التحررية.
كنت لا أزال تحت وقع الدهشة عندما واصلت:
- أخبرتني كارول أنه كان يريد أن يشتري لوحات أكثر لزيان, ولكن لم يكن من حق الرواقبيع شيء بعد الآن, عدا لوحتك أنت طبعاً, لأنها بيعت قبل وفاة زيان.
ثم أمام مابدا عليَّ من حزن قامت وجلست جواري تواسيني:
- لا تحزن هكذا, إنه رجل يحب الفنومعروف عنه هوسه بكل ما له علاقة بقسنطينة.
زيان عندما عاد لأول مرة إلى قسنطينةأحضر له أشياء صغيرة من هناك. أظنه كان صديق طفولته, أو أنهما درسا معاً أو شيئاًمن هذا القبيل.
سألتها وقد ضاع صوتي:
أتعتقدين أن زيان كان سيبيعهاله؟
قالت:
- لا أظن ذلك, فزيان كان يرفض في جميع الحالات بيعها لأيِّ كان. ولولا إحساسه بالموت وثقته فيك لما باعها حتى لك. أظنه كان يود الاحتفاظ بها لنفسه, لكنه ما وجد أحداً ليورثه إياها. ابن أخيه اغتاله الإرهابيون بطريقة شنيعة منذسنتين. وابن أخيه الآخر اختفى قبل سنوات ويعتقد أنه التحق بالإرهابيين, أو مات.أماأخوه الوحيد فقد اغتيل منذ عشر سنوات في أحداث 88.
لا أصعب على فنان من أن لايجد في آخر عمره أحداً يطمئن إليه.. ويأتمنه على أعماله.
قلت بتهكم الحسرة:
- تدرين أن تسمية " الأرجل السوداء" أطلقت على المعمرين الفرنسيين الذين أرسلواللاستيطان في الجزائر بعد الغزو الكولونيالي أوساط القرن التاسع عشر, إذ كانواينتعلون أحذية سوداء سميكة أثناء إشرافهم على المزارع و الأراضي. حتماً هذا الثريما توقع أن يواصل انتعال التاريخ أباً عن جدّ. ولا توقع أن يأتي يوم لا يبقى فيهلهذه اللوحة من قريب سواه.. بعد أن انقرض أهلها في الحروب العبثية. كان عليه انتظارأن ينتهوا من الإجهاز على بعضهم البعض فيحظى بميراث كامل.
لعلها لم تفهم كلامي. قالت:
- في سوق الفن, الأمر قضية وقت لا غير. عليك أن تنتظر فقط, وبشيء منالصبر, وبما يلزم من مال, أنت تحصل في النهاية على أية لوحة تريدها. يكفي أن تقتنصالفرصة. أحياناً تصادفك ضربة حظ وتستفيد من لحظة غفلة كما هذه المرة, أثناء انشغالالناس بأعيادهم وقبل أن ينتشر خبر موت الرسام.
قلت وأنا أسكب شيئاً منالخمر:
- حتماً.. ما التاريخ إلا نتاج لحظات الغفلة!
ما كنت أبا عبد الله, ولا وجدتني مرغماً على تسليم مفاتيح غرناطة, فلم البكاء؟ إنها خسارات غير قابلةللشماتة, ما دمت اخترتها بنفسي.
عندما كانت تزورني حياة لساعة أو ساعتين علىعجل, ثم تعود مذعورة إلى بيتها, قلت لها مرة:" لا يعنيني أن أمتلكك بالتقسيط. أرفضأن أربحك لساعات تذهبين بعدها لغيري, تلك الأرباح الصغيرة لا تثريني. أنا لست بقّالالحيّ, أنا عاشق يفضّل أن يخسرك بتفوق. أريد معك ربحاً مدمراً كخسارة".
لم أكنأدري أن أرباحاً فادحة تتوالد خساراتها, كتلك الجائزة التي مذ ربحتها وأنا أشتريبها خساراتي.
أعادني الموقف إلى زيان الذي, في هذا المكان عينه, رقص بين خرائبهبذراعه الوحيدة, كبطل إغريقي مشوّه في تلك الليلة التي تخلَّى فيها عن أكثر لوحاتهلفرانسواز وذهب ليدفن أخاه.
كم تمنيت ألا أتماهى معه في هذا المشهد العبثيالأخير, أنا الذي جئت فرنسا لأستلم جائزة. أكان القدر قد جاء بي, فقط لأكون اليدالتي تسلِّم لوحة وتستلم جثماناً؟
وضعت موسيقى زوربا وجلست أشرب نخبه.
عممساءً يا خالد.
الآن وقد أصبحت جزءاً من هذا الخراب الجميل الذي لا يشبه شيئاًمما عرفت, ستحتاج إلى الرقص كثيراً يا صديقي. فارقص غير معنيّ بأن تفسد سكينةالموتى.
لا تقل تأخر الوقت. أنت تعيش في منطقة عزلاء من الزمن. لا جدوى من النظرإلى ساعتك, ليست هنا لتدلّك على الوقت, بل لتضع رفات الوقت بيننا.
انتهى الآن كلشيء. عندما أصبح كل ذلك الوقت, ما عدت معنياً بالزمن, ترى الأشياء بوضوح, لم يعدبإمكانك أن ترسمها. دخلت منطقة غياب الألوان, ذاهب صوب التراب.
تراب كنتتتوق إليه, أسميته وطنك. (وطنك؟) بإمكانك أن تذهب إليه على حسابك, دون أن تستعدكعادتك قبل موعد. لا جدوى من أناقتك, ففي ضيافة الديدان تتساوى الأجساد يا صديقي, ولن يوجد من يتنبّه لعطبك, لذراعك التي كلّما تعرَّيت أخفيتها عن الآخرين.
ترابيحتفي بك, وديدان أصبحت وليمتها تهزأ من نساء أحببنك وترفعت عن إمتاعهن. كنت ترفضإغراء عاهرة إسمها الحياة, وجئت اليوم تهدي جسد شيخوختك للحشرات.
أيها الأحمق, بعد الآن, كل ما ينسب لغيرك في الفسق أنت فاعله. كل خطيئة يحاسب عليها غيرك أنتمقترفها. كل حكمة يلفظها رجل أنت قائلها. كل امرأة تحبل, أنت من تسلَّل إلىمخدعها.
الآن وقد أصبح كل شيء خلفك, أنت أكثر حكمة من أي وقت مضى, فقموارقص.
ارقص, لأنّ امرأة أحببتها خانتك معي.. وستخوننا معاً.
لأنّ بيتاً كانلك قد صار لسواك.
لأنّ لوحات رسمتها ذهبت إلى أيدٍ لم تتوقعها.
لأنّ جسوراًمجَّدتها تنكرت لك, ووطناً عشقته تخلى عنك.
لأنّ أشياء سخيفة احتقرتها, ستعيشبعدك.
لأنّ حسّان سيكون قريباً منك بعد الآن.
لأنّ أولاده الذين ربَّيتهمسقطوا في خندق الكراهية ولن يكونوا في جنازتك
█║S│█│Y║▌║R│║█
لأنّ قسنطينة التي عشقتها أشاحتعنك كما كانت الآلهة الإغريقية تزورّ عن رؤية الجثث..
نهضت فرانسواز نحوالمطبخ حاملة صحون السفرة. ناديتها وأنا أرفع بعض الشيء من موسيقى زوربا:
- أرجوك كاترين.. تعالي للجلوس جواري, فعمّا قريب سنواجه مطبّات شاهقة.
قالتمحتجة:
- ولنني لست كاترين.
أجبتها بنبرة مازحة:
- صحيح.. أنت لم تقرئيتلك الرواية. لو قرأتها لأدركتِ أنني أنا أيضاً لست خالد.
قالت بعدما عادتللجلوس جواري:
- أنت ثمل أليس كذلك؟
- تعتقدين هذا؟ لأنني قلت لك الحقيقة؟الحقيقة يا عزيزتي تؤخذ من هذيان السكارى. أتدرين أن الطوارق يختارون أسماءهمبالقرعة, وكذلك أنا أصبحت خالد مصادفةً.
واصلت أمام اندهاشها المستخفّبكلامي:
- في موسم قطف الرؤوس وحصاد الأقلام, فشلنا نحن الصحافيين في العثور علىأسماء مستعارة نختفي خلفها من الإرهابيين. كلٌّ اختار اسمه الجديد حسب ما صادفه منأسماء. أنا انتحلت اسم بطل في رواية أحببتها.
واصلت بعد شيء من الصمت:
- إنشئت الحقيقة, خالد بن طوبال ليس أنا, إنما زيان. ولكن تلك قصة أخرى. في الواقع كانهذا اسمه في تلك الرواية, بينما أصبح هذا اسمي فس الحياة. ففي الرواية أيضاً نحتاجإلى استعارة أسماء ليست لنا, ولذا أثناء انتقالنا بين الاثنين كثيراً ما لا نعودندري من نكون. إنها لعبة الأقنعة في كرنفال الحياة.
- ولكن ما اسمك؟
- وماذايغيّر اسمي. ما دمت تعرفين لقب فمي وكنية يديّ, فكلَّما مرَّ شيء مني بك ترك إمضاءةعليك.
- جميل.. ولكن ما الاسم المكتوب على أوراقك الثبوتية؟
- لا أحب أنتكوني رجل بوليس يدقق في هوية عابر. افترضي أننا التقينا في تلك المنتجعات السياحيةالبحرية التي من أجل بلوغ وهم السعادة, يفرض فيها على الزبائن التخلي عن أسمائهمخلال فترة الإقامة, فتطلق عليهم أسماء بعض المحارات البحرية أو الآلهة اليونانيةوأحياناً أرقام لا غير. أيّ قصاص أن تحملي اسمك قيداً مدى العمر!
أحسد سكان بلادعربية يعيش فيها الناس بلا أسماء. لاعبو الكرة يستدلّ عليهم بأرقامهم, النوّابيحملون أسماء مناطقهم, المسؤولون يحملون أسماء وظائفهم, المطربون لا يغّنون إلا فيجوقة, الأموات لهم مقبرة جماعية يضع عليها الزوّار الرسميون إكليلاً للجميع. إنهمفي منتجع التاريخ, اختزلوا أسماءهم جميعاً في اسم رجل واحد وارتاحوا. الحكم عمليةاختزال. ثمّة نعمة في أن تكون "لا أحد". لا تتوفر لك, إلا عندما يأتي حاكم ويؤمم كلالأسماء, أو يأتي الموت ويبعثرك في كل شيء.
كان زوربا بدأ ينتفض رقصاً. وكنتأفكّر في بورخيس عندما يقول في نهاية كتابه " الخلد" " كنت هوميروس وقريباً أصير لاأحد, كما عوليس قريباً أصبح العالم كله, لأنني أكون قد متّ".
قرَّرت أن أضعذراعي على كتف زيان ونبدأ الرقص سوياً, فزوربا رقصة تصبح أجمل عندما يؤديها رجلانبعنفوان الخاسرين.. فاتحين ذراعيهما لاحتضان العدم.
هيا زيان, انتهى الآن كلشيء فارقص. عندما ترقص , كما عندما تموت, تصبح سيد العالم. ارقص كي تسخر منالمقابر.
أما كنت تريد أن تكتب كتاباً من أجلها؟ ارقص لأكتبه عنك.
تدبّررجلين لرقصتك الأخيرة, وتعال من دون حذاء.
في الرقص كما في الموت لا نحتاج إلىأحذية!
الفصل الثامن
الموت يضع ترتيباً فيالقرابات.
برغم تلك العشرة, تعود فرانسواز غريبة, فموعدها الأخير مع زيان تمّ فيالمستشفى. بعدها أقلّتني إلى المطار بسيارتها, ودّعتني بمودّة لم تكن يوماً حباً, ومضت لأصبح, أنا الموجود في حياته مصادفة, كلّ أهله.
عرضت علي أن تحضر مراسم رفعالجثمان, لكنني بذرائع دينية كاذبة, أقنعتها بعدم الحضور. كنت أتوقع حضور حياة صحبةناصر, وكنت أريد لجمالية ذلك المشهد التراجيدي ألا يفسده أحد علينا.
عندماانتهيت من تسجيل حقيبتي الصغيرة, بعد وقوفي طويلاً في طوابير الأحياء المتدافعينوالمحمّلين بكل أنواع الحمولات وأغربها, من حرامات وطاولات كيّ وأحواض للورد وطناجروسجاد وحقائب بؤس من كل الأحجام, عائدين بها كغنائم غربة إلى الوطن, ذهبت إلى حيثلا طوابير بشرية تزاحمني وحيث كل شيء سقط متاع, مذ أصبح فيها البشر هم الأمتعة والحمولة التي تسافر مختومة ومرقمة مع البضائع في جوف الطائرة.
وقفت في تلكالقاعة المخصصة لإيداع ما هو جاهز للشحن إلى كل الوجهات. في جهة منها كانت تتكدسالصناديق الضخمة التي تنقلها الآلات نحو الطائرات, ويهرع عمال بثيابهم الزرقوقبعاتهم الصفر لجرها في عربات مكشوفة, مما كان يحدث أحياناً أصواتاً قوية, ويتركجانباً من القاعة مفتوحاً لمجرى هواء جليدي. أحدهم نبَّهني أن أقصد الجهة الأخرى منالقاعة, فقصدتها أنتظره.
ثمّ جاء..
هاهم يأتون به, غرباء يحملونه علىأكتافهم, حلماً في تابوت من خشب, مكلَّلاً بكبرياء الخاسرين يجيء, له جنازة تليقبسخريته, أكاد أصيح بهم " لا تسرعوا بنعشه فتتعثرون بضحكته". هو المتئد المتمهل, لاتستعجلوه. هو الواثق كالتأمل, انصتوا لتهكمه وهو يعبر لوحته الأخيرة, يجتاز قدره منضفة إلى أخرى, كما يجتاز جسراً, محمولاً من أناسٍ لا يدرون كم رسم هذاالممر.
وهو يبني جسراً. لا همّ للمهندسين إلا العبور الأمين, أما العبورالجميل, فيهندس جماله أو بشاعته مهندس أكبر, يملك وحده حقّ هندسة خطى القدر.
ياإله الجسور, يا إله العبور الأخير, لا توقظه. عاش عمره على سفر, حقّ له أنيستريح.
يا إلهة الأسرة, عابر سرير هو حيثما حلّ, فأهده راحة سريره الضيقالأخير.
وأنت يا إله الأبواب, لا قبور آمنة في انتظاره, فلا تدعهم يخلعون بابنومه.
في حضرته, اكتشفت أنني فقدت القدرة على البكاء, ولم يبق لي أمام الحزن إلاذلك الأنين الأخرس للحيتان في عتمة المحيطات.
كان أمام الموت يفعل ما كان يفعلهدائماً أمام الحياة: التهكم!
وعندما لم أجد في العين دمعاً يليق بسخريته, رحتأشاطره الابتسام.
فجأة لمحتها, كانت رفقة ناصر, جاءت. إذن جاءت. هي, أكانتهي؟ تلك المرأة القادمة بخطىً بطيئة يلفّ شعرها شال من الموسلين الأسود, مرتديةمعطف فرو طويل, برغم البرد القارس, ما أحببت ترف حدادها الفاخر.
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)