ذكر علي بن محمد النوفلي أن أباه حدثه، قال: خرجت في السنة التي مات فيها أبو جعفر من طريق البصرة؛ وكان أبو جعفر خرج على طريق الكوفة، فلقيته بذات عرق ثم سرت معه، فكان كلما ركب عرضت له فسلمت عليه، وقد كان أدنف وأشفى على الموت، فلما صار ببئر ميمون نزل به، ودخلنا مكة، قضيت عمرتي، ثم كنت أختلف إلى أبي جعفر إلى مضربه، فأقيم فيه إلى قريب الزوال، ثم انصرف - وكذلك كان يفعل الهاشميون - وأقبلت علته تشتد وتزداد، فلما كان في الليلة التي مات فيها، ولم نعلم؛ فصليت الصبح في المسجد الحرام مع طلوع الفجر، ثم ركبت في ثوبي متقلدًا السيف عليهما، وأنا أساير محمد بن عون بن عبد الله بن الحارث - وكان من سادة بني هاشم ومشايخهم؛ وكان في ذلك اليوم عليه ثوبان موردان قد أحرم فيهما، متقلدًا السيف عليهما - قال: وكان مشايخ بني هاشم يحبون أن يحرموا في المورد لحديث عمر بن الخطاب وعبد الله بن جعفر وقول علي بن أبي طالب فيه. فلما صرنا بالأبطح لقينا العباس بن محمد ومحمد بن سليمان في خيل ورجال يدخلان مكة، فعدلنا إليهما، فسلمنا عليهما ثم مضينا، فقال لي محمد بن عون: ما ترى حال هذين ودخولهما مكة؟ قلت: أحسب الرجل قد مات؛ فأرادا أن يحصنا مكة؛ فكان ذلك كذلك، فبينا نحن نسير، إذا خفي الشخص في طمرين، ونحن بعد في غلس، قد جاء فدخل بين أعناق دابتينا، فقال: مات والله الرجل! ثم خفي عنا، فمضينا نحن حتى أتينا العسكر، فدخلنا السرادق الذي كنا نجلس فيه كل يوم؛ فإذا بموسى بن المهدي قد صدر عند عمود السرادق، وإذا القاسم بن منصور في ناحية السرادق - وقد كان حين لقينا المنصور بذات عرق، إذا ركب المنصور بعيره جاء القاسم فسار بين يديه بينه وبين صاحب الشرطة، ويؤمر الناس أن يرفعوا القصص إليه - قال: فلما رأيته ناحية السرادق ورأيت موسى مصدرًا، علمت أن المنصور قد مات. قال: فبينا أنا جالس إذ أقبل الحسن بن زيد، فجلس إلى جنبي، فصارت فخذه على فخذي، وجاء الناس حتى ملئوا السرادق، وفيهم ابن عياش المنتوف، فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا همسًا من بكاء. فقال لي الحسن: أترى الرجل مات! قلت: لا أحسب ذلك؛ ولكن لعله ثقيل، أو إصابته غشية، فما راعنا إلا بأبي العنبر الخادم الأسود خادم المنصور، قد خرج علينا مشقوق الأقبية من بين يديه ومن خلفه، وعلى رأسه التراب، فصاح: وا أمير المؤمنيناه! فما بقي في السرادق أحد إلا قام على رجليه، ثم أهووا نحو مضارب أبي جعفر يريدون الدخول، فمنعهم الخدم، ودفعوا في صدورهم. وقال بن عياش المنتوف: سبحان الله! أما شهدتم موت خليفة قط! اجلسوا رحمكم الله. فجلس الناس، وقام القاسم فشق ثيابه، ووضع التراب على رأسه، وموسى جالس على حاله. وكان صبيًا رطبًا ما يتحلحل.
ثم خرج الربيع، وفي يده قرطاس، فألقى أسفله على الأرض، وتناول طرفه، ثم قرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم ". من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف بعده من بني هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين - ثم ألقى القرطاس من يده، وبكى وبكى الناس، فأخذ القرطاس، وقال: قد أمكنكم البكاء؛ ولكن هذا عهد أمير المؤمنين، لا بد من أن نقرأه عليكم، فأنصتوا رحمكم الله، فسكت الناس، ثم رجع إلى القراءة - أما بعد: فإني كتبت كتابي هذا وأنا حي في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وأنا أقرأ عليكم السلام، وأسأل الله ألا يفتنكم بعدي، ولا يلبسكم شيعًا، ولا يذيق بعضكم بأس بعض. يا بني هاشم، ويا أهل خراسان.. ثم أخذ في وصيتهم بالمهدي، وإذكارهم البيعة له، وحضهم على القيام بدولته، والوفاء بعهده إلى آخر الكتاب.
قال النوفل: قال أبي: وكان هذا شيئًا وضعه الربيع؛ ثم نظر في وجوه الناس، فدنا من الهاشميين، فتناول يد الحسن بن زيد، فقال: قم يا أبا محمد، فبايع، فقام معه الحسن، فانتهى به الربيع إلى موسى فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن يد موسى، ثم التفت إلى الناس، فقال:
يا أيها الناس، إن أمير المؤمنين كان ضربني واصطفى مالي؛ فكلمه المهدي فرضي عني، وكلمه في رد مالي علي فأبى ذلك، فأخلفه المهدي من ماله وأضعفه مكان كل علق علقين، فمن أولى بأن يبايع لأمير المؤمنين بصدر منشرح ونفس طيبة وقلب ناصح مني! ثم بايع موسى للمهدي، ثم مسح على يده. ثم جاء الربيع بن عون، فقدمه للسن فبايع، ثم جاء الربيع إلي فأنهضني؛ فكنت الثالث؛ وبايع الناس؛ فلما فرغ دخل المضارب، فمكث هنيهة ثم خرج إلينا معشر الهاشميين، فقال: انهضوا، فنهضنا معه جميعًا، وكنا جماعة كثيرة من أهل العراق وأهل مكة والمدينة ممن حضر الحج، فدخلنا فإذا نحن بالمنصور على سريره في أكفانه، مكشوف الوجه؛ فحملناه حتى أتينا به مكة ثلاثة أميال؛ فكأني أنظر إليه أدنو من قائمة سريره نحمله؛ فتحرك الريح، فتطير شعر صدغيه؛ وذلك أنه كان قد وفر شعره للحلق، وقد نصل خضابه؛ حتى أتينا به حفرته، فدليناه فيها.
قال: وسمعت أبي يقول: كان أول شيء ارتفع به علي بن عيسى بن ماهان؛ أنه لما كان الليلة التي مات فيها أبو جعفر أرادوا عيسى بن موسى على بيعة مجددة للمهدي - وكان القائم بذلك الربيع - فأبى عيسى بن موسى، فأقبل القواد الذين حضروا يقربون ويتباعدون؛ فنهض علي بن عيسى بن ماهان، فاستل سيفه، ثم جاء إليه، فقال: والله لتبايعن أو لأضربن عنقك! فلما رأى ذلك عيسى، بايع وبايع الناس بعده.
وذكر عيسى بن محمد أن موسى بن هارون حدثه أن موسى بن المهدي والربيع مولى المنصور وجها منارة مولى المنصور بخبر وفاة المنصور وبالبيعة للمهدي. وبعثا بعد بقضيب النبي وبردته التي يتوارثها الخلفاء مع الحسن الشروي، وبعث أبو العباس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة؛ ثم خرجوا من مكة، وسار عبد الله بن المسيب بن زهير بالحربة بين يدي صالح بن المنصور، على ما كان يسير بها بين يديه في حياة المنصور، فكسرها القاسم بن نصر بن مالك؛ وهو يومئذ على شرطة موسى بن المهدي، واندس علي بن عيسى بن ماهان لما كان في نفسه من أذى عيسى بن موسى، وما صنع به للراوندية، فأظهر الطعن والكلام في مسيرهم. وكان من رؤسائهم أبو خالد المروروزي، حتى كاد الأمر يعظم ويتفاقم، حتى لبس السلاح. وتحرك في ذلك محمد بن سلمان، وقام فيه وغيره من أهل بيته؛ إلا أن محمدًا كان أحسنهم قيامًا به حتى طفئ ذلك وسكن. وكتب به إلى المهدي، فكتب بعزل علي بن عيسى عن حرس موسى بن المهدي، وصير مكانه أبا حنيفة حري بن قيس، وهدأ أمر العسكر، وتقدم العباس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى المهدي، وسبق إليه العباس بن محمد. وقدم منارة على المهدي يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة، وعزاه، وأوصلوا الكتب إليه، وبايعه أهل مدينة السلام.
وذكر الهيثم بن عدي عن الربيع، أن المنصور رأى في حجته التي مات فيها وهو بالعذيب - أو غيره من منازل طريق مكة - رؤيا - وكان الربي عديله - وفزع منها، وقال: يا ربيع ما أحيبني إلى ميتًا في وجهي هذا؛ وأنك تؤكد البيعة لأبي عبد الله المهدي، قال الربيع: فقلت له: بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويبلغ أبو عبد الله محبتك في حياتك إن شاء الله. قال: وثقل عند ذلك وهو يقول: بادر بي إلى حرم ربي وأمنه، هاربًا من ذنوبي وإسرافي عل نفسي؛ فلم يزل كذلك حتى بلغ بئر ميمون، فقلت له: هذه بئر ميمون، وقد دخلت الحرم، فقال: الحمد لله، وقضى من يومه. قال الربيع: فأمرت بالخيم فضربت، وبالفساطيط فهيئت، وعمدت إلى أمير المؤمنين فألبسته الطويلة والدراعة، وسندته، وألقيت في وجه كلة رقيقة يرى منها شخصه، ولا يفهم أمره، وأدنيت أهله من الكلة حيث لا يعلم بخبره، ويرى شخصه. ثم دخلت فوقفت بالموضع الذي أوهمهم أنه يخاطبني، ثم خرجت فقلت: إن أمير المؤمنين مفيق بمن الله، وهو يقرأ عليكم السلام، ويقول: إني أحب أن يؤكد الله أمركم؛ ويكبت عدوكم، ويسر وليكم؛ وقد أحببت أن تجددوا بيعة أبي عبد الله المهدي؛ لئلا يطمع فيكم عدو ولا باغٍ، فقال القوم كلهم: وفق الله أمير المؤمنين؛ نحن إلى ذلك أسرع. قال: فدخل فوقف، ورجع إليهم، فقال: هلموا للبيعة، فبايع القوم كلهم؛ فلم يبق أحد من خاصته والأولياء ورؤساء من حضره إلا بايع المهدي، ثم دخل وخرج باكيًا مشقوق الجيب لاطم رأسه، فقال بعض من حضر: ويلي عليك يا بن شاة! يريد الربيع - وكانت أمه ماتت وهي ترضعه فأرضعته شاة - قال: وحفر للمنصور مائة قبر، ودفن في كلها لئلا يعرف موضع قبره الذي هو ظاهر للناس، ودفن في غيرها للخوف عليه. وهكذا قبور خلفاء ولد العباس، لا يعرف لأحد منهم قبر. قال: فبلغ المهدي فلما قدم عليه الربيع قال: يا عبد؛ ألم تمنعك جلالة أمير المؤمنين أن فعلت ما فعلت به! وقال قوم أنه ضربه؛ ولم يصح ذلك. قال: وذكر من حضر حجة المنصور، قال: رأيت صالح بن المنصور وهو مع أبيه والناس معه؛ وإن موسى بن المهدي لقي تباعه، ثم رجع الناس وهم خلف موسى، وأن صالحًا معه.
وذكر عن الأصمعي أنه قال: أول من نعى أبو جعفر المنصور بالبصرة خلف الأحمر، وذلك أنا كنا في حلقة يونس، فمر بنا فسلم علينا، فقال: قد طرقت ببكرها أم طبق قال يونس: وماذا؟ قال:
تنتجوها خير أضخم العنق ** موت الإمام فلقة من الفلق
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي، وكان المنصور - فيما ذكر - أوصى بذلك.
وكان العامل في هذه السنة على مكة والطائف إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس، وعلى المدينة عبد الصمد بن علي، وعلى الكوفة عمرو بن زهير الضبي أخو المسيب بن زهير - وقيل: كان العامل عليها إسماعيل بن أبي إسماعيل الثقفي. وقيل: إنه مولى لبني نصر من قيس - وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخعي، وعلى ديوان خراجها ثابت بن موسى، وعلى خراسان حميد بن قحطبة، وعلى قضاء بغداد مع قضاء الكوفة شريك ابن عبد الله.
وقيل: كان القاضي على بغداد يوم مات المنصور عبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي وشريك بن عبد الله على قضاء الكوفة خاصة. وقيل: إن شريكًا كان إليه قضاء الكوفة، والصلاة بأهلها.
وكان على الشرط ببغداد يوم مات المنصور - فيما ذكر - عمر بن عبد الرحمن أخو عبد الجبار بن عبد الرحمن. وقيل كان موسى بن كعب.
وعلى ديوان خراج البصرة وأرضها عمارة بن حمزة. وعلى قضائها والصلاة عبيد الله بن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بن دعلج.
وأصاب الناس - فيما ذكر محمد بن عمر - في هذه السنة وباء شديد
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة

ذكر ما كان فيها من الأحداث

فمن ذلك غزوة العباس بن محمد الصائفة فيها حتى بلغ أنقرة؛ وكان على مقدمة العباس الحسن الوصيف في الموالي، وكان المهدي ضم إليه جماعة من قواد أهل خراسان وغيرهم. وخرج المهدي فعسكر بالبردان وأقام فيه حتى أنفذ العباس بن محمد، ومن قطع عليه البعث معه، ولم يجعل للعباس على الحسن الوصيف ولاية في عزل ولا غيره، ففتح في غزاته هذه مدينة للروم ومطمورة معها، وانصرفوا سالمين لم يصب من المسلمين أحد.
وهلك في هذه السنة حميد بن قحطبة، وهو عامل المهدي على خراسان، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد.
وفيها ولي حمزة بن مالك سجستان، وولي جبرائيل بن يحيى سمرقند.
وفيها بنى المهدي مسجد الرصافة.
وفيها بنى حائطها، وحفر خندقها.
وفيها عزل المهدي عبد الصمد بن علي عن المدينة؛ مدينة الرسول عن موجدة، واستعمل عليها مكانه محمد بن عبد الله الكثيري ثم عزله، واستعمل عليها مكانه عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان الجمحي.
وفيها وجه المهدي عبد الملك بن شهاب المسمعي في البحر إلى بلاد الهند، وفرض معه لألفين من أهل البصرة من جميع الأجناد، وأشخصهم معه، وأشخص معه من المطوعة الذين كانوا يلزمون المرابطات ألفًا وخمسمائة رجل، ووجه معه قائدًا من أبناء أهل الشام يقال له ابن الحباب المدحجي في سبعمائة من أهل الشام، وخرج معه من مطوعة أهل البصرة بأموالهم ألف رجل، فيهم - فيما ذكر - الربيع بن صبيح، ومن الأسواريين والسبابجة أربعة آلاف رجل، فولى عبد الملك بن شهاب المنذر بن الجارودي الألف الرجل المطوعة من أهل البصرة، وولى ابنه غسان بن عبد الملك الألفي الرجل الذين من فرض البصرة، وولى عبد الواحد بن عبد الملك الألف والخمسمائة الرجل من مطوعة المرابطات، وأفرد يزيد بن الحباب في أصحابه فخرجوا، وكان المهدي وجه لتجهيزهم حتى شخصوا أبا القاسم محرز بن إبراهيم، فمضوا لوجههم؛ حتى أتوا مدينة باربد من بلاد الهند في سنة ستين ومائة.
وفيها توفي معبد بن الخليل بالسند، وهو عامل المهدي عليها، فاستعمل مكانه روح بن حاتم بمشورة أبي عبيد الله وزيره.
وفيها أمر المهدي بإطلاق من كان في سجن المنصور، إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، ومن كان معروفًا بالسعي في الأرض بالفساد، أو من كان لأحد قبله مظلمة أو حق، فأطلقوا، فكان ممن أطلق من المطبق يعقوب بن داود مولى بني سليم، وكان معه في ذلك الحبس محبوسًا الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وفيها حمل المهدي الحسن بن إبراهيم من المطبق الذي كان فيه محبوسًا إلى نصير الوصيف فحبسه عنده.
ذكر الخبر عن سبب تحويل المهدي الحسن بن إبراهيم من المطبق إلى نصير

ذكر أن السبب في ذلك، كان أن المهدي لما أمر بإطلاق أهل السجون على ما ذكرت، وكان يعقوب بن داود محبوسًا مع الحسن بن إبراهيم في موضع واحد، فأطلق يعقوب بن داود، ولم يطلق الحسن بن إبراهيم، ساء ظنه، وخاف على نفسه، فالتمس مخرجًا لنفسه وخلاصًا، فدس إلى بعض ثقاته، فحفر له سربًا من موضع مسامت للموضع الذي هو فيه محبوس، وكان يعقوب بن داود بعد أن أطلق يطيف بابن علاثة - وهو قاضي المهدي بمدينة السلام - ويلزمه، حتى أنس به، وبلغ يعقوب ما عزم عليه الحسن بن إبراهيم من الهرب، فأتى ابن علاثة، فأخبره أن عنده نصيحة للمهدي، وسأله إيصاله إلى أبي عبيد الله، فسأله عن تلك النصيحة، فأبى أن يخبره بها، وحذره فوتها، فانطلق ابن علاثة إلى أبي عبيد الله فأخبره خبر يعقوب وما جاء به، فأمره بإدخاله عليه؛ فلما دخل عليه سأله إيصاله إلى المهدي، ليعلمه النصيحة التي له عنده، فأدخله عليه، فلما دخل على المهدي شكر له بلاءه عنده في إطلاقه إياه ومنه عليه، ثم أخبره أن له عنده نصيحة، فسأله عنها بمحضر من أبي عبيد الله وابن علاثة، فاستخلاه منهما، فأعلمه المهدي ثقته بهما، فأبى أن يبوح له بشيء حتى يقوما، فأقامهما وأخلاه، فأخبره خبر الحسن بن إبراهيم وما أجمع عليه، وأن ذلك كائن من ليلته المستقبلة، فوجه المهدي من يثق به ليأتيه بخبره، فأتاه بتحقيق ما أخبره به يعقوب، فأمر بتحويله إلى نصير، فلم يزل في حبسه إلى أن احتال واحتيل له، فخرج هاربًا، وافتقد، فشاع خبره، فطلب فلم يظفر به، وتذكر المهدي دلالة يعقوب إياه كانت عليه، فرجا عنده من الدلالة عليه مثل الذي كان منه في أمره، فسأل أبا عبيد الله فأخبره أنه حاضر - وقد كان لزم أبا عبيد الله - فدعى به المهدي خاليًا، فذكر له ما كان من فعله في الحسن بن إبراهيم أولًا، ونصحه له فيه، وأخبره بما حدث من أمره، فاخبره يعقوب أنه لا علم له بمكانه، وأنه إن أعطاه أمانًا يثق به ضمن له أن يأتيه به، على أن يتم له على أمانه، ويصله ويحسن إليه. فأعطاه المهدي ذلك في مجلسه وضمنه له. فقال له يعقوب: فله يا أمير المؤمنين عن ذكره، ودع طلبه، فإن ذلك يوحشه، ودعني وإياه حتى أحتال فآتيك به؛ فأعطاه المهدي ذلك. وقال يعقوب: يا أمير المؤمنين، قد بسطت عدلك لرعيتك، وأنصفتهم، وعممتهم بخيرك وفضلك، فعظم رجاؤهم، وانفسحت آمالهم؛ وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لك لم تدع النظر فيها بمثل ما فعلت في غيرها، وأشياء مع ذلك خلف بابك يعمل بها لا تعلمها، فإن جعلت لي السبيل إلى الدخول عليك، وأذنت لي في رفعها إليك فعلت. فأعطاه المهدي ذلك، وجعله إليه، وصير سليمان الخادم الأسود خادم المنصور سببه في إعلام المهدي بمكانه كلما أراد الدخول، فكان يعقوب يدخل على المهدي ليلًا، ويفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وتزويج العزاب، وفكاك الأسرى والمحبسين والقضاء على الغارمين، والصدقة على المتعففين، فحظى بذلك عنده، وبما رجى أن ينال به من الظفر بالحسن بن إبراهيم، واتخذه أخًا في الله، وأخرج بذلك توقيعًا، وأثبت في الدواوين، فتسبب مائة ألف درهم كانت أول صلة وصله بها، فلم تزل منزلته تنمى وتعلو صعدًا، إلى أن صير الحسن بن إبراهيم في يد المهدي بعد ذلك؛ وإلى أن سقطت منزلته، وأمر المهدي بحبسه، فقال علي بن الخليل في ذلك: