وما زال اليمن منذ كان، معدناً للمتكسبين بالتدين، والمحتالين على السحت بالتزين. وحدثني من سافر إلى تلك الناحية، أن به اليوم جماعة كلهم يزعم أنه القائم المنتظر، فلا يعدم جباية من مالٍ، يصل بها إلى خسيس الآمال.
وحكي لي أن للقرامطة بالأحساء بيتاً يزعمون أن إمامهم يخرج منه، ويقيمون على باب ذلك البيت فرساً بسرجٍ ولجام، ويقولون للهمج والطغام: هذا الفرس لركاب المهدي، يركبه متى ظهر بحق بديٍ. وإنما غرضهم بذلك خدعُ وتعليل، وتوصل إلى المملكة وتضليل. ومن أعجب ما سمعت أن بعض رؤساء القرامطة في الدهر القديم، لما حضرته المنية جمع أصحابه وجعل يقول لهم لما أحس بالموت: إني قد عزمت على النقلة، وقد كنت بعثت موسى وعيسى ومحمداً، ولا بد لي أن أبعث غير هؤلاء! فعليه اللعنة، لقد كفر أعظم الكفر، في الساعة التي يجب أن يؤمن فيها الكافر، ويؤوب إلى آخرته المسافر.
وأما الوليد بن يزيد فكان عقله عقل وليد، وقد بلغ سن الكهل الجليد، ما أغنته نية سابجة، ولا نفعت البنابجة. وشغل عن الباطية، بجريرة النفس الخاطية. دحاه إلى سقر داحٍ، فما يغترف بالأقداح. وقد رويت له أشعار، يلحق به منها العار، كقوله:


أدنيا مني خليلي
عبد لا دون الإزار فلقد أيقنت أني
غير مبعوثٍ لنار واتركا من يطلب الجن
ة يسعى في خسار سأروض الناس حتى
يركبوا دين الحمار فالعجب لزمان صير مثله إماماً، وأورده من المملكة جماماً ولعل غيره ممن ملك يعتقد مثله أو قريباً، ولكن يساتر ويخاف تثريباً. ومما يروى له:


أنا الإمام الوليد مفتخراً
أجر بردي، وأسمع الغزلا أسحب ذيلي إلى منازلها
ولا أبالي من لام أو عذلا ما العيش إلى سماع محسنةٍ
وقهوة تترك الفتى ثملا لا أرتجي الحور في الخلود وهل
يأمل حور الجنان من عقلا؟ إذا حبتك الوصال غانية
فجازها بذلها كمن وصلا ويقال إنه لما أحيط به، دخل القصر وأغلق بابه وقال:


دعوا لي هنداً والرباب وفرتنى
ومسمعة، حسبي بذلك مالا خذوا ملككم، لا ثبت الله ملككم
فليس يساوي بعد ذاك عقالا وخلوا سبيلي قبل عير وما جرى
ولا تحسدوني أن أموت هزالا فألب عن تلك المنزلة أي ألب، ورئي رأسه في فم كلب. كذلك نقل بعض الرواة، والله القائم بجزاء الغواة. ولا حيلة للبشر في أم دفرٍ، أعيت كل حضرٍ وسفرٍ. كان حق الخلافة أن تفضي إلى من هو بنسكٍ معروف، لا تصرفه عن الرشد صروف، ولكن البلية خلقت مع الشمس، فهل يخلص من سكن في رمس؟ وأما أبو عيسى بن الرشيد، فليس بالناشد ولا النشيد. وإن صح ما روي عنه فقد باين بذلك أسلافه، وأظهر لأهل الديانة خلافه.
وما يحفل ربه بالعبيد صائمين للخيفة ولا مفطرين، ولكن الإنس غدوا محظرين. وربما كان الجاهل أو المتجاهل، ينطق بالكلمة وخلده بضدها آهل، وإنما أقول ذلك راجياً أن أبا عيسى ونظراءه، لم يتبعوا في الغي أمراءه، وأنهم على سوى ما علن يبيتون، لقد وعظهم الميتون.
ورأى بعضهم عبد السلام بن رغبان، المعروف بديك الجن، في النوم وهو بحسن حالٍ، فذكر له الأبيات الفائية التي فيها:


هي الدنيا، وقد نعموا بأخرى
وتسويف الظنون من السواف أي ( الهلاك ) فقال: إنما كنت أتلاعب بذلك ولم أكن أعتقده. ولعل كثيراً ممن شهر بهذه الجهالات تكون طويته إقامة الشريعة، والإرتاع برياضها المريعة. فإن اللسان طماحُ، وله بالفند إسماح. وكان أبو عيسى المذكور يستحسن شعره في البيتين والثلاثة، وأنشد له الصولي في نوادره:


لساني كتومُ لأسراره
ودمعي نموم بسري مذيع ولولا دموعي، كتمت الهوى
ولولا الهوى، لم يكن لي دموع فإن كان فر من صيام شهر. فلعله يقع في تعذيب الدهر، و " لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " .
وأما الجنابي فلو عوقب بلد بمن يسكنه، لجاز أن تؤخذ به " جنابة " ، ولا يقبل لها إنابة. ولكن حكم الكتاب المنزل أجدر وأحرى: " ألا تزر وازرة وزر أخرى " . وقد اختلف في حديث الركن معه: فزعم من يدعي الخبرة به أنه أخذه ليعبده ويعظمه، لأنه بلغه أنه يد الصنم الذي جعل على خلق زحل. وقيل: جعله موطئاً في مرتفق، وهذا تناقض في الحديث. وأي ذلك كان، فعليه اللعنة ما رسا " ثبير " وهمى صبير.
وأما العلوي البصريّ فذكر بعض الناّس أنّه كان قبل خروجه يذكر أنّه من عبد القيس ثمَّ من أنمار. وكان أسمه أحمد، فلمّا خرج تسمّى عليّاً. والكذب كثير جمّ، كأنه في النَّظر طود أشم؛ والصدّق لديه كالحصاة، توطأ بأقدام عصااة. تلك الأبيات المنسوبة إليه مشهورة وهي:


أيا حرفة الزمني ألم بك الرّدى
أمالي لي خلاص منك والشمَّل جامع لئن قنعت نفسي بتعليم صبية
يد الدهّر إني بالمذلة قانع وهل يرضين حرُّ بتعليم صبية
وقد ظنَّ أنَّ الرزَّق في الأرض واسع؟ وما أمنع أن يكون حملة حب الحطام، على أن غرق في بحرٍ طامٍ، يسبح فيه ما دامت السموات والأرض إلاّ ما شاء ربَّك إن ربكَّ فعَّال لما يريد. وقد رويت له أبيات تدل على تألهٍ، وما أدفع أن تكون قيلت على لسانه، لأن من خبر هذا العالم حكم عليه بفجور ومين، وأخلاق تبعد من الزَّين. والأبيات:


قتلت النّاس إشقاقاً
على نفسي كي تبقى وحزت المال بالسَّيف
لكي أنعم لا أشقى فمن أبصر مثواي
فلا يظلم إذاً خلقا فواويلي إذا ما متُّ
عند الله ما ألقى أخلداً في جوار اللّ
ه أم في ناره ألقى؟ وأنشدني بعضهم أبياتاً قافَّية طويلة الوزن، وقافيتها مثل هذه القافية، قد نسبت إلى عضد الدّولة. وقيل إنّه أفاق في بعض الأيّام، فكتبها على جدار الموضع الذي كان فيه، وقد نحي بها نحو أبيات البصريّ. وأشهد أنَّها متكلَّفة، صنعها رقيع من القوم، وأنّ عضد الدولة ما سمع بها قط.
وأمَّا الحكاية عن أصحاب الحديث أنَّهم صحفوا زخمة فقالوا: رحمة، فلا أصدَّق بما يجري مجراها، والكذب غالب ظاهر، والصدق، خفي متضائل، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك أدعاء من يدَّعي أنَّ علياً، عليه السلام، قال: تهلك البصرة بالزنج؛ فصحَّفها أهل الحديث: بالريح، لا أؤمن بشيء من ذلك. ولم يكن عليّ، عليه السلام، ولا غيره ممن يكشف له علم الغيب، وفي الكتاب العزيز: قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وفي الحديث المأثور: أنه سمع جواري يغنيَّن في عرس ويقلن:


وأهدى لنا أكبشاً
تبحبح في المربد وزوجك في النّادي
ويعلم ما في غد فقال: لا يعلم ما في غدٍ إلاالله. ولا يجوز أن يخبر منذ مائة سنة أن أمير حلب، حرسها الله، في سنة أربع وعشرين وأربعمائة، أسمه فلان بن فلان، وصفته كذا؛ فإن أدعى ذلك مدّعٍ فإنمّا هو متخرِّص كاذب. وأمّا النجوم فإنمّا لها تلويح لا تصريح، وحكي أنَّ الفضل ابن سهل كان يتمثل كثيراً بقول الراّجز:


لئن نجوت و نجتْ ركائبي
من غالبٍ من لفيف غالب إنّي لنجَّاء من الكرائب وأنّ غالباً كان فيمن قتله، فهذا ينَّفق مثله. وأجدر بهذه الحكاية أن تكون مصنوعة. فأما تمثله بالشعر فغير مستنكر، وربما أتفق أن يكون في الوقت جماعة يسمون بهذا الاسم، فيمكن أن يقترن معنى بلفظٍ، على أنَّ في الأيام عجائب، وفوق كلّ ذي علم عليم.
وقد حكي أنَّ إياس بن معاوية القاضي كان يظن الأشياء فتكون كما ظن، ولهذه العلَّة قالوا: رجل نقاب وألمعيَّ، قال أوس:


الألمعيّ الذي يظن بك الظ
ن كأن قد رأى وقد سمعا وقال: نقاب يحدِّث بالغائب. فأمّا الحسين بن منصور فليس جهله بالمحصور. وإذا كانت الأمةّ ربّما عبدت الحجر، فكيف يأمن الحصيف البجر؟ أراد أن يدير الضّلالة على القطب، فانتقل عن تدبير العطب، ولو انصرف إلى علاج البرس، ما بقي ذكر عنه في طرس، ولكنّها مقادير، تغشى النّاظر بها سمادير. فكون ابن آدم حصاة أو صخرة، أجمل به أن يجعل سخرةّ. والنّاس إلى الباطل سراع، ولهم إلى الفتن إشراع.
وكم افتري للحلاج، والكذب كثير الخلاج، وجميع ما ينسب إليه مما لم تجر العادة بمثله فإنّه الميّن الحنبريت، لا أصدّق به ولو كريت. وممّا يفتعل عليه أنّه قال للّذين قتلوه: أتظنون انكم إيّاي تقتلون؟ أنمّا تقتلون بغلة المادراني وأنّ البغلة وجدت في إصطبلها مقتولة.
وفي الصّوفية إلى اليوم من يرفع شأنه، ويجعل من النجَّم مكانه. وبلغني أنَّ ببغداد قوماً ينتظرون خروجه. وأنهم يقفون بحيث صُلب على دجلة يتوقَّعون ظهوره. وليس ذلك ببدع من جهل النّاس، ولو عبد عابد ظبي كناس، فقد نزل حظ على قرد، فظفر بأكرم الورد. وقالت العامة: اسجد للقرد في زمانه. وأنا أتحوَّب من ذكر القرد الذي يقال: إنّ القوادّ في زمن زبيدة كانوا يدخلون للسلام عليه وأنّ يزيد ابن مزيد الشَّيبانيَّ دخل في جملة المسلَّمين فقتله. وقد روي أن يزيد بن معاوية كان له قرد يحمله على أتانٍ وحشيةٍ ويرسلها مع الخليل في الحلبة. وأمّا الأبيات التي على الياء:


يا سرّ يدقُّ حتَّى
يجل عن وصف كلّ حيّ وظاهراً باطناً تبدَّى
من كلّ شيء لكل شيء يا جملة الكل، لست غيري
فما اعتذاري إذا إلي؟