ذكر السبب في ذلك
ذكر أن الذي دعاه إلى الشخوص إليها أنه استثقل مدينة السلام، فكان يسميها البخار، فخرج إلى مرج القلعة، فاعتل بها، فانصرف، وسميت تلك السفرة سفرة المرتاد.
وفيها عزل الرشيد يزيد بن مزيد عن إرمينية، وولاها عبيد الله بن المهدي.
وغزا الصائفة فيها إسحاق بن سليمان بن علي.
وحج بالناس في هذه السنة يعقوب بن أبي جعفر المنصور.
وفيها وضع هارون عن أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن وفاة سليمان
فمن ذلك وفاة محمد بن سليمان بالبصرة، لليال بقين من جمادى الآخرة منها.
وذكر أنه لما مات محمد بن سليمان وجه الرشيد إلى كل ما خلفه رجلًا أمره باصطفائه، فأرسل إلى ما خلف من الصامت من قبل صاحب بيت ماله رجلًا، وإلى الكسوة بمثل ذلك، وإلى الفرش والرقيق والدواب من الخيل والإبل، وإلى الطيب والجوهر وكل آلة برجلٍ من قبل الذي يتولى كل صنف من الأصناف، فقدموا البصرة، فأخذوا جميع ما كان لمحمد مما يصلح للخلافة، ولميتركوا شيئًا إلا الحرثي الذي لا يصلح للخلفاء، وأصابوا له ستين ألف ألف فحملوها مع ما حمل، فلما صارت في السفن أخبر الرشيد بمكان السفن التي حملت ذلك؛ فأمر أن يدخل جميع ذلك خزائنه إلا المال؛ فإنه أمر بصكاك فكتب للندماء، وكتب للمغنين صكاك صغار لم تدر في الديوان، ثم دفع إلى كل رجل صكًا بما رأى أن يهب له، فأرسلوا وكلاءهم إلى السفن، فأخذوا المال على ما أمر لهم به في الصكاك أجمع؛ لم يدخل منه بيت ماله دينار ولا درهم، واصطفى ضياعه؛ وفيها ضيعة يقال لها برشيد بالأهواز لها غلة كثيرة.
وذكر علي بن محمد، عن أبيه، قال: لما مات محمد بن سليمان أصيب في خزانة لباسه مذ كان صبيًا في الكتاب إلى أن مات مقادير السنين؛ فكان من ذلك ما عليه آثار النقش. قال: وأخرج من خزائنه ما كان يهدى له من بلاد السند ومكران وكرمان وفارس والأهواز واليمامة والري وعمان؛ من الألطاف والأدهان والسمك والحبوب والجبن، وما أشبه ذلك، ووجد أكثره فاسدًا. وكان من ذلك خمسمائة كنعدة ألقيت من دار جعفر ومحمد في الطريق؛ فكانت بلاء. قال: فمكثنا حينًا لا نستطيع أن نمر بالمربد من نتنها.
ذكر وفاة الخيزران أم الهادي والرشيد
وفيها توفيت الخيزران أم هارون الرشيد وموسى الهادي.
ذكر الخبر عن وقت وفاتها
ذكر يحيى بن الحسن أن أباه حدثه، قال: رأيت الرشيد يوم ماتت الخيزران، وذلك في سنة ثلاث وسبعين ومائة، وعليه جبة سعيدية وطيلسان خرق أزرق، قد شد به وسطه، وهو آخذ بقائمة السرير حافيًا يعدو في الطين؛ حتى أتى مقابر قريش فغسل رجليه، ثم دعا بخف وصلى عليها، ودخل قبرها، فلما خرج من المقبرة وضع له كرسي فجلس عليه، ودعا الفضل بن الربيع، فقال له: وحق المهدي - وكان لا يحلف بها إلا إذا اجتهد - إني لأهم لك من الليل بالشيء من التولية وغيرها، فتمنعني أمي فأطيع أمرها، فخذ الخاتم من جعفر. فقال الفضل بن الربيع لإسماعيل بن صبيح: أنا أجل أبا الفضل عن ذلك؛ بأن أكتب إليه وآخذه؛ ولكن إن رأى أن يبعث به! قال وولى الفضل نفقات العامة والخاصة وباد وريا والكوفة، وهي خمسة طساسيج، فأقبلت حاله تنمي إلى سنة سبع وثمانين ومائة.
وقيا إن وفاة محمد بن سليمان والخيزران كانت في يوم واحد.
وفيها أقدم الرشيد جعفر بن محمد بن الأشعث من خراسان، وولاها ابنه العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث.
وحج بالناس فيها هارون؛ وذكر أنه خرج محرمًا من مدينة السلام.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان بالشام من العصبية فيها.
وفيها ولى الرشيد إسحاق بن سليمان الهاشمي السند ومكران.
وفيها استقضى الرشيد يوسف بن أبي يوسف، وأبوه حي.
وفيها هلك روح بن حاتم.
وفيها خرج الرشيد إلى باقردى وبازبدى، وبنى بباقردى قصرًا، فقال الشاعر في ذلك:
بقردى وبازبدى مصيف ومربع ** وعذب يحاكي السلسبيل برود
وبغداد، ما بغداد، أما ترابها ** فخرء، وأما حرها فشديد
وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح.
وحج بالناس فيها هارون الرشيد، فبدأ بالمدينة، فقسم في أهلها مالًا عظيمًا، ووقع الوباء في هذه السنة بمكة، فأبطأ عن دخولها هارون، ثم دخلها يوم التروية، فقضى طوافه وسعيه ولم ينزل بمكة.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن البيعة للأمين
فمن ذلك عقد الرشيد لابنه محمد بمدينة السلام من بعده ولاية عهد المسلمين وأخذه بيعة القواد والجند، وتسميته إياه الأمين، وله يومئذ خمس سنين، فقال سلم الخاسر:
قد وفق الله الخليفة إذ بنى ** بيت الخليفة للهجان الأزهر
فهو الخليفة عن أبيه وجده ** شهدًا عليه بمنظر وبمخبر
قد بايع الثقلان في مهد الهدى ** لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر
ذكر الخبر عن سبب بيعة الرشيد له
وكان السبب في ذلك - فيما ذكر روح مولى الفضل بن يحيى، فقال له: أنشدك الله لما عملت في البيعة لابن أختي - يعني محمد بن زبيدة بنت جعفر بن المنصور - فإنه ولد لك وخلافته لك، فوعده أن يفعل، وتوجه الفضل على ذلك؛ وكانت جماعة من بني العباس قد مدوا أعناقهم إلى الخلافة بعد الرشيد؛ لأنه لم يكن له ولي عهد؛ فلما بايع له، أنكروا بيعته لصغر سنه.
قال: وقد كان الفضل لما تولى خراسان أجمع على البيعة لمحمد؛ فذكر محمد بن الحسين بن مصعب أن الفضل بن يحيى لما صار إلى خراسان، فرق فيهم أموالًا، وأعطى الجند أعطيات متتابعات، ثم أظهر البيعة لمحمد بن الرشيد؛ فبايع الناس له وسماه الأمين، فقال في ذلك النمري:
أمست بمرو على التوفيق قد صفقت ** على يد الفضل أيدي العجم والعرب
ببيعة لولي العهد أحكمها ** بالنصح منه وبالاٍشفاق والحدب
قد وكد الفضل عقدًا لا انتقاض له ** لمصطفى من بني العباس منتخب
قال: فلما تناهى الخبر إلى الرشيد بذلك، وبايع له أهل المشرق، بايع لمحمد، وكتب إلى الآفاق، فبويع له في جميع الأمصار، فقال أبان اللاحقي في ذلك:
عزمت أمير المؤمنين على الرشد ** برأي هدى، فالحمد لله ذي الحمد
وعزل فيها الرشيد عن خراسان العباس بن جعفر، وولاها خاله الغطريف ابن عطاء.
وفيها صار يحيى بن عبد الله بن حسن إلى الديلم، فتحرك هناك.
وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الملك بن صالح فبلغ إقريطية. وقال الوافدي: الذي غزا الصائفة في هذه السنة عبد الملك بن صالح، قال: وأصابهم في هذه الغزاة برد قطع أيديهم وأرجلهم.
وحج بالناس فيها هارون الرشيد.
ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من تولية الرشيد الفضل بن يحيى كور الجبال وطبرستان ودنباوند وقومس وإرمينية وأذربيجان. وفيها ظهر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب بالديلم.
ذكر الخبر عن مخرج يحيى بن عبد الله وما كان من أمره
ذكر أبو حفص الكرماني، قال: كان أول خبر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه ظهر بالديلم، واشتدت شوكته، وقوي أمره، ونزع إليه الناس من الأمصار والكور، فاغتنم لذلك الرشيد، ولم يكن في تلك الأيام يشرب النبيذ، فندب إيه الفضل بن يحيى في خمسين ألف رجل، ومعه صناديد القواد، وولاه كور الري وجرجان وطبرستان وقومس ودنباوند والرويان، وحملت معه الأموال، ففرق الكور على قواده، فولى المثنى بن الحجاج بن قتيبة بن مسلم طبرستان، وولى علي بن الحجاج الخزاعي جرجان، وأمر له بخمسمائة ألف درهم، وعسكر بالنهرين، وامتدحه الشعراء، فأعطاهم أكثر، وتوسل إليه الناس بالشعر، ففرق فيهم أموالا كثيرة. وشخص الفضل بن يحي، واستحلف منصور بن زياد بباب أمير المؤمنين، تجري كتبه على يديه، وتنفذ الجوابات عنها إليه، وكنوا يثقون بمنصور وابنه في جميع أمورهم؛ لقديم صحبته لهم، وحرمته بهم. ثم مضى من معسكره، فلم تزل كتب الرشيد تتابع إليه بالبر واللطف والجوائز والخلع؛ فكاتب يحيى ورفق به واستماله، وناشده وحذره، وأشار عليه، وبسط أمله. ونزل الفضل بطالقان الري ودستبي بموضع يقال له أشب؛ وكان شديد البرد كثير الثلوج؛ ففي ذلك يقول أبان بن عبد الحميد اللاحقي:
لدور أمس بالدولا ** ب حيث السيب ينعرج
أحب إلي من دور ** أشب إذا هم ثلجوا
قال: فأقام الفضل بهذا الموضع، وواتر كتبه على يحي، وكاتب صاحب الديلم، وجعل له ألف ألف درهم؛ على أن يسهل له خروج يحيى إلى ما قبله، وحملت إليه، فأجاب يحيى إلى الصلح والخروج على يديه، على أن يكتب له الرشيد أمانًا بخطه على نسخة يبعث بها إليه. فكتب الفضل بذلك إلى الرشيد، فسره وعظم موقعه عنده، وكتب أمانًا ليحي بن عبد الله، وأشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلة بي هاشم ومشايخهم؛ منهم عبد الصمد بن علي والعباس ابن محمد ومحمد بن إبراهيم وموسى بن عيسى ومن أشبههم، ووجه به مع جوائز وكرامات وهدايا، فوجه الفضل بذلك إليه، فقدم يحيى بن عبد الله عليه، وورد به الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير، وأجرى له أرزاقًا سنية، وأنزله منزلا سريًا بعد أن أقام في منزل يحيى بن خالد أيامًا، وكان يتولى أمره بنفسه، ولا يكل ذلك إلى غيره، وأمر الناس بإتيانه بعد انتقاله من منزل يحيى والتسليم عليه، وبلغ الرشيد الغاية في إكرام الفضل؛ ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:
ظفرت فلا شلت يد برمكية ** رتقت بها الفتق الذي بين هاشم
على حين أعيا الراتقين التئامه ** فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم
فأصبحت قد فازت يداك بخطة ** من المجد باق ذكرها في المواسم
وما زال قدح الملك يخرج فائزًا ** لكم كلما ضمت قداح المساهم
قال: وأنشدني أبو ثمامة الخطيب لنفسه فيه:
للفضل يوم الطالقان وقبله ** يوم أناخ به على خاقان
ما مثل يوميه اللذين تواليا ** في غزوتين توالتا يومان
سد الثغور ورد ألفة هاشم ** بعد الشتات، فشعبها متدان
عصمت حكومته جماعة هاشم ** من أن يجرد بينها سيفان
تلك الحكومة لا التي عن لبسها ** عظم النبأ وتفرق الحكمان
فأعطاه الفضل مائة ألف درهم، وخلع عليه، وتغنى إبراهيم به.
وذكر أحمد بن محمد بن جعفر، عن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: لما قدم يحيى بن عبد الله من الديلم أتيته، وهو في دار علي بن أبي طالب، فقلت: يا عم، ما بعدك مخبر ولا بعدي مخبر؛ فأخبرني خبرك، فقال: يا ابن أخي، والله إن كنت إلا كما قال يحيى ابن خطب:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ** ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس حمدها ** وقلل يبغي العز كل مقلل
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)