









سليمى أجمعت بينا ** فأين تقولها أينا!
فطرب حتى قام من مجلسه، ورفع صوته، وقال: أعد، فأعدت، فقال: هذا غرضي فاحتكم، فقلت يا أمير المؤمنين، حائط عبد الملك وعينه الخرارة، فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان، ثم قال: يا بن اللخناء، أردت أن تسمع العامة أنك أطربتني وأني حكمتك فأقطعتك! أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحيح عقلك لضربت الذي فيه عيناك. ثم أطرق هنيهة، فرأيت ملك الموت بيني وبينه ينتظر أكره. ثم دعا إبراهيم الحراني فقال: خذ بيد هذا الجاهل فأدخله بيت المال، فليأخذ منه ما شاء، فأدخلني الحراني بيت المال، فقال: كم تأخذ؟ قلت: ماءة بدرة، قال: دعني أؤامره، قال: قلت: فثمانين، قال: حتى أؤامره، فعملت ما أراد، فقلت: سبعين بدرة لي، وثلاثين لك، قال: الآن جئت بالحق، فشأنك. فانصرفت بسبعمائة ألف وانصرف ملك الموت عن وجهي.
وذكر علي بن محمد، قال: حدثني صالح بن علي بن عطية الأضخم عن حكم الوادي، قال كان الهادي يشتهي من الغناء الوسط الذي يقل ترجيعه، ولا يبلغ أن يستخف به جدًا. قال: فبينا نحن ليلة عنده، وعنده ابن جامع والموصلي والزبير بن دحمان والغنوي إذ دعا بثلاث بدور وأمر بهن فوضعن في وسط المجلس، ثم ضم بعضهن إلى بعض، وقال: من غنائي صوتًا في الطريق الذي أشتهيه، فهن له كلهن. قال: وكان فيه خلق حسن؛ كان إذا كره شيئًا لم يوقف عليه، وأعرض عنه. فغناه ابن الجامع، فأعرض عنه، وغنى القوم كلهم؛ فأقبل يعرض حتى تغنيت، فوافقت ما يشتهي فصاح أحسنت أحسنت! اسقوني، فشرب وطرب، فقمت فجلست على البدور، وعلمت أني قد حويتها، فحضر ابن جامع، فأحسن المحضر، وقال: يا أمير المؤمنين، هو والله كما قلت، وما منا أحد إلا وقد ذهب عن طريقك غيره، قال: هي لك، وشرب حتى بلغ حاجته على الصوت، ونهض، فقال: مروا ثلاثة من الفراشين يحملونها معه، فدخل وخرجنا نمشي في الصحن منصرفين، فلحقني ابن جامع، فقلت: جعلت فداك يا أبا القاسم! فعلت ما يفعل مثلك في نسبك؛ فانظر فيها بما شئت. فقال: هنأك الله، ووددنا أنا زدناك. ولحقنا الموصلي، فقال: أجزنا، فقلت: ولم لم تحسن محضرك! لا والله ولا درهمًا واحدًا.
وذكر محمد بن عبد الله، قال: قال لي سعيد القارئ العلاف - وكان صاحب أبان القارئ -: إنه كان عند موسى جلساؤه، فيهم الحراني وسعيد بن سلم وغيرهما؛ وكانت جارية لموسى تسقيهم؛ وكانت ماجنةً، فكانت تقول لهذا: يا جلفي؛ وتعبث بهذا وهذا؛ ودخل يزيد بن مزيد فسمع ما تقول لهم، فقال لها: والله الكبير؛ لئن قلت لي مثل ما تقولين لهم لأضربنك ضربة بالسيف، فقال لها موسى: ويلك! إنه والله يفعل ما يقول؛ فإياك. قال: فأمسكت عنه ولم تعابثه قط. قال: وكان سعيد العلاف وأبان القارئ إباضيين.
وذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود الكاتب، قال: حدثني ابن القداح، قال: كانت للربيع جارية يقال لها أمة العزيز، فائقة الجمال، ناهدة الثديين، حسنة القوام، فأهداها لإلى المهدي، فلما رأى جمالها وهيئتها، قال: هذه لموسى أصلح، فوهبها له؛ فكانت أحب الخلق إليه، وولدت له بنيه الأكابر. ثم إن بعض أعداء الربيع قال لموسى: إنه سمع الربيع يقول: ما وضعت بيني وبين الأرض مثل أمة العزيز، فغار موسى من ذلك غيرة شديدة، وحلف ليقتلن الربيع، فلما استخلف دعا الربيع في بعض الأيام، فتغدى معه وأكرمه، وناوله كأسًا فيها شراب عسل؛ قال: فقال الربيع: فعلمت أن نفسي فيها، وأني إن رددت الكأس ضرب عنقي؛ مع ما قد علمت أن في قلبه علي من دخولي على أمه، وما بلغه عني، ولم يسمع مني عذرًا. فشربتها. وانصرف الربيع إلى منزله، فجمع ولده، وقال لهم: إني ميت في يومي هذا أو من غد، فقال له ابنه الفضل: ولم تقول هذا جعلت فداك! فقال: إن موسى سقاني شربة سم بيده، فأنا أجد عملها في بدني، ثم أوصى بما أراد، ومات في يومه أو من غده. ثم تزوج الرشيد أمة العزيز بعد موت موسى الهادي، فأولدها علي بن الرشيد.
وزعم الفضل بن سليمان بن إسحاق الهاشمي أن الهادي لما تحول إلى عيساباذ في أول السنة التي ولي الخلافة فيها، عزل الربيع عما كان يتولاه من الوزارة وديوان الرسائل، وولى مكانه عمر بن بزيع، وأقر الربيع على الزمام؛ وأوذن بموته فلم يحضر جنازته، وصلى عليه هارون الرشيد؛ وهو يومئذ ولي عهد، وولى موسى مكان الربيع إبراهيم بن ذكوان الحراني، واستخلف على ما تولاه إسماعيل بن صبيح، ثم عزله واستخلف يحيى بن سليم، وولى إسماعيل زمام ديوان الشام وما يليها.
وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، خال الفضل بن الربيع، أن أباه حدثه، أن موسى الهادي قال: أريد قتل الربيع؛ فما أدري كيف أفعل به! فقال له سعيد بن سلم: تأمر رجلًا باتخاذ سكين مسموم، وتأمره بقتله، ثم تأمر بقتل ذلك الرجل. قال: هذا الرأي، فأمر رجلًا فجلس له في الطريق، وأمره بذلك، فخرج بعض خلفاء الربيع، فقال له: إنه قد أمر فيك بكذا وكذا، فأخذ في غير ذلك الطريق، فدخل منزله، فتمارض، فمرض بعد ذلك ثمانية أيام؛ فمات ميتة نفسه.
وكانت وفاته سنة تسع وستين ومائة؛ وهو الربيع بن يونس.
خلافة هارون الرشيد
بويع للرشيد هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالخلافة ليلة الجمعة الليلة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي. وكانت سنة يوم ولي اثنتين وعشرين سنة. وقيل كان يوم بويع بالخلافة ابن إحدى وعشرين سنة. وأمه أم ولد يمانية جرشية يقال لها خيزران، وولد بالري لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة في خلافة المنصور.
وأما البرامكة فإنها - فيما ذكر - تزعم أن الرشيد ولد أول يوم من المحرم سنة تسع وأربعين ومائة؛ وكان الفضل بن يحيى ولد قبله بسبعة أيام، وكان مولد الفضل لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائة، فجعلت أم الفضل ظئرًا للرشيد، وهي زينب بنت منير، فأرضعت الرشيد بلبان الفضل، وأرضعت الخيزران الفضل بلبان الرشيد.
وذكر سليمان بن أبي شيخ أنه لما كان الليلة التي توفي فيها موسى الهادي أخرج هرثمة بن أعين هارون الرشيد ليلًا فأقعده للخلافة، فدعا هارون يحيى بن خالد بن برمك - وكان محبوسًا، وقد كان عزم موسى على قتله وقتل هارون الرشيد في تلك الليلة - قال: فحضر يحيى، وتقلد الوزارة، ووجه إلى يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب فأحضره، وأمره بإنشاء الكتب؛ فلما كان غداة تلك الليلة، وحضر القواد قام يوسف بن القاسم، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد، ثم تكلم بكلام أبلغ فيه، وذكر موت موسى وقيام هارون بالأمر من بعده، وما أمر به للناس من الأعطيات.
وذكر أحمد بن القاسم، أنه حدثه عمه علي بن يوسف بن القاسم هذا الحديث، فقال: حدثني يزيد الطبري مولانا أنه كان حاضرًا يحمل دواة أبي يوسف بن القاسم، فحفظ الكلام. قال: قال بعد الحمد لله عز وجل والصلاة على النبي:
إن الله بمنه ولطفه من عليكم معاشر أهل بيت نبيه بيت الخلافة ومعدن الرسالة، وأتاكم أهل الطاعة من أنصار الدولة وأعوان الدعوة، من نعمه التي لا تحصى بالعدد، ولا تنقضي مدى الأبد، وأياديه التامة، أن جمع ألفتكم وأعلى أمركم، وشد عضدكم، وأوهن عدوكم، وأظهر كلمة الحق؛ وكنتم أولى بها وأهلها، فأعزكم الله وكان الله قويًا عزيزًا؛ فكنتم أنصار دين الله المرتضى والذابين بسيفه المنتضى؛ عن أهل بيت نبيه. وبكم استنقذكم من أيدي الظلمة، أئمة الجور، والناقضين عهد الله، والسافكين الدم الحرام، والآكلين الفيء، والمستأثرين به؛ فاذكروا ما أعطاكم الله من هذه النعمة، واحذروا أن تغيروا فيغير بكم. وإن الله جل وعز استأثر بخليفته موسى الهادي الإمام، فقبضه إليه، وولى بعده رشيدًا مرضيًا أمير المؤمنين رءوفًا بكم رحيمًا، من محسنكم قبولًا، وعلى مسيئكم بالعفو عطوفًا؛ وهو - أمتعه الله بالنعمة وحفظ له ما اترعاه إياه من أمر الأمة، وتولاه بما تولى به أولياءه وأهل طاعته - يعدكم من نفسه الرأفة بكم، والرحمة لكم. وقسم أعطياتكم فيكم عند استحقاقكم، ويبذل لكم من الجائزة مما أفاء الله على الخلفاء مما في بيوت الأموال ما ينوب عن رزق كذا وكذا شهرًا، غير مقاص لكم بذلك فيما تستقبلون من أعطياتكم، وحامل باقي ذلك؛ للدفع عن حريمكم، وما لعله أن يحدث في النواحي والأقطار من العصاة المارقين إلى بيوت الأموال؛ حتى تعود الأموال إلى جمامها وكثرتها، والحال التي كانت عليها؛ فاحمدوا الله وجددوا شكرًا يوجب لكم المزيد من إحسانه إليكم؛ بما جدد لكم من رأي أمير المؤمنين، وتفضل به عليكم، أيده الله بطاعته. وارغبوا إلى الله له في البقاء؛ ولكم به في إدامة النعماء، لعلكم ترحمون. وأعطوا صفقة أيمانكم، وقوموا إلى بيعتكم، حاطكم الله وحاط عليكم، وأصلح بكم وعلى أيديكم، وتولاكم ولاية عباده الصالحين.
وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: حدثني محمد بن هشام المخزومي، قال: جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد وهو نائم في لحاف بلا إزار؛ لما توفي موسى، فقال: قم يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: كم تروعني إعجابًا منك بخلافتي! وأنت تعلم حالي عند هذا الرجل؛ فإن بلغه هذا، فما تكون حالي! فقال له: هذا الحراني وزير موسى وهذا خاتمه. قال: فقعد في فراشه، فقال: أشر علي، قال: فبينما هو يكلمه إذ طلع رسول آخر، فقال: قد ولد لك غلام، فقال: قد سميته عبد الله، ثم قال ليحيى: أشر علي، فقال: أشير عليك أن تقعد لحالك على أرمينية، قال: قد فعلت؛ ولا والله لا صليت بعيساباذ إلا عليها، ولا صليت الظهر إلا ببغداد؛ وإلا ورأس أبي عصمة بين يدي. قال: ثم لبس ثيابه، وخرج فصلى عليه، وقدم أبا عصمة، فضرب عنقه، وشط جمته في رأس قناة، ودخل بها بغداد؛ وذلك أنه كان مضى هو وجعفر بن موسى الهادي راكبين. فبلغا إلى قنطرة من قناطر عيساباذ، فالتفت أبو عصمة إلى هارون، فقال له: مكانك حتى يجوز ولي العهد، فقال هارون: السمع والطاعة للأمير؛ فوقف حتى جاز جعفر؛ فكان هذا سبب قتل أبي عصمة.
قال: ولما صار الرشيد إلى كرسي الجسر دعا بالغواصين، فقال: كان المهدي وهب لي خاتمًا شراؤه مائة ألف دينار يسمى الجبل، فدخلت على أخي وهو في يدي؛ فلما انصرفت لحقني سليم الأسود على الكرسي. فقال: يأمرك أمير المؤمنين أن تعطيني الخاتم، فرميت به في هذا الموضع. فغاصوا فأخرجوه، فسر به غاية السرور.
وقال محمد بن إسحاق الهاشمي: حدثني غير واحد من أصحابنا، منهم صباح بن خاقان التميمي، أن موسى الهادي كان خلع الرشيد وبايع لابنه جعفر؛ وكان عبد الله بن مالك على الشرط، فلما توفي الهادي هجم خزيمة بن خازم في تلك الليلة، فأخذ جعفرًا من فراشه؛ وكان خزيمة في خمسة آلاف من مواليه معهم السلاح، فقال: والله لأضربن عنقك أو تخلعها، فلما كان الغد، ركب الناس إلى باب جعفر، فأتى به خزيمة، فأقامه على باب الدار في العلو، والأبواب مغلقة، فأقبل جعفر ينادي: يا معشر المسلمين، من كان لي في عنقه بيعة فقد أحللته منها؛ والخلافة لعمي هارون؛ ولا حق لي فيها.
وكان سبب مشي عبد الله بن مالك الخزاعي إلى مكة على اللبود؛ لأنه كان شاور الفقهاء في أيمانه التي حلف بها لبيعة جعفر، فقالوا له:
كل يمين لك تخرج منها إلا المشي إلى بيت الله؛ ليس فيه حيلة. فحج ماشيًا. وحظي خزيمة بذلك عند الرشيد.
وذكر أن الرشيد كان ساخطًا على إبراهيم الحراني وسلام الأبرش يوم مات موسى، فأمر بحبسهما وقبض أموالهما، فحبس إبراهيم عند يحيى بن خالد في داره، فكلم فيه محمد بن سليمان هارون، وسأله الرضا عنه وتخلية سبيله، والإذن له في الانحدار معه إلى البصرة، فأجابه إلى ذلك.
وفي هذه السنة عزل الرشيد عمر بن عبد العزيز العمري عن مدينة الرسول؛ وما كان إليه من عملها، وولى ذلك إسحاق بن سليمان بن علي.
وفيها ولد محمد بن هارون الرشيد، وكان مولده - فيما ذكر أبو الكرماني عن محمد بن يحيى بن خالد - يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال من هذه السنة، وكان مولد المأمون قبله في ليلة الجمعة النصف من شهر ربيع الأول.
وفيها قلد الرشيد يحيى بن خالد الوزارة، وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى. ودفع إليه خاتمه؛ وفي ذلك يقول إبراهيم الموصلي:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة ** فلما ولي هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذي الندى ** فهارون واليها ويحيى وزيرها
وكانت الخيزران هي الناظرة في الأمور، وكان يحيى يعرض عليها ويصدر عن رأيها.
وفيها أمر هارون بسهم ذوي القربى، فقسم بين بني هاشم بالسوية.
وفيها آمن من كان هاربًا أو مستخفيًا، غير نفر من الزنادقة؛ منهم يونس بن فروة ويزيد بن الفيض.
وكان ممن ظهر من الطالبيين طبابا؛ وهو إبراهيم بن إسماعيل، وعلي بن الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن.
وفيها عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين، وجعلها حيزًا واحدًا وسميت العواصم.
وفيها عمرت طرسوس على يدي أبي سليم فرج الخادم التركي ونزلها الناس.
وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد من مدينة السلام، فأعطى أهل الحرمين عطاء كثيرًا، وقسم فيهم مالًا جليلًا.
وقد قيل: إنه حج في هذه السنة وغزا فيها، وفي ذلك يقول داود بن رزين:
بهارون لاح النور في كل بلدة ** وقام به في عدل سيرته النهج
إمام بذات الله أصبح شغله ** وأكثر ما يعني به الغزو والحج
تضيق عيون الناس عن نور وجهه ** إذا ما بدا للناس منظره البلج
وإن أمين الله هارون ذا الندى ** ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو
وغزا الصائفة في هذه السنة سليمان بن عبد الله البكائي.
وكان العامل فيها على المدينة إسحاق بن سليمان الهاشمي، وعلى مكة والطائف عبيد الله بن قثم، وعلى الكوفة موسى بن عيسى، وخليفته عليها ابنه العباس بن موسى، وعلى البصرة والبحرين والفرض وعمان واليمامة وكور الأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فما كان فيها من ذلك قدوم أبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي مدينة السلام منصرفًا عن خراسان، وكان خاتم الخلافة حين قدم مع جعفر بن محمد بن الأشعث، فلما قدم أبو العباس الطوسي أخذه الرشيد منه، فدفعه إلى أبي العباس، ثم لم يلبث أبو العباس إلا يسيرًا حتى توفي. فدفع الخاتم إلى يحيى بن خالد، فاجتمعت ليحيى الوزارتان.
وفيها قتل هارون أبا هريرة محمد بن فروخ - وكان على الجزيرة - فوجه إليه هارون أبا حنيفة حرب بن قيس، فقدم به عليه مدينة السلام، فضرب عنقه في قصر الخلد.
وفيها أمر هارون بإخراج من كان في مدينة السلام من الطالبيين إلى مدينة الرسول، خلا العباس بن الحسن بن عبد الله بن علي بن أبي طالب، وكان أبوه الحسن بن عبد الله فيمن أشخص.
وخرج الفضل بن سعيد الحروري فقتله أبو خالد المروروذي.
وفي هذه السنة كان قدوم روح بن حاتم إفريقية، وخرجت في هذه السنة الخيزران إلى مكة في شهر رمضان، فأقامت بها إلى وقت الحج فحجت.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك شخوص الرشيد فيها إلى مرج القلعة مرتادًا بها منزلا ينزله.










وذكر الضبي أن شيخًا من النوفليين، قال: دخلنا على عيسى بن جعفر، وقد وضعت له وسائد بعضها فوق بعض؛ وهو قائم متكئ عليها؛ وإذا هو يضحك من شيء في نفسه، متعجبًا منه، فقلنا ما الذي يضحك الأمير أدام لله سروره! قال: لقد دخلني اليوم سرور ما دخلني مثله قط، فقلنا تمم الله للأمير سروره، وزاده سرورًا. فقال: والله لا أحدثكم به إلا قائمًا - واتكأ على الفراش وهو قائم - فقال: كنت اليوم عد أمير المؤمنين الرشيد، فدعا بيحيى بن عبد الله، فأخرج من السجن مكبلًا في الحديد، وعنده بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير - وكان بكار شديد البغض لآل أبي طالب، وكان يبلغ هارون عنهم، ويسئ بأخبارهم، وكان الرشيد ولاه المدينة، وأمره بالتضييق عليهم - قال: فلما دعي بيحيى قال له الرشيد: هيه هيه! متضاحكًا؛ وهذا يزعم أيضًا أنا سممناه! فقال يحي: ما معنا يزعم؟ ها هو ذا لساني - قال: وأخرج لسانه أخضر مثل السلق - قال: فتربد هارون! واشتد غضبه، فقال يحي: يا أمير المؤمنين؛ إن لنا قرابة ورحمًا، لسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين؛ إنا وأنتم أهل بيت واحد، فأذكرك الله وقرابتنا من رسول الله! علام تحبسني وتعذبني؟ فال: فرق له هارون، وأقبل الزبيري على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغرك كلام هذا؛ فإنه شاق عاصي؛ وإنما هذا منه مكر وخبث؛ إن هذا أفسد علينا مدينتنا، وأظهر فيها العصيان. قال: فأقبل يحيى عليه؛ فوالله ما استأذن أمير المؤمنين في الكلام حتى قال: أفسد عليكم مدينتكم! ومن أنتم عافاكم الله! قال الزبيري: هذا كلامه قدامك؛ فكيف إذا غاب عنك! يقول: ومن أنتم! استخفافًا بنا. قال: فأقبل عليه يحي، فقال: نعم، ومن انتم عافاكم الله! المدينة كانت مهاجر عبد الله ابن الزبير أم مهاجر رسول الله
؟ ومن أنت حتى تقول: أفسد علينا مدينتنا! وإنما بآبائي هذا هاجر أبوك إلى المدينة. ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ إنما الناس نحن وانتم؛ فإن خرجنا عليكم قلنا: أكلتم وأجعتمونا ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا؛ فوجدنا بذلك مقالًا فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالًا فينا؛ فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله بالفضل. يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه على أهل بيتك؛ يسعى بهم عندك! إنه والله ما يسعى بنا إليك نصيحةً منهلك؛ وإنه يأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا؛ إنما يريد أن يباعد بيننا، ويشتفي من بعض ببعض. والله يا أمير المؤمنين؛ لقد جاء إلي هذا حيث قتل أخي محمد بن عبد الله، فقال: لعن الله قاتله! وأنشدني فيه مرثيةً قالها نحوًا من عشرين بيتًا وقال: إن تحركت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة فأيدينا مع يدك! قال: فتغير وجه الزبيري وأسود، فأقبل عليه هارون، فقال: أي شئ يقول هذا؟ قال: كاذب يا أمير المؤمنين؛ ما كان مما قال حرف قال: فأقبل على يحيى بن عبد الله، فقال: تروي القصيدة التي رثاه بها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أصلحك الله! قال: فأنشدها إياه، فقال الزبيري: والله يا أمير المؤمنين الذي لا إله إلا هو - حتى أتى على آخر اليمين الغموس - ما كان مما قاله شيء؛ ولقد تقول علي ما لم أقل. قال: فأقبل الرشيد على يحيى ابن عبد الله، فقال: قد حلف، فهل من بينة سمعوا هذه المرثية منه؟ قال: لا يا أمير المؤمنين؛ ولكن أستحلفه بما أريد، قال: فاستحلفه، قال: فأقبل على الزبيري، فقال: قل: أن بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي، إن كنت قلته. فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين، أي شيء هذا من الحلف! أحلف له بالله الذي لا إله إلا هو، ويستحلفني بشيء لا ادري ما هو! قال يحيى بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن كان صادقًا فما عليه أن يحلف بما أستحلفه به! فقال له هارون: احلف له ويلك! قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلي حولي وقوتي؛ قال: فاضرب منها وأرعد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أدري أي شيء هذه اليمين التي يستحلفني بها، وقد حلفت له بالله العظيم اعظم الأشياء! قال: فقال هارون له: لتحلفن له أو لأصدقن عليك ولأعاقبنك، قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته، موكل إلي حولي وقوتي إن كنت قلته. قال: فخرج من عند هارون فضربه الله بالفالج، فمات من ساعته.
قال: فقال عيسى بن جعفر: والله ما يسرني أن يحيى نقصه حرفًا مما كان جرى بينهما، ولا قصر في شيء من مخاطبته إياه.
قال: وأما الزبيريون فيزعمون أن امرأته قتلته؛ وهي من ولد عبد الرحمن بن عوف.
وذكر إسحاق بن محمد النخعي أن الزبير بن هشام حدثه عن أبيه، أن بكار بن عبد الله تزوج امرأةً من ولد عبد الرحمن بن عوف، وكان له من قلبها موضع، فاتخذ عليها جارية، وأغارها؛ فقالت لغلامين له زنجيين: أنه قد أراد قتلكما هذا الفاسق - ولاطفتهما - فتعاوناني على قتله؟ قالا: نعم، فدخلت عليه وهو نائم، وهما جميعًا معها، فقعدا على وجهه حتى مات. قال: ثم إنها سقتها نبيذًا حتى تهوعا حول الفراش، ثم أخرجتهما ووضعت عند رأسه قنينة؛ فلما أصبح اجتمع أهله، فقالت: سكر فقاء فشرق فمات. فأخذ الغلامان؛ فضربا ضربًا مبرحًا، فأقرا بقتله، وأنها أمرتهما بذلك؛ فأخرجت من الدار ولم تورث.
وذكر أبو الخطاب أن جعفر بن يحيى بن خالد حدثه ليلة وهو في سمره، قال: دعا الرشيد اليوم بيحيى بن عبد الله بن حسن، وقد أحضره أبو البختري القاضي ومحمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وأحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد بن الحسن: ما تقول في هذا الأمان؟ أصحيح هو؟ قال: هو صحيح، فحاجه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بن الحسن: ما تصنع للأمان؟ لو كان محاربًا ثم ولى كان آمنًا. فاحتملها الرشيد على محمد بن الحسن، ثم سأل البختري أن ينظر في الأمان، فقال أبو البختري: هذا منتقض من وجه كذا وكذا، فقال الرشيد: أنت قاضي القضاة؛ وأنت أعلم بذلك؛ فمزق الأمان، وتفل فيه أبو البختري - وكان بكار بن عبد الله بن مصعب حاضرًا المجلس - فأقبل على يحيى بن عبد الله بوجهه، فقال: شققت العصا، وفارقت الجماعة، وخالفت كلمتنا، وأردت خليفتنا؛ وفعلت بنا وفعلت. فقال يحيى: ومن أنتم رحمكم الله! قال جعفر: فوالله ما تمالك الرشيد أن ضحك ضحكًا شديدًا. قال: وقام يحيى ليمضي إلى الحبس، فقال له الرشيد: انصرف، أما ترون به أثر علة! هذا الآن إن مات قال للناس: سموه. قال يحيى: كلا ما زلت عليلًا منذ كنت في الحبس؛ وقبل ذلك أيضًا كنت عليلًا. قال أبو الخطاب: فما مكث يحيى بعد هذا إلا شهرًا حتى مات.
وذكر أبو يونس إسحاق بن إسماعيل، قال: سمعت عبد الله بن العباس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي، الذي يعرف بالخطيب، قال: كنت يومًا على باب الرشيد أنا وأبي، وحضر ذلك اليوم من الجند والقواد ما لم أر مثلهم على باب خليفة قبله ولا بعده، قال: فخرج الفضل بن الربيع إلى أبي، فقال له: ادخل، ومكث ساعة ثم خرج إلي، فقال: ادخل، فدخلت، فإذا أنا بالرشيد معه امرأة يكلمها، فأومأ إلى أبي أنه لا يريد أن يدخل اليوم أحد، فاستأذنت لك لكثرة من رأيت حضر الباب؛ فإذا دخلت هذا المدخل زادك ذلك نبلًا عند الناس. فما مكثنا إلا قليلًا حتى جاء الفضل بن الربيع، فقال: إن عبد الله بن مصعب الزبيري يستأذن في الدخول، فقال: إني لا أريد أن أدخل اليوم أحدًا، فقال: قال: إن عندي شيئًا أذكره. فقال: قل له يقله لك، قال: قد قلت له ذلك، فزعم أنه لا يقوله إلا لك، قال: أدخله. وخرج ليدخله، وعادت المرأة وشغل بكلامها، وأقبل علي أبي، فقال: إنه ليس عنده شيء يذكره؛ وإنما أراد الفضل بهذا ليوهم من على الباب أن أمير المؤمنين لم يدخلنا لخاصة خصصنا بها؛ وإنما أدخلنا لأمر نسأل عنه كما دخل هذا الزبيري.
وطلع الزبيري، فقال: يا أمير المؤمنين، ها هنا شيء أذكره، فقال له: قل، فقال له: إنه سر، فقال: ما من العباس سر، فنهضت، فقال: ولا منك يا حبيبي، فجلست، فقال: قل، فقال: إني والله قد خفت على أمير المؤمنين من امرأته وبنته وجاريته التي تنام معه، وخادمه الذي يناوله ثيابه وأخص خلق الله به من قواده، وأبعدهم منه. قال: فرأيته قد تغير لونه، وقال: مماذا؟ قال: جاءتني دعوة يحيى بن عبد الله بن حسن، فعلمت أنها لم تبلغني مع العداوة بيننا وبينهم، حتى لم يبق على بابك أحدًا إلا وقد أدخله في الخلاف عليك. قال: فتقول له هذا في وجهه! قال: نعم، قال الرشيد: أدخله، فدخل، فأعد القول الذي قال له، فقال يحيى بن عبد الله: والله يا أمير المؤمنين لقد جاء بشيء لو قيل لمن هو أقل منك فيمن هو أكبر مني، وهو مقتدر عليه لما أفلت منه أبدًا، ولي رحم وقرابة، فلم لا تؤخر هذا الأمر ولا تعجل، فلعلك أن تكفي مؤنتي بغير يدك ولسانك، وعسى بك أن تقطع رحمك من حيث لا تعلمه! أباهه بين يديك وتصبر قليلًا. فقال: يا عبد الله، قم فصل إن رأيت ذلك، وقام يحيى فاستقبل القبلة، فصلى ركعتين خفيفتين، وصلى عبد الله ركعتين، ثم برك يحيى، ثم قال: ابرك، ثم شبك يمينه في يمينه. وقال: اللهم إن كنت تعلم أني دعوت عبد الله بن مصعب إلى خلاف على هذا - ووضع يده عليه، وأشار إليه - فاسحتني بعذاب من عندك وكلني إلى حولي وقوتي، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين. فقال عبد الله: آمين رب العالمين. فقال يحيى بن عبد الله لعبد الله بن مصعب: قل كما قلت، فقال عبد الله: اللهم إن كنت تعلم أن يحيى بن عبد الله لم يدعني إلى الخلاف على هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب من عندك، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين! وتفرقا، فأمر بيحيى فحبس في ناحية من الدار؛ فلما خرج وخرج عبد الله بن مصعب أقبل الرشيد على أبي، فقال: فعلت به كذا وكذا، وفعلت به كذا وكذا، فعدد أياديه عليه، فكلمه أبي بكلمتين لا يدفع بهما عن عصفور، خوفًا على نفسه، وأمرنا بالانصراف فانصرفنا. فدخلت مع أبي أنزع عنه لباسه من السواد - وكان ذلك من عادتي - فبينما أنا أحل عنه منطقته؛ إذ دخل عليه الغلام، فقال: رسول عبد الله بن مصعب، فقال: أدخله، فلما دخل قال له: ما وراءك؟ قال: يقول لك مولاي، أنشدك الله إلا بلغت إلي! فقال أبي للغلام: قل له: لم أزل عند أمير المؤمنين إلى هذا الوقت، وقد وجهت إليك بعبد الله، فما أردت أن تلقيه إلي فألقه إليه، وقال للغلام: اخرج فإنه يخرج في إثرك؛ وقال لي: إنما دعاني ليستعين بي على ما جاء به من الإفك؛ فإن أعنته قطعت رحمي من رسول الله، وإن خالفته سعى بي؛ وإنما يتدرق الناس بأولادهم، ويتقون بهم المكاره؛ فاذهب إليه، فكل ما قال لك فليكن جوابك له: أخبر أبي؛ فقد وجهتك وما آمن عليك، وقد كان قال لي أبي حين انصرفا - وذلك أنا احتبسنا عند الرشيد: أما رأيت الغلام المعترض في الدار! لا والله ما صرفنا حتى فرغ منه - يعني يحيى - إنا لله وإنا إليه راجعون! وعند الله نحتسب أنفسنا. فخرجت مع الرسول، فلما صرت في بعض الطريق وأنا مغموم بما أقدم عليه، قلت للرسول: ويحك! ما أمره! وما أزعجه بالإرسال إلى أبي في هذا الوقت! فقال: إنه لما جاء من الدار، فساعة نزل عن الدابة صاح: بطني بطني! قال عبد الله بن عباس: فما حفلت بهذا الكلام من قول الغلام، ولا التفت إليه، فلما صرنا على باب الدرب - وكان في درب لا منفذ له - فتح البابين؛ فإذا النساء قد خرجن منشورات الشعور محتزمات بالحبال، يلطمن وجوههن وينادين بالويل، وقد مات الرجل، فقلت: والله ما رأيت أمرًا أعجب من هذا! وعطفت دابتي راجعًا أركض ركضًا لم أركض مثله قبله ولا بعده إلى هذه الغاية، والغلمان والحشم ينتظرونني لتعلق قلب الشيخ بي؛ فلما رأوني دخلوا يتعادون، فاستقبلني مرعوبًا في قميص ومنديل، ينادي: ما وراءك يا بني؟ قلت: إنه مات، قال: الحمد لله الذي قتله وأراحك وإيانا منه؛ فما قطع كلامه حتى ورد خادم الرشيد يأمر أبي بالركوب وإياي معه. فقال أبي ونحن في الطريق نسير: لو جاز أن يدعى ليحيى نبوة لادعاها أهله، رحمة الله عليه، وعند الله نحتسبه! ولا والله ما نشك في أنه قد قتل. فمضينا حتى دخلنا على الرشيد؛ فلما نظر إلينا قال: يا عباس بن الحسن، أما علمت بالخبر؟ فقال أبي: بلى يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه، ووقاك الله يا أمير المؤمنين قطع أرحامك. فقال الرشيد: الرجل والله سليم على ما يحب، ورفع الستر، فدخل يحيى، وأنا والله أتبين الارتياع في الشيخ، فلما نظر إليه الرشيد صاح به: يا أبا محمد، أما علمت أن الله قد قتل عدوك الجبار! قال: الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوه علي، وأعفاه من قطع رحمه، والله يا أمير المؤمنين؛ لو كان هذا الأمر مما أطلبه وأصلح له وأريده فكيف ولست بطالب له ولا مريده، ولو لم يكن الظفر به إلا بالاستعانة به، ثم لم يبق في الدنيا غيري وغيرك وغيره ما تقويت به عليك أبدًا! وهذا والله من إحدى آفاتك - وأشار إلى الفضل بن الربيع - والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم، ثم طمع مني في زيادة نمرة لباعك بها. فقال: أما العباسي فلا تقل له إلا خيرًا، وأمر له في هذا اليوم بمائة ألف دينار، وكان حبسه بعض يوم. ثم قال أبو يونس: كان هارون حبسه ثلاث حبسات مع هذه الحبسة، وأوصل إليه أربعمائة ألف دينار.
ذكر الفتنة بين اليمانية والنزارية
وفي هذه السنة هاجت العصبية بالشام بين النزارية واليمانية، ورأس النزارية يومئذ أبو الهيذام.
ذكر الخبر عن هذه الفتنة
ذكر أن هذه الفتنة هاجت بالشام وعامل السلطان بها موسى بن عيسى، فقتل بين النزارية واليمانية على العصبية من بعضهم لبعض بشر كثير، فولى الرشيد موسى بن يحيى بن خالد الشام، وضم إليه من القواد والأجناد ومشايخ الكتاب جماعة. فلما ورد الشام أحلت لدخوله إلى صالح بن علي الهاشمي، فأقام موسى بها حتى أصلح بين أهلها، وسكنت الفتنة، واستقام أمرها، فانتهى الخبر إلى الرشيد بمدينة السلام، ورد الرشيد الحكم فيهم إلى يحيى، فعفا عنهم، وعما كان بينهم، وأقدمهم بغداد، وفي ذلك يقول إسحاق بن حسان الخزيمي:
من مبلغ يحيى ودون لقائه ** زأرت كل خنابسٍ همهام
يا راعي الإسلام غير مفرطٍ ** في لين مغتبط وطيب مشم
تعذى مشاربه وتسقى شربةً ** ويبيت بالربوات والأعلام
حتى تنخنخ ضاربًا بجرانه ** ورست مراسيه بدار سلام
فلكل ثغر خارس من قلبه ** وشعاع طرف ما يفتر سام
وقال في موسى غير أبي يعقوب:
قد هاجت الشام هيجًا ** يشيب رأس وليده
فصب موسى عليها ** بخيله وجنوده
فدانت الشأم لما ** أتى نسيج وحيده
هو الجواد الذي ** بد كل جود بجوده
أعداه جود أبيه ** يحيى وجود جدوده
فجاد موسى بن يحيى ** بطارفٍ وتليده
ونال موسى ذرى المج ** د وهو حشو مهوده
خصصته بمديحي ** منشوره وقصيده
من البرامك عود ** له فأكرم بعوده
حووا على الشعر طرًا ** خفيفه ومديده
وفيها عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن خراسان، وولاها حمزة بن مالك بن هيثم الخزاعي، وكان حمزة يلقب بالعروس.
وفيها ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك مصر، فولاها عمر بن مهران.










ذكر الخبر عن سبب تولية الرشيد جعفرا مصر وتولية جعفر عمر بن مهران إياها
ذكر محمد بن عمر أن أحمد بن مهران حدثه أن الرشيد بلغه أن موسى بن عيسى عازم على الخلع - وكان على مصر - فقال: والله لا أعزله إلا بأخس من على بابي. انظروا لي رجلًا، فذكر عمر بن مهران - وكان إذ ذاك يكتب للخيزران، ولم يكتب لغيرها، وكان رجلًا أحول مشوه الوجه، وكان لباسه لباسًا خسيسًا، أرفع ثيابه طيلسانه، وكانت قيمته ثلاثين درهمًا، وكان يشمر ثيابه ويقصر أكمامه، ويركب بغلًا وعليه رسن ولجام حديد، ويردف غلامه خلفه - فدعا به، فولاه مصر، خراجها وضياعها وحربها. فقال: يا أمير المؤمنين، أتولاها على شريطة، قال: وما هي؟ قال: يكون إذني إلي، إذا أصلحت البلاد انصرفت. فجعل ذلك له، فمضى إلى مصر، واتصلت ولاية عمر بن مهران بموسى بن عيسى؛ فكان يتوقع قدومه، فدخل عمر بن مهران مصر على بغل، وغلامه أبو درة على بغل ثقل، فقصد دار موسى بن عيسى والناس عنده، فدخل فجلس في أخريات الناس، فلما تفرق أهل المجلس، قال موسى بن عيسى لعمر: ألك حاجة يا شيخ؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! ثم قام بالكتب فدفعها إليه، فقال: يقدم أبو حفص، أبقاه الله! قال: فأنا أبو حفص، قال: أنت عمر بن مهران؟ قال: نعم، قال: لعن الله فرعون حين يقول: أليس لي ملك مصر، ثم سلم له العمل ورحل، فتقدم عمر بن مهران إلى أبي درة غلامه، فقال له: لا تقبل من الهدايا إلا ما يدخل في الجراب، لا تقبل دابة ولا جارية ولا غلامًا؛ فجعل الناس يبعثون بهداياهم، فجعل يرد ما كان من الألطاف، ويقبل المال والثياب، ويأتي بها عمر؛ فيوقع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع الجباية؛ وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فبدأ برجل منهم، فلواه، فقال: والله ما تؤدي ما عليك من الخراج إلا في بيت المال بمدينة السلام إن سلمت، قال: فأنا أؤدي، فتحمل عليه، فقال: قد حلفت ولا أحنث، فأشخصه مع رجلين من الجند - وكان العمال إذ ذاك يكاتبون الخليفة - فكتب معهم الرشيد: إني دعوت بفلان بن فلان، وطالبته بما عليه من الخراج؛ فلواني واستنظرني، فأنظرته ثم دعوته، فدافع ومال إلى الإلطاط، فآليت ألا يؤديه إلا في بيت المال بمدينة السلام، وجملة ما عليه كذا وكذا، وقد أنفذته مع فلان بن فلان وفلان بن فلان، من جند أمير المؤمنين، من قيادة فلان بن فلان؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب إلي بوصله فعل إن شاء الله تعالى.
قال: فلم يلوه أحد بشيء من الخراج، فاستأدى الخراج، النجم الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث، وقعت المطالبة والمطل، فأحضر أهل الخراج والتجار فطالبهم، فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي بعث بها إليه، ونظر في الأكياس وأحضر الجهبذ؛ فوزن ما فيها وأجزاها عن أهلها، ثم دعا بالأسفاط، فنادى على ما فيها، فباعها وأجزى أثمانها عن أهلها. ثم قال: يا قوم، حفظت عليكم هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فأدوا إلينا ما لنا؛ فأدوا إليه حتى أغلق مال مصر؛ فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره، وانصرف، فخرج على بغل، وأبو درة على بغل - وكان إذنه إليه.
وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الرحمن بن عبد الملك، فافتتح حصنًا.
وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن أبي جعفر المنصور، وحجت معه - فيما ذكر الواقدي - زبيدة زوجة هارون وأخوها معها.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فما كان فيها من ذلك عزل الرشيد - فيما ذكر - جعفر بن يحيى عن مصر وتوليته إياها إسحاق بن سليمان، وعزله حمزة بن مالك عن خراسان وتوليته إياها الفضل بن يحيى؛ إلى ما كان يليه من الأعمال من الري وسجستان.
وغزا الصائفة فيها عبد الرزاق بن عبد الحميد التغلبي.
وكان فيها - فيما ذكر الواقدي - ريح وظلمة وحمرة ليلة الأحد لأربع ليال بقين من المحرم، ثم كانت ظلمة ليلة الأربعاء، لليلتين بقيتا من المحرم من هذه السنة؛ ثم كانت ريح وظلمة شديدة يوم الجمعة لليلة خلت من صفر.
وحج بالناس فيها هارون الرشيد.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك وثوب الحوفية بمصر؛ من قيس وقضاعة وغيرهم بعامل الرشيد عليهم إسحاق بن سليمان، وقتالهم إياه، وتوجيه الرشيد إليه هرثمة بن أعين في عدة من القواد المضمومين إليه مددًا لإسحاق بن سليمان؛ حتى أذعن أهل الحوف، ودخلوا في الطاعة، وأدوا ما كان عليهم من وظائف السلطان - وكان هرثمة إذ ذاك عامل الرشيد على فلسطين - فلما انقضى أمر الحوفية صرف هارون إسحاق بن سليمان عن مصر، وولاها هرثمة نحوًا من شهر، ثم صرفه وولاها عبد الملك بن صالح.
وفيها كان وثوب أهل إفريقية بعبدويه الأنباري ومن معه من الجند هنالك، فقتل الفضل بن روح بن حاتم، وأخرج من كان بها من آل المهلب، فوجه الرشيد إليهم هرثمة بن أعين، فرجعوا إلى الطاعة.
وقد ذكر أن عبدويه هذا لما غلب على إفريقية، وخلع السلطان، عظم شأنه وكثر تبعه، ونزع إليه الناس من النواحي، وكان وزير الرشيد يومئذ يحيى بن خالد بن برمك، فوجه إليه يحيى بن خالد بن برمك يقطين بن موسى ومنصور بن زياد كاتبه؛ فلم يزل يحيى بن خالد يتابع على عبدويه الكتب بالترغيب في الطاعة والتخويف للمعصية والإعذار إليه والإطماع والعدة حتى قبل الأمان، وعاد إلى الطاعة وقدم بغداد، فوفى له يحيى بما ضمن له وأحسن إليه، وأخذ له أمانًا من الرشيد، ووصله ورأسه.
وفي هذه السنة فوض الرشيد أموره كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها خرج الوليد بن طريف الشاري بالجزيرة، وحكم بها، ففتك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين، ثم مضى منها إلى إرمينية.
ولاية الفضل بن يحيى على خراسان وسيرته بها
وفيها شخص الفضل بن يحيى إلى خراسان واليًا عليها، فأحسن السيرة بها، وبنى بها المساجد والرباطات. وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخره ملك أشروسنة؛ وكان ممتنعًا.
وذكر أن الفضل بن يحيى اتخذ بخراسان جندًا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وأن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل، وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل، فسموا ببغداد الكرنبية، وخلف الباقي منهم بخراسان على أسمائهم ودفاترهم؛ وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:
ما الفضل إلا شهاب لا أفول له ** عند الحروب إذا ما تأفل الشهب
حامٍ على ملك قوم عز سهمهم ** من الوراثة في أيديهم سبب
أمست يد لبني ساقي الحجيج بها ** كتائب ما لها في غيرهم أرب
كتائب لبني العباس قد عرفت ** ما ألف الفضل منها العجم والعرب
أثبت خمس مئين في عدادهم ** من الألوف التي أحصت لك الكتب
يقارعون عن القوم الذين هم ** أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا
إن الجواد بن يحيى الفضل لا ورق ** يبقى على جود كفيه ولا ذهب
ما مر يوم له مذ شد مئزره ** إلا تمول أقوام بما يهب
كم غايةٍ في الندى والبأس أحرزها ** للطالبين مداها دونها تعب
يعطي الله حين لا يعطي الجواد ولا ** ينبو إذا سلت الهندية القضب
ولا الرضى والرضى لله غايته ** إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب
قد فاض عرفك حتى ما يعادله ** غيث مغيث ولا بحر له حدب
قال: وكان مروان بن أبي حفصة قد أنشد الفضل في معسكره قبل خروجه إلى خراسان:
ألم تر أن الجود من لدن آدمٍ ** تحدر حتى صار في راحة الفضل
إذا ما أبو العباس راحت سماؤه ** فيا لك من هطل ويا لك من وبل
إذا أم طفل راعها جوع طفلها ** دعته باسم الفضل فاستعصم الطفل
ليحيا بك الإسلام إنك عزه ** وإنك من قوم صغيرهم كهل
وذكر محمد بن العباس بن يحيى أمر له بمائة ألف درهم، وكساه وحمله على بغلة. قال: وسمعته يقول: أصبت في قدمتي هذه سبعمائة ألف درهم. وفيه يقول:
تخيرت للمدح بن يحيى بن خالد ** فحسبي ولم أظلم بأن أتخيرا
له عادة أن يبسط العدل والندى ** لمن ساس من قحطان أو من تنزرا
إلى المنبر الشرقي سار ولم يزل ** له والد يعلو سريرًا ومنبرا
يعد ويحيى البرمكي ولا يرى ** لدى الدهر إلا قائدًا أو مومرا
ومدحه سلم الخاسر، فقال:
وكيف تخاف من بؤسٍ بدارٍ ** تكنفها البرامكة البحور
وقوم منهم الفضل بن يحيى ** نفير ما يوازنه نفير
له يومان: يوم ندىً وبأسٍ ** كأن الدهر بينهما أسير
إذا ما البرمكي غدا ابن عشرٍ ** فهمته وزير أو أمير
وذكر الفضل بن إسحاق الهاشمي أن إبراهيم بن جبريل خرج مع الفضل بن يحيى إلى خراسان وهو كاره للخروج، فأحفظ ذلك الفضل عليه. قال إبراهيم: فدعاني يومًا بعد ما أغفلني حينًا، فدخلت عليه؛ فلما صرت بين يديه سلمت، فما رد علي، فقلت في نفسي: شر والله - وكان مضطجعًا، فاستوى جالسًا - ثم قال: ليفرخ روعك يا إبراهيم، فإن قدرتي عليك تمنعني منك؛ قال: ثم عقد لي على سجستان، فلما حملت خراجها، وهبه لي وزادني خمسمائة ألف درهم. قال: وكان إبراهيم على شرطه وحرسه، فوجهه إلى كابل، فافتحها وغنم غنائم كثيرة. قال: وحدثني الفضل بن العباس بن جبريل - وكان مع عمه إبراهيم - قال: وصل إلى إبراهيم في ذلك الوجه سبعة آلاف درهم، فلما قدم بغداد وبنى داره في البغيين استزار الفضل ليريه نعمته عليه، وأعد له الهدايا والطرف وآنية الذهب والفضة، وأمر بوضع الأربعة الآلاف في ناحية من الدار. قال: فلما قعد الفضل بن يحيى قدم إليه الهدايا والطرف، فأبى أن يقبل منها شيئًا، وقال: لم آتك لأسلبك، فقال: إنها نعمتك أيها الأمير. قال: ولك عندنا مزيد، قال: فلم بأخذ من جميع ذلك إلا سوطًا سجزيًا، وقال: هذا من آلة الفرسان، فقال له: هذا المال من مال الخراج، فقال: هو لك، فأعاد عليه، فقال: أما لك بيت يسعه! فسوغه ذلك، وانصرف.
قال: ولما قدم الفضل بن يحيى من خراسان خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بالألف ألف، وبالخمسمائة ألف، ومدحه مروان بن أبي حفصة، فقال:
حمدنا الذي أدى ابن يحيى فأصبحت ** بمقدمه تجري لنا الطير أسعدا










وما هجعت حتى رأته عيوننا ** وما زلن حتى آب بالدمع حشدا
لقد صبحتنا خيله ورجاله ** بأروع بذ الناس بأسًا وسوددا
نفى عن خراسان العدو كما نفى ** ضحى الصبح جلباب الدجى فتعردا
لقد راع من أمسى بمرو مسيره ** إلينا، وقالوا شعبنا قد تبددا
على حين ألقى قفل كل ظلامةٍ ** وأطلق بالعفو الأسير المقيدا
وأفشى بلا من مع العدل فيهم ** أيادي عرفٍ باقياتٍ وعودا
فأذهب روعات المخاوف عنهم ** وأصدر باغي الأمن فيهم وأوردا
وأجدى على الأيتام فيهم بعرفه ** فكان من الآباء أحنى وأعودا
إذا الناس راموا غاية الفضل في الندى ** وفي البأس ألفوها من النجم أبعدا
سما صاعدًا بالفضل يحيى وخالد ** إلى كل أمر كان أسنى وأمجدا
يلين لمن أعطى الخليفة طاعةً ** ويسقي دم العاصي الحسام المهندا
أذلت مع الشرك النفاق سيوفه ** وكانت لأهل الدين عزًا مؤبدا
وشد القوى من بيعة المصطفى الذي ** على فضله عهد الخليفة قلدا
سمي النبي الفاتح الخاتم الذي ** به الله أعطى كل خير وسددا
أبحت جبال الكابلي ولم تدع ** بهن لنيران الضلالة موقدا
فأطلعتها خيلًا وطئن جموعه ** قتيلًا ومأسورًا وفلًا مشردا
وعادت على ابن البرم نعماك بعدما ** تحوب مخذ ولا يرى الموت مفردا
وذكر العباس بن جرير، أن حفص بن مسلم - وهو أخو رزام بن مسلم، مولى خالد بن عبد الله القسري - حدثه أنه قال: دخلت على الفضل بن يحيى مقدمه خراسان، وبين يديه بدر تفرق بخواتيمها، فما فضت بدرة منها، فقلت:
كفى الله بالفضل بن يحيى بن خالدٍ ** وجود يديه بخل كل بخيل
قال: فقال لي مروان بن أبي حفصة: وددت أني سبقتك إلى هذا البيت، وأن علي غرم عشرة آلاف درهم.
وغزا فيها الصائفة معاوية بن زفر بن عاصم، وغزا الشاتية فيها ابن راشد، ومعه البيد بطريق صقلية.
وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وكان على مكة.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك انصراف الفضل بن يحيى عن خراسان واستخلافه عليها عمرو بن شرحبيل.
وفيها ولى الرشيد خراسان منصور بن يزيد بن منصور الحميري.
وفيها شري بخراسان حمزة بن أترك السجستاني.
وفيها عزل الرشيد محمد بن خالد بن برمك عن الحجبة، وولاها الفضل بن الربيع.
وفيها رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته، وكثر تبعه، فوجه الرشيد إليه يزيد بن مزيد الشيباني، فراوغه يزيد، ثم لقيه وهو مغتر فوق هيت، فقتله وجماعة كانوا معه، وتفرق الباقون، فقال الشاعر:
وائل بعضها يقتل بعضًا ** لا يفل الحديد إلا الحديد
وقالت الفارعة أخت الوليد:
أيا شجر الخابور ما لك مورقًا ** كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتىً لا يحب الزاد إلا من التقى ** ولا المال إلا من قنًا وسيوف
واعتمر الرشيد في هذه السنة في شهر رمضان، شكرًا لله على ما أبلاه في الوليد بن طريف، فلما قضى عمرته انصرف إلى المدينة، فأقام بها إلى وقت الحج، ثم حج بالناس، فمشى من مكة إلى منى، ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر ماشيًا، ثم انصرف على طريق البصرة.
وأما الواقدي فإنه قال: لما فرغ من عمرته أقام بمكة حتى أقام للناس حجهم.
ثم دخلت سنة ثمانين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن العصبية التي هاجت بالشام
فمما كان فيها من ذلك، العصبية التي هاجت بالشام بين أهلها.
ذكر الخبر عما صار إليه أمرها
ذكر أن هذه العصبية لما حدثت بالشام بين أهلها وتفاقم أمرها، اغتم بذلك من أمرهم الرشيد، فعقد لجعفر بن يحيى على الشام، وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر بل أقيك بنفسي؛ فشخص في جلة القواد والكراع والسلاح، وجعل على شرطه العباس بن محمد بن المسيب بن زهير، وعلى حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، فأتاهم فأصلح بينهم؛ وقتل زواقيلهم، والمتلصصة منهم، ولم يدع بها رمحًا ولا فرسًا، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة؛ وأطفأ تلك النائرة، فقال منصور النمري لما شخص جعفر:
لقد أوقدت بالشام نيران فتنةٍ ** فهذا أوان الشأم تخمد نارها
إذا جاش موج البحر من آل برمكٍ ** عليها، خبت شهبانها وشرارها
رماها أمير المؤمنين بجعفرٍ ** وفيه تلاقى صدعها وانجبارها
رماها بميمون النقيبة ماجد ** تراضى به قحطانها ونزارها
تدلت عليهم صخرة برمكيةً ** دموغ لهام الناكبين انحدارها
غ*** تزجى غابة في رءوسها ** نجوم الثريا والمنايا ثمارها
إذا خفقت راياتها وتجرست ** بها الريح هال السامعين انبهارها
فقولوا لأهل الشأم: لا يسلبنكم ** حجاكم طويلات المنى وقصارها
فإن أمير المؤمنين بنفسه ** أتاكم وإلا نفسه فخيارها
هو الملك المأمول للبر والتقى ** وصولاته لا يستطاع خطارها
وزير أمير المؤمنين وسيفه ** وصعدته والحرب تدمى شفارها
ومن تطو أشرار الخليفة دونه ** فعندك مأواها وأنت قرارها
وفيت فلم تغدر لقوم بذمةٍ ** ولم تدن من حالٍ ينالك عارها
طبيب بإحياء الأمور إذا التوت ** من الدهر أعناق، فأنت جبارها
إذا ما ابن يحيى جعفر قصدت له ** ملمي خطب لم ترعه كبارها
لقد نشأت بالشأم منك غمامة ** يؤمل جدواها ويخشى دمارها
فطوبى لأهل الشأم يا ويل أمها ** أتاها حياها، أو أتاها بوارها
فإن سالموا كانت غمامة نائلٍ ** وغيثٍ، وإلا فالدماء قطارها
أبوك أبو الأملاك يحيى بن خالدٍ ** أخو الجود والنعمى الكبار صغارها
كأين ترى في البرمكيين من ندىً ** ومن سابقاتٍ ما يشق غبارها
غدا بنجوم السعد من حل رحله ** إليك، وعزت عصبة أنت جارها
عذيري من الأقدار هل عزماتها ** مخلفتي عن جعفرٍ واقتسارها
فعين الأسى مطروفة لفراقه ** ونفسي إليه ما ينام ادكارها
وولى جعفر بن يحيى صالح بن سليمان البلقاء وما يليها، واستخلف على الشأم عيسى بن العكي وانصرف، فازداد الرشيد له إكرامًا. فلما قدم على الرشيد دخل عليه - فيما ذكر - فقبل يديه ورجليه، ثم مثل بين يديه، فقال: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي آنس وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تضرعي، وأنسأ في أجلي، حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقربه، وامتن علي بتقبيل يده، وردني إلى خدمته؛ فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي، والمقادير التي أزعجتني؛ فاعلم أنها كانت بمعاصٍ لحقتني وخطايا أحاطت بي؛ ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداك - لخفت أن يذهب عقلي إشفاقًا على قربك، وأسفًا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك؛ والحمد لله الذي عصمنيفي حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرفني الإجابة ومسكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية؛ فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقدم إلا عن إذنك وأمرك؛ ولم يخترمني أجل دونك. والله يا أمير المؤمنين - ولا أعظم من اليمين بالله - لقد عاينت ما لو تعرض لي الدنيا كلها لاخترت عليها قربك، ولما رأيتها عوضًا من المقام معك. ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: إن الله يا أمير المؤمنين - لم يزل يبليك في خلافتك بقدر ما يعلم من نيتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع إلفتهم، ويلم شعثهم؛ حفظًا لك فيهم، ورحمة لهم؛ وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مرضاتك؛ والله المحمود على ذلك وهو مستحقه. وفارقت يا أمير المؤمنين أهل كور الشأم وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فرط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحلمك، مؤملون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في ألفتهم كحالهم كانت في امتناعهم، وعفو أمير المؤمنين عنهم وتغمده لهم سابق لمعذرتهم، وصلة أمير المؤمنين لهم، وعطفه عليهم متقدم عنده لمسألتهم. وأيم الله يا أمير المؤمنين لئن كنت قد شخصت عنهم، وقد أخمد الله شرارهم وأطفأ نارهم، ونفى مراقهم، وأصلح دهماءهم، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم؛ فما ذلك كله إلا ببركتك ويمنك، وريحك ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك. والله يا أمير المؤمنين ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سرت فيهم إلا على حد ما مثلته لي ورسمته، ووقفتني عليه؛ ووالله ما انقادوا إلا لدعوتك، وتوحد الله بالصنع لك، وتخوفهم من سطوتك. وما كان الذي كان مني - وإن كنت بذلت جهدي، وبلغت مجهودي - قاضيًا ببعض حقك علي؛ بل ما ازدادت نعمتك علي عظمًا؛ إلا وازددت عن شكرك عجزًا وضعفًا وما خلق الله أحدًا من رعيتك أبعد من أن يطمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلًا مهجتي في طاعتك، وكل ما يقرب إلى موافقتك؛ ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري؛ فكيف بشكري وقد أصبحت واحد أهل دهري فيما صنعته في وبي! أم كيف بشكري وإنما أقوى على شكري بإكرامك إياي! وكيف بشكري ولو جعل الله شكري في إحصاء ما أوليتني لم يأت على ذلك عدي وكيف بشكري وأنت كهفي دون كل كهف لي! وكيف بشكري وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي! وكيف بشكري وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي! أم كيف بشكري وأنت تنسيني ما تقدم من إحسانك إلي بما تجدده لي! أم كيف بشكري وأنت تقدمني بطولك على جميع أكفائي! أم كيف بشكري وأنت وليي! أم كيف بشكري وأنت المكرم لي! وأنا أسأل الله الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له؛ إذا كان الشكر مقصرًا عن بلوغ تأدية بعضه، بل دون شقص من عشر عشيره، أن يتولى مكافأتك عني بما هو أوسع له، وأقدر عليه، وأن يقضي عني حقك، وجليل منتك؛ فإن ذلك بيده، وهو القادر عليه! وفي هذه السنة أخذ الرشيد الخاتم من جعفر بن يحيى، فدفعه إلى أبيه يحيى بن خالد.
وفيها ولى جعفر بن يحيى خراسان وسجستان، واستعمل جعفر عليهما محمد بن الحسن بن قحطبة.
وفيها شخص الرشيد من مدينة السلام مريدًا الرقة على طريق الموصل، فلما نزل البردان، ولى عيسى بن جعفر خراسان، وعزل عنها جعفر بن يحيى؛ فكانت ولاية جعفر بن يحيى إياها عشرين ليلة.
وفيها ولى جعفر بن يحيى الحرس.
وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب الخوارج الذين خرجوا منها، ثم مضى إلى الرقة فنزلها واتخذها وطنًا.
وفيها عزل هرثمة بن أعين عن إفريقية، وأقفله إلى مدينة السلام، فاستخلفه جعفر بن يحيى الحرس.
وفيها كانت بأرض مصر زلزلة شديدة، فسقط رأس منارة الإسكندرية.
وفيها حكم خراشة الشيباني وشري بالجزيرة، فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي.
وفيها خرجت المحمرة بجرجان، فكتب علي بن عيسى بن ماهان أن الذي هيج ذلك عليه عمرو بن محمد العمركي، وأنه زنديق، فأمر الرشيد بقتله، فقتل بمرو.
وفيها عزل الفضل بن يحيى عن طبرستان والرويان، وولى ذلك عبد الله بن خازم. وعزل الفضل أيضًا عن الري، ووليها محمد بن يحيى بن الحارث بن شخير، وولي سعيد بن سلم الجزيرة.
وغزا الصائفة فيها معاوية بن زفر بن عاصم.
وفيها صار الرشيد إلى البصرة منصرفة من مكة، فقدمها في المحرم منها، فنزل المحدثة أيامًا، ثم تحول منها إلى قصر عيسى بن جعفر بالخريبة، ثم ركب في نهر سيحان الذي احتفره يحيى بن خالد؛ حتى نظر إليه، وسكر نهر الأبلة ونهر معقل، حتى استحكم أمر سيحان، ثم شخص عن البصرة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم، فقدم مدينة السلام، ثم شخص إلى الحيرة، فسكنها وابتنى فيها المنازل، وأقطع من معه الخطط، وأقام نحوًا من أربعين يومًا فوثب به أهل الكوفة، وأساءوا مجاورته، فارتحل إلى مدينة السلام، ثم شخص من مدينة السلام إلى الرقة، واستخلف بمدينة السلام حين شخص إلى الرقة محمدًا الأمين، وولاه العراقين.
وحج بالناس في هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فكان فيها غزو الرشيد أرض الروم، فافتتح بها عنوةً حصن الصفصاف، فقال مروان بن أبي حفصة:
إن أمير المؤمنين المصطفى ** قد ترك الصفصاف قاعًا صفصفا
وفيها غزا عبد الملك بن صالح الروم، فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة.
وفيها توفي الحسن بن قحطبة وحمزة بن مالك.
وفيها غلبت المحمرة على جرجان.
وفيها أحدث الرشيد عند نزوله الرقة في صدور كتبه الصلاة على محمد.
وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد، فأقام للناس الحج، ثم صدر معجلًا. وتخلف عنه يحيى بن خالد، ثم لحقه بالغمرة فاستعفاه من الولاية فأعفاه، فرد إليه الخاتم، وسأله الإذن في المقام فأذن له، فانصرف إلى مكة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فكان فيها انصراف الرشيد من مكة ومسيره إلى الرقة، وبيعته بها لابنه عبد الله المأمون بعد ابنه محمد الأمين، وأخذ البيعة له على الجند بذلك بالرقة، وضمه إياه إلى جعفر بن يحيى، ثم توجيهه إياه إلى مدينة السلام، ومعه من أهل بيته جعفر بن أبي جعفر المنصور وعبد الملك بن صالح، ومن القواد علي بن عيسى، فبويع له بمدينة السلام حين قدمها، وولاه أبوه خراسان وما يتصل بها إلى همذان، وسماه المأمون.
وفيها حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل بن يحيى، فماتت ببرذعة، وعلى إرمينية يومئذ سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فرجع من كان فيها من الطراخنة إلى أبيها، فأخبروه أن ابنته قتلت غيلة، فحنق لذلك، وأخذ في الأهبة لحرب المسلمين.
وانصرف فيها يحيى بن خالد إلى مدينة السلام.
وغزا فيها الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، فبلغ دفسوس مدينة أصحاب الكهف.
وفيها سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن أليون، وأقروا أمه رييني، وتلقب أغسطة.
وحج بالناس فيها موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)