آدم كان ينطق العربية في الجنة

فيقول آدم، صلَّى الله عليه: أبيتم إلاَّ عقوقاً وأذيَّةً، إنّما كنت أتكلَّم بالعربيَّة وأنا في الجنَّة، فلمّا هبطت إلى الأرض نُقل لساني إلى السُّريانيَّة، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلمَّا ردَّني الله، سبحانه وتعالى، عادت عليَّ العربيَّة، فأيُّ حينٍ نظمت هذا الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار الماكرة، ألا ترى قوله: منها خُلقنا وإليها نعود فكيف أقول هذا المقال ولساني سُريانيُّ؟ وأمَّا الجنّة قبل أن أخرج منها فلم أكن أدري بالموت فيها، وأنّه ممّا حُكم على العباد، صُيِّر كأطواق حمام، وما رعى لأحدٍ من ذمامٍ، وأمّا بعد رجوعي إليها، فلا معنى لقولي: وإليها نعود، لأنَّه كذبٌ لا محالة، ونحن معاشر أهل الجنَّة خالدن مخلَّدون.
فيقول، قُضي له بالسَّعد المؤرَّب: إن بعض أهل السَّير يزعم أنَّ هذا الشّعر وجده يعرب في متقدم الصُّحف بالسُّريانيَّة، فنقله إلى لسانه، وهذا لا يمتنع أن يكون. وكذلك يروون لك، صلَّى الله عليك، لمّا قتل قابيل هابيل:


غيَّرت البلاد ومن عنيها
فوجه الأرض مغبرُّ قبيح وأودى ربع أهلها، فبانوا
وغودر في الثَّرى الوجه المليح وبعضهم ينشد: وزال بشاشة الوجه المليح على الأقواء. وفي حكايةٍ، معناها على ما أذكر أنَّ رجلاً من بعض ولدك يعرف بإبن دريد أنشد هذا الشعر، وكانت روايته:وزال بشاشة الوجه المليح فقال: أوَّل ما قال: أقوى. وكان في المجلس أبو سعيد السِّيرافيُّ فقال: يجوز أن يكون : وزال بشاشة الوجه المليح بنصب بشاشة على التَّمييز، وبحذف التَّنوين لإلتقاء السّاكنين، كما قال:


عمرو الذي هشم الثَّريد لقومه
ورجال مكَّة مسنتون عجاف قلت أنا: هذا الوجه الذي قاله أبو سعيدٍ شرٌّ من إقواء عشر مراتٍ في القصيدة الواحدة.
فيقول آدم، صلّى الله عليه: أعزز عليَّ بكم معشر أبينيَّ! إنّكم في الضَّلالة متهوِّكون! آليت ما نطقت هذا النّظيم، ولا نطق في عصري، وإنَّما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله! كذبتم على خالقكم وربَّكم، ثمَّ على آدم أبيكم، ثمَّ على حوُّاء أمِّكم، وكذب بعضكم على بعض، ومآلكم في ذلك الأرض.
[عدل] ذات الصفا

ثمّ يضرب سائراً في الفردوس فإذا هو بروضة مؤنقةٍ، وإذا هو بحيَّاتٍ يلعبن ويتماقلن، يتخاففن ويتثاقلن، فيقول: لا إله إلاّ الله! وما تصنع حيّةٌ في الجنّة؟ فينطقها الله، جلَّت عظمته، بعدما ألهمها المعرفة بهاجس الخلد فتقول، أما سمعت في عمرك بذات الصَّفاء، الوافية لصاحبٍ ما وفى؟ كانت تنزل بواد خصيب، ما زمنها في العيشة بقصيب، وكانت تصنع إليه الجميل في ورد الظاهرة والغب، وليس من كفر للمؤمن بسبٍّ فلمّا ثمَّر بودِّها ماله، وأمل أن يجتذب آماله، ذكر عندها ثاره، وأراد أن يفتقر آثاره، وأكبّ على فآسٍ معملةٍ، يحدُّ غرابها للآملة، ووقف للسّاعية على صخرةٍ، وهمَّ أن ينتقم منها بأخرةٍ، وكان أخوه ممَّن قتلته، جاهرته في الحادثة أو قيل ختلته، فضربها ضربةً، وأهون بالمقر شربةً، إذا الرَّجل أحسَّ التَّلف، وفقد من الأنيس الخلف! فلمَّا وقيت ضربة فأسه، والحقد يمسك بأنفاسه، ندم على ما صنع أشدَّ النّدم، ومن له في الجدة بالعدم؟ فقال للحيّة مخادعاً، ولم يكن بما كتم صادعاً: هل لك أن نكون خلَّين، ونحفظ العهد إليَّن؟ ودعاها بالسفه إلى حلف، وقد سُقي من الغدر بخلف. فقالت: لا أفعل وإن طال الدَّهر، وكم قصم بالغير ظهرٌ! إنِّي أجدك فاجراً مسحوراً، لم تأل في خُلَّتك حوراً؛ تأبى لي صكَّةٌ فوق الرأس، مارستها أبأس مراسٍ، ويمنعك من أربك قبرٌ محفور، والأعمال الصّالحة لها وفور،وقد وصف ذلك نابغة بني ذبيان فقال:


وإنِّي لألقى من ذوي الضِّغن منهم
وما أصبحت تشكو من البثّ ساهره كما لقيت ذات الصَّفا من خليلها
وكانت تديه المال غباً وظاهره فلمّا رأى أن ثمر الله ماله
فأصبح مسروراً، وسدَّ مفاقره أكبَّ على فأسٍ يحدُّ غرابها
مذكَّرةٍ، من المعاول، باترة وقام على جحرٍ لها فوق صخرةٍ
ليقتلها، أو تخطىء الكفُّ بادره فلمّا وقاها الله ضربة فأسه
وللبرِّ عينٌ لا تغمِّض ناظره فقال: تعالي نجعل الله بيننا
على مالنا، أو تنجزي لي آخره فقالت: معاذ الله أفعل إننّي
رأيتك مسحوراً يمينك فاجره أبى لي قبرٌ لا يزال مقابلي
وضربة فأسٍ فوق رأسي فاقر وتقول حيّةٌ أخرى: إنّي كنت أسكن في دار الحسن البصريِّ فيتلو القرآن ليلاً، فتلقَّيت منه الكتاب من أوَّله إلى آخره.
فيقول، لا زال الرُّشد قريناً لمحلِّه: فكيف سمعته يقرأ: فالق الإصباح؟ فإنَّه يروى عنه بفتح الهمزة كأنّه جمع صبحٍ، وكذلك: بالعشيِّ والإبكار كأنّه جمع بكرٍ، من قولهم: لقيته بكراً، وإذا قلنا: إنَّ أنعماً وأشدّاً جمع نعمة بكرةٍ، على طرح الهاء، فيجوز أن تكون الأبكار جمع بكرةٍ، فتكون على قولنا: بكرٌ وأبكارٌ، كما يقال جندٌ وأجناد. فتقول: لقد سمعته يقرأ هذه القراءة، وكنت عليها برهةً من الدَّهر، فلمّا توفَّي، رحمه الله، انتقلت إلى جدارٍ في دار أبي عمرو بن العلاء، فسمعته يقرأ، فرغبت عن حروفٍ من قراءة الحسن كهذين الحرفين، وكقوله: الأنجيل، بفتح الهمزة. فلمَّا توفِّي أبو عمرو كرهت المقام، فانتقلت إلى الكوفة، فأقمت في جوار حمزة بن حبيبٍ، فسمعته يقرأ بأشياء ينكره عليه أصحاب العربيَّة، كخفض الأرحام في قوله تعالى: " واتَّقوا الله الذّي تساءلون به والأرحام " وكسر الياء في قوله تعالى: " وما أنتم بمصرخيّ " وكذلك سكون الهمزة في قوله تعالى: " استكباراً في الأرض ومكر السّيء " وهذا إغلاقٌ لباب العربيَّة، لأنَّ الفرقان ليس بموضع ضرورةٍ، وإنّما حُكي مثل هذا في المنظوم. وقد روي أنَّ امرأ القيس قال:


فاليوم أشرب غير مستحقبٍ
إثماً من الله، ولا واغل وبعضهم يروي: فاليوم أسقى، وإذا روي: فاليوم أشرب، فيجوز أن يكون ثمَّ إشارةٌ إلى الضمَّ لا حكم لها في الوزن، فقد زعم سيبويه أنَّهم يفعلون ذلك في قول الراجز:


متى أنام لا يؤرِّقني الكرى
ليلاً ولا أسمع أصوات المطي وهذا يدل على أنَّهم لم يكونوا يحفلون بطرح الإعراب، فأمّا قول الرَّاجز:


إذا اعوججن قلت: صاحب قوِّم
في الدَّوِّ، أمثال السَّفين العوَّم فإنَّه من عجيب ما جاء، وقد بله قائله عن أن يقول: صاح قوِّم، فلا يكون بالوزن إخلالٌ، ولكنَّ الذين يحتجُّون له يزعمون أنَّه أراد أن يعادل بين الجزئين، لأنَّ قوله: حب قوِّم، في وزن قوله: نل عوَّم، وهذا يشبه ما ادَّعوه في قول الهذلي:


أبيت على معاري فاخرات
بهنَّ ملوَّب كدم العباط يزعم النّحويُّون أنَّ قوله: معاري، بفتح الياء، حمله عليه كراهه الزِّحاف، وهذا قولٌ ينتقض، لأنَّ في هذه الطائيَّة أبياتاً كثيرةً لا تخلو من زحافٍ، وكلُّ قصيدةٍ للعرب وغيرها على هذا القريِّ. وكذلك قوله:


عرفت بأجدثٍ فنعاف عرقٍ
علاماتٍ كتحبير النِّماط فيه زحافان من هذا الجنس، ثمَّ يجيء في كلِّ الأبيات إلا أن يندر شيءٌ. وقد روي عن الأصمعيِّ أنَّه لم يسمع العرب تنشد إلا: أبيت على معارٍ، بالتّنوين، وهذا لا ينقض مذهب أصحاب القياس، إذا كانوا يروون عن أهل الفصاحة خلافه. ويهكر، أزلفه الله مع الأبرار المتَّقين، لما سمع من تلك الحيَّة، فتقول هي: ألا تقيم عندنا برهةً من الدَّهر؟ فإنِّي إذا شئت انتفضث من إهابي فصرت مثل أحسن غواني الجنَّة، لو ترشَّفت رضابي لعلمت أنّه أفضل من الدِّرياقة التي ذكرها ابن مقبلٍ في قوله:


سقتني بصهباء درياقةٍ
متى ما تليِّن عظامي تلن ولو تنفَّست في وجهك لأعلمتك أنَّ صاحبة عنترة تفلةٌ صدوفٌ والصَّدوف: الكريهة رائحة الفم، وإنّما تعني قوله:


وكأنَّ فارة تاجرٍ بقسيمةٍ
سبقت عوارضها إليك من الفم