أو كان قرني واحدا ًكفيته
فأمّا الفصل الذي ذكر فيه الخليل،فقد سقط منه اسم الذي غلا فيَّ، وقرن بالنُّجوم الصَّلافيَّ، ومن كان، فغفر الله جرائمه، وحفظ له في الأبد كرائمه، فقد أخطأ على نفسه فيما زعم وعليَّ، ونسب مالا أستوجب إليَّ. وكم أعتذر وأتنصَّل، من ذنبٍ ليس يتحصَّل!؟ وإنَّي لأكره بشهادة الله تلك الدَّعوى المبطلة، كراهة المسيح من جعله ربَّ العزَّة، فما ترك للفتن من مهزَّة بدليل قوله تعالى: " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للنّاس اَّتخذوني وأمِّي إلهين من دون الله، قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقٍّ، إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنِّك أنت علاَّم الغيوب ".
وأمّا أبو الفرج الزَّهرجيُّ فمعرفته بالشّيخ تقسم أنّه للأدب حليفٌ،وللطَّبع الخيَّر أليفٌ. ووددت أنَّ الرَّسالة وصلت إليَّ، ولكن ما عدل ذلك العديل، فبعدما تغنَّى هديل، هلاَّ اقتنع بنفقةٍ أو ثوبٍ، وترك الصُّحف عن نوب!؟ فأرب من يديه، ولا اهتدى في اللَّيلة بفرقديه. لو أنّه أحد لصوص العرب الذَّين رويت لهم الأمثال السّائرة، وتحدَّثت بهم المنجدة والغائرة، لما اغتفرت ما صنع بما نظم، لأنّه أفرط وأعظم، أي أتى عظيمة وبتك من القلائد نظميةً. وقد وفَّق أبو الفرج وولده، وصار كاللُّجّة ثمده، لمَّا درس عليه الكتب، وحفظ عنه ما يكون الترُّتب، فسلَّم العاتكة إلى القاريِّ، والنَّافجة إلى المرء الدّاريّ، والرُّمح الأطول إلى ابن الطُّفيل، والأعنَّة إلى أحلاس الخيل. وإن كان الشّيخ مارس من التَّعب أمَّ الرُّبيق، فقد جدّد عهده الأوَّل بقويق، وإنَّه لنعم النَّهر، لا يغرق السّابح ولا يبهر، وبناته المخطوبات صغارٌ، يؤخذن منه في الغفلة ولا يغار. يعلوهنَّ، والقدر يغولهنَّ، سترن الأنفس فما تبرَّجن، ولكن بالرّغم خرجن. خدورهنَّ من ماء، زارتهنَّ الملموءة بالإلماء والملموءة الشّبكة، يقال: ألمأ على الشيء إذا أخذه كلَّه ما يشعر قويقٌ المسكين، أعربٌ سبت من ولد أم رومٌ، ولا يحفل بما تروم. ولقد ذكره البحتريُّ، ونعته الصنَّوبريُّ، وإخال أنَّ الشّيخ أفسدته عليه دجلة وصراتها، وأعانها على ذلك فُراتها.
وأمَّا حلب، فإنّها الأمُّ البرَّة، تعقد بها المسرَّة، وما أحسبها، إن شاء الله، تظاهر بذميم العقوق، أو تغفل المفترض من الحقوق ووحشيّة يحتمل أن يكون، آنس الله الآداب ببقائه، جعلها نائبة عمن فقده من الإخوان، الذين عُدم نظيرهم في الأوان. وكذلك تجري أمثال العرب: يكنون فيها بالاسم عن جميع الأسماء، مثال ذلك أن يقول القائل:
فلا تشلل يدٌ فتكت بعمروٍ
فإنّك لن تُذلُّ ولن تضاما يجوز أن يرى الرجل رجلاً قد فتك بمن اسمه حسَّان أو عطاردٌ أو غير ذلك، فيتمَّثل بهذا البيت، فيكون عمرو فيه واقعاً على جميع من يتمثَّل له به. وكذلك قول الرّاجز:
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل
صار ذلك مثلاً لكلَّ من عمل عملاً لم يحكمه، فيجوز أن يُقال لمن اسمه خالدٌ أو بكرٌ أو ما شاء الله من الأسماء. ويضعون في هذا الباب المؤنَّث موضع المذكَّر، والمذكّر موضع المؤنَّث، فيقولون للرّجل: أطرِّي فإنِّك ناعلةٌ، والصيَّف ضيعَّت اللَّين، محسنة فهيلي، وابتدئيهنَّ بفعال سبيت. وإذا أرادوا أن يخبروا بأنَّ المرأة كانت تفعل الخير ثمّ هلكت فانقطع ما كانت تفعله، جاز أن يقولوا: ذهب الخير مع عمرو ابن حممة. وجائزٌ أن يقولوا لمن يحذِّرونه من قرب النّساء: لا تبت من بكريٍّ قريباً؛ والبكريُّ أخوك فلا تأمنه. ومثل هذا كثير. وأمَّا شكواه إليّ، فإننّي وإيّاه لكما قيل في المثل: الثّكلى تعين الثكلى، وعلى ذلك حمّل الأصمعيُّ قول أبي داود:
ويصيخ أحياناً كما اس
تمع المضلُّ دعاء ناشد كلانا بحمد الله مضلُّ، فعلى من نحمل وعلى من ندلُّ؟ أمّا المطيّة فآلية، وأمّا المزادة فخاليةٌ، والرّكب يفتقر إلى الحصاة، وكلَّهم بهش للوصاة:
يشكو إليّ جملي طول السُّرى
صبرٌ جميلٌ، فكلانا مبتلى ن اشتكت السَّمرة سفن العاضد إلى السَّيالة، فإنَّها تشكو النّازلة إلى شاكٍ، والصَّدق أفضل من الابتشاك. ولا أرتاب أنَّه يحفظ قول الفزازيِّ منذ خمسين حجَّة أو أكثر:
أعيين هلاَّ إذ بلت بحبِّها
كنت استعنت بفارغ العقل أقبلت تبغي الغوث من رجلٍ
والمستغاث إليه في شغل! ولا يزل أهل الأدب يشكون الغير في كلَّ جيل، ويخصُّون من العجائب بسجلٍ سجيلٍ. وهو يعرف الحكاية أنّ مسلمة بن عبد الملك أوصى لأهل الأدب بجزءٍ من ماله، وقل: إنَّهم أهل صناعةٍ مجفوَّةٍ. وأحسب أنَّهم والحرفة خلُقا توأمين، وإنما ينجح بعضهم في ذات الزُّمين، ثمّ لا تلبث أن تزل قدمه، ويتفرَّى بالقدر أدمه.وقد سمع في مصر بقصَّة أبى الفضل وسعيد، وما كان أحدهما من الآخر ببعيد. وإذا كان الأدب على عهد بني أميَّة يقصد أهله بالجفوة، فكيف يسلمون من باسٍ، عند مملكة بني العبّاس؟ وإذا أصابتهم المحن في عدَّان الرشيد فكيف يطمع لهم بالحظِّ المشيد؟ أليس أبو عبيدة قدم مع الأصمعيَّ وكلاهما يريد النُّجعة، ولا يلتمس إلى البصرة رجعة، فتشبِّث بعبد الملك، وردَّ معمرٌ، ومن يعلم بما يجنُّ الخمر. ومن بغى أن يتكسَّب بهذا الفنِّ، فقد أودع شرابه في شنٍّ، غير ثقةٍ على الوديعة، بل هي منه في صاحب خديعة.
[عدل] سيبويه
وقد روي أن سيبويه لمَّا أختبر شأنه وراز، رغب في ولاية المظالم بشيراز، وأنَّ الكسائيَّ تحوَّب ممّا صنع به، فأعانه كي يشحط على مطلبه،فأمّا حبيب بن أوسٍ فهلك وهو بالموصل على البريد: وصاحب الأدب حليف التّصريد،وأمّا الذين ذكرهم من المصحَّفين، فغير البررة ولا المنصفين. وما زال التتّفل يعرض لأذاة الأسد، وما أحسبه يشعر بمكان الحسد، فإذا أدَّلج وردٌ هموس، تشقى به التامكة، أو اللَّموس، فثعالة به منذرٌ، كأنّه للمفترس محذِّر، ولا يراه الضّيغم موضعاً للعتاب، ويجعل أمره فيما يحتمل من الخطب المنتاب. وكم من أغلب مثارٍ، يسهَّد لغناء الطَّيثار، وإذا هو بليلٍ تغنَّى، فالقسور به معنَّى:
ما يضرُّ البحر أمسى زاخراً
أن رمى فيه غلامٌ بحجر أو كلّما طنَّ الذّباب أروعه؟
إنَّ الذُّباب إذاً عليَّ كريم! ومازال الهمج يقولون، ويقصرون عن المكرمة فلا يطولون، وإنهم عما أثَّل متثاقلون، وطلاَّب الأدب في حباله واقلون،من انفرد بفضيلةٍ أثيرةٍ، فإنّه يتقدَّم بمناقب كثيرةٍ، وإن حسَّاد البارع لكما قال الفرزدق:
فإن تهج آل الزِّبرقان، فإنّما
هجوت الطّوال الشُّمَّ من يذبل وقد ينبج الكلب النّجوم ودونها
فراسخ تقصي ناظر المتأمِّل يعدو على الحاسد حسده، ويذوب من كبتٍ جسده:
فهل ضربة الرّوميِّ جاعلةٌ لكم
أباً عن كليبٍ، أو أباً مثل دارم؟ فأمّا ما ذكره من قول أبي الطَّيب: أذمُّ إلى هذا الزّمان أهيله فقد كان الرّجل مولعاً بالتّصغير، لا يقنع من ذلك بخلسة المغير؛ كقوله:
من لي بفهم أهيل عصر يدعي
أن يحسب الهندي فيهم باقل؟ وقوله:
إذا عدلو فيها أجبيت بأنة
حبيبتا قلبي، فؤادي هيا جمل وقوله:
أخذت بمدحه فرأيت لهوًا
مقالي للأحيمق يا حليم وقوله:
ونام الخويدم عن ليلنا
وقد نام قبل عمى لا كرى وقوله:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر
ضعيف يقاويني، قصير يطاول؟ وغير ذلك مما هو موجود في ديوانه، ولا ملامة عليه، إنما هي عادة صارت كالطبع، فما حسن بها مألوف الربع، ولكنها تغتفر مع المحاسن، والشام قد يظهر على المراسن. وهذا البيت الذي أوله:
أذم إلى هذا الزمان أهيله
فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد إنما قاله في علي بن محمد بن سيار بن مكرم بأنطاكية قبل أن يمدح سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان، والشعراء مطلق لهم ذلك، لأن الآية شهدت عليهم بالتخرص وقول الأباطيل: " ألم تر أنهم في كل وادٍ بهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ " وأهل كلمة أصل وضعها للجماعة، فيقال: ارتحل أهل الدار،فيعلم السامع أن المتكلم لا يقصد واحداً بما قال، إلا أن هذه الكلمة قد استعملت للآحاد، فقيل: فلان أهل الخير وأهل الإحسان، قال حاتم الطائي:
ظلت تلوم على بكر سمحت به
إن الرزيئة في الدنيا ابن مسعود غادره القوم بالمعزاء منجدلاً
وكان أهل الندى والحزم والجود
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)