الإفشين

وأمّا المازيار، فحلاّل بالسَّفه سيار، وحسبه ما يتجرعّ من الحميم، ويحتمل من المقال الذميم، وقد خلد له في الكتب ما يوجب، لعنه إلى يوم الدّين، وأنَّي له أن يجعل كأديم ودينٍ ورحم الله ابن أبي داؤد، فلقد شفى الأنفس من الجواد، وكشف حال الأفشين، فعلم انّه آلف شينٍ، مخالف رشادٍ وزين.
[عدل] بابك

وبابك فتح باب الطغّيان، ووجد من شرار الرّعيان، واظن جهاده، عليه التبَّار، أفضل جهادٍ عرف، وذنبه أكبر ذنبٍ اقترف. ولعلهّ يود في الآخرة أنّه ذبح عن كلّ من قتل في عدّانه، مائة مرّة في نهل مدّانه، ثم خلص من العذاب المطبق، واستنفذ عنقه من الربّق.
والعجب لأبي مسلم، خبط في الجنان المظلم، وظنّ أنّه على شيء، فكان كالمعتمد على الفيء، حطب لنارٍ أكلته، وقتل في طاعة ولاةٍ قتلته. وليس بأول من دأب لسواه، وأغواه الطمّع فيمن أغواه. وإنمّا سهر لأمّ دفرٍ وتبع سراباً في قفرٍ، فوجد ذنبه غير المغتفر، عند صاحب الدولة أبي جعفر.
وكلّ ساعٍ للفانية لا بدّ له من الندّم، في أوان الفرقة وحين العدم، فذمنّا يحسب من الضّلال، كما تمنّى القنع أخو الإقلال، وهذه زيادة في النّضب، وفاز بالسبَّق حائز القصب. نذمهّا على غير جناية، ولم تخبر أحداً بالعناية، بل أبناؤها في المحن سواء، لا تاعفهم الأهواء، فرب حاملٍ حزمة عضيدٍ ليس رثده بالنضيد، يعجز ثمنها عن القوت، ويكابد شظف عيشٍ ممقوت، يلج سلاء في قدمه، ويخصبه الشائك بدمه، وهو أقل أشجاناً من الواثب على السرير، ينعم برشأ غرير، يجمع له الذهب من غير حلٍّ، بإعنات الأمم وإسخاط الإلّ، وإذا ملأ بطنه من طعام، وسبح في بحرٍ من الترف عامٍ، فتلك النعّم ولذاته، تحدث لأجلها أذاته، يختلجه القدر على غفولٍ، وغاية السّفر إلى قفول. وما يدري العاقل، إذا افتكر، أي الشخصين أفضل: أربيب عقد عليه إكليل، أم ارقش ظله في المك ظليل؟ كلاهما بلغ آراباً، وأحدهما يأكل تراباً، والآخر يعل بالراح، ويجتهد له في الأفراح.
وما علمنا النّسك موقياً، ولا في الأسباب الراّفعة مرقياّ، والعالم بقدرٍ عاملون، أخطأهم ما هم آملون، ما آمن أن تكون الآخرة بإرزاق، فتغدو الرّاجحة إلى المهراق، على أن السّر مغيب، وكلنا في الملتمس مخيب، والجاهل وفوق الجاهل، من ادّعى المعرفة بغبّ المناهل، واللّعنة على الكاذبين.
[عدل] الكيسانية

مّا الذين يدعون في عليّ، عليه السلام، ما يدعون، فتلك ضلالة قديمة، وديمة من الغواية تتّصل بها ديمة، وقد روي أنّه حرقّ عبد الله ابن سبأ لمّا هاجر بذلك النبإ. واعتقاد الكيسانية في محمد بن الحنفية عجيب، لا يصدق بمثله نجيب، وقد روي أنّ أبا جعفر المنصور رفعت له نارّ في طريق مكّة في اللَّيلة التي مات فيها، فقال: قاتل الله الحميريَّ، لو رأى هذه النّار لظن أنها نار محمد بن الحنفية!،وعلي له سابقة، ومحاسن كثيرة رائقة، وكذلك جعفر بن محمد ليس شرفه بالثمد.
وقد بلغني أنّ رجلاً بالبصرة يعرف بشاباس، تزعم جماعة كثيرة أنّه رب العزّة، وتجبى إليه الأموال الجمّة، ويحمل إلى السّلطان منها قسماً وافراً، ليكون بما طلب ظافراً، وهو إذا كشف ساقط لاقط، يبذه إلى الفضل الماقط، والماقط الذي يكرى من بلدٍ إلى بلد. وحدِّثت أنّ امرأة بالكوفة يدعى لها مثل ذلك.
[عدل] ابن الراوندي

وقد سمعت من يخبر أنّ لابن الرّاوندي معاشر تذكر إنّ اللاهّوت سكنه، وأنّه من علمٍ مكنه، ويخترصون له فضائل يشهد الخالق وأهل المعقول، أنّ كذبها غير مصقول، وهو في هذا أحد الكفرة، لا يحسب من الكرام البررة، وقد أنشد له منشد، وغيره التقي المرشد:


قسمت بين الورى معيشتهم
قسمة سكران بيّن الغلط لو قسم الرّزق هكذا رجل
قلنا له: قد جننت فاستعط ولو تمثل هذان البيتان لكانا في الإصر يطولان أرمي مصر، فلو مات الفطن كمداً لما عتب، فأين مهرب العاقل من شقاءٍ رتب؟! أكل ما خدم خادع، أرسلت من الكفر مصادع؟ والمصادع: السهام وما حسنت السوداء الغالبة بسفيهٍ دعواه، إلا وافق جهولاً عواه أي عطفه.
وقد ظهر في الضيعة المعروفة بالنَّيرب المقاربة لسرمين رجل يعرف بأبي جوف، لا يستتر من الجهل بحوف، والحوف أزير من أدمٍ مشقق الأطراف السّافلة تتزر به الحارية وهي صغيرة وكان يدَّعي النّبرة، ويخبر بأخبار مضحكة، وتثبت نيته على ذلك ثبات المحكة، وكان له قطن في بيت فقال: إنّ قطني لا يحترق وأمر ابنه أن يدني سراجاً إليه، أخذ في العطب، وصرخت النّساء، واجتمعت الجيرة، وإنمّا الغرض إطفاء! وحدثّني من شاهد، أنّه كان يكثر الضّحك بغير موجب، ولا عند حدّثٍ معجب، فقيل له: ممّ تضحك؟ فقال كلاماً معناه: إنّ الإنسان ليفرح بهيّنٍ قليل، فكيف من وصل إلى العطاء الجليل؟ وكان بيّن الجنون، ليس خبله بالمكنون، فاتبعه الأغبياء، وكذب ما يقوله الأنبياء، حتى قتله والي حلب، حرسها الله، وذلك بعد مقتل البطريق المعروف بالدَّوقس في بلد أفامية، وكان الذي حثّ على قتله جيش بن محمد بن حمصامة لأنّ خبره رقي إليه، فأرسل إلى سلطان حلب، حرسها الله، يقول: أقتله وإلاّ أنفذت إليه من يقتله؛ وكان السّلطان يتهاون به لأنّه حقير، وربَّ شاةٍ نتج منها الوقير، أي قطيع الغنم.
وبعض الشّيعة يحدّث أنّ سلمان الفارسيّ في نفرّ معه جاؤوا يطلبون عليّ بن أبي طالبٍ، سلام الله عليه، فلم يجدوه في منزله، فبينما هم كذلك جاءت بارقة تتبعها راعدة، وإذا عليٌ قد نزل على إجاَّر البيت، في يده سيف مخضوب بالدّم، فقال: وقع بين فئتين من الملائكة، فصعدت إلى السماء لأصلح بينهما! والذين يقولون هذه المقالة يعتقدون أن الحسن والحسين ليسا من ولده، فحاق بهم العذاب الأليم.
أفلا يرى إلى هذه الأمّة كيف افتنت في الضّلالة، كافتنان الرّبيع في إخراج الأكلاء، والوحش الرّائعة الأطلاء!؟ وللكذب سوق ليست للصدّق، تجعل الأسدّ من أبناء الفرق. وأمّا الذي ذكره نم بلوغ السِّنِّ، فإن الله، سبحانه، خلق مقراً وشهداً، ورغبة في العاجلة وزهداً، وإذا اللّبيب أنعم النّظر، لم ير الحياة التي تجذبه إلى الضَّير، وتحث جسده على السيَّر؛ فالمقيم كأخي ارتحال، لا تثبت الأقضية به على حال: صبح يتبسّم وإمساء، لا يلبث معهما النَّساء، كأنّهما سيدا ضراء والعمر ثلّة في اقتراء، وهما على السّارح يغيران، فيفنيان السّائمة ويبيران.
وإن كان، مكنَّ الله وطأة الأدب ببقائه، قد أماط الشبيبة فإنما أنفقها في طلب علومٍ وآداب، صيرَّ طلابها ألزم دابٍ، ولو كان لها على الحيّ تلبث، كان لها بنفسه النفّيسة تشبث، ولكنها بعض الأعراض، لا تشعر بحياة وانقراض. وإذا كنّا على ذمِّ هذه المنزلة مجمعين، ولفراقها مزمعين، فلم نأسف على نأي الخوّانة؟ إن الأشاءة لمن العوانة، والأشاءة النخّلة الصغيرة، والعوانة النخّلة الطوّيلة ومتى اخلص قرين الغفلة توبةً، فإنّها لا تترك حوبةّ، تغسل ذنوبه غسل النّاسكة جزيز الفرار، في متدفق سحاب مدرار، كثر فيه القهل والدَّنس، فأحبَّ رحضه الأنس، وكان قد أخذ عن أثباج غنمٍ بيض، تفوق ما يرتع من الربيض، فعاد وكأنه كافور الطيّب، أو ما ضحك من كافورٍ رطيب، والكافور: الطّلع، وقيل هو وعاء الطَّلعة.
فأمّا الغانيات بعد السبّعين، فالأشيب لديهن كالعاسل يباكر العين، وقد حكي أنّ أبا عمرو بن العلاء كان يخضب، فاشتكى في بعض الأيام، فعاده بعض أصحابه، فال:تقوم إن شاء الله تعالى من علتّك. فقال: ما آمل بعد ستٍ وثمانين. وعاد إليه وقد تماثل فقال: لا تحدث بما قلت لك. وهذا من ظريف ماروي، رغب في تمويهّ بالخضاب، وكتم سنه عن كلّ الأصحاب.
وقد تحدّث بعض طلاّب الأدب انّه، أدام الله تزيين المحافل بحضوره، ذكر التزويج يريد الخدمة، فسرني ذلك، لأنّه دل على إقامة بالوطن، وفي قربه الفرحة لذوي الفطن. إذ كان كالشجّرة الوارف ظلالهما في الهواجر، والبارد هواؤها في ناجر، والطّيب ثمرها للذّائق، والأرج نسيمها للناشق.
وهو يعرف حكاية الخليل عن العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيّا الشوابّ؛ ولا خيرة عند التّواب، ولكن النّصف، ممنّ يوصف:


لاتنكحن عجوزاً إن أتيت بها
واخلع ثيابك عنها ممعناً هرباً وإن أتوك وقالوا: إنهّا نصف
فإنّ أطيب نصفيها الذي ذهبا لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون ولعله تقدر له كصاحبة أبي الأسود أمّ عمروٍ، ورب خيرٍ تحت الخمر:


كثوب اليماني قد تقادم عهده
ورقعته ماشئت في العين واليد أو كما قال الآخر:


ضناك على نيرين أمست لداتها
بلين بلى الريّطات وهي جديد وحكي عن أبي حاتمٍ سهل بن محمد أنّه قرأ على الأصمعي شعر حساّن بن ثابت، فلمّا انتهى إلى قوله:


لم تفتها شمس النّهار بشيء
غير أن الشباب ليس يدوم قال الأصمعي: وصفها والله بالكبر، وقد يجوز ما قال، والأشبه أن يكون قال هذا وهي شابَّة، على سبيل التأسف، أي أن الأشياء لا بقاء لها، كما قال الآخر:


أنت نعم المتاع، لو كنت تبقى
غير أن لا بقاء للإنسان ولو نشط لهذه المأربة، لتنافست فيه العجز والمكتهلات، وعلت خطبة المنهبلات، لأن العاقلة ذات الإحصاف، تجنب إلى معاشرة حليف الإنصاف. وهل هو كما قال الأوّل:


يا عز هل لك في شيخ فتى أبداً
وقد يكون شباب عير فتيان فليس بأوّل من طلب نجوزاً، فتزوج على السنِّ عجوزاً، كما قال:


إذا ما أعرض الفتيان عنّي
فمن لي أن تساعفني عجوز كأنّ مجامع الّلحيين منها
إذا حسرت عن العرنين كوز؟ ويروي للحادث بن حلزة، ولم أجده في ديوانه:


وقالوا مانكحت؟ فقلت: خيراً
عجوزاً من عرينة ذات مال نكحت كبيرة، وغرمت مالاً
كذاك البيع: مرتخص وغال وأعوذ بالله ممّا قال الآخر:


عجوزاً لو أن الماء يسقى بكفَّها
لما تركتنا بالمياه نجوز! وما زالت العرب تحمد الحيزبون والشهلة، ولا تكره مع الشرخ الكهلة. وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم، خديجة ابنة خويلدٍ وهو شاب، وهي طاعنة في السّن. وقالت له أم سلمة ابنة أبي أمية: يا رسول الله، إني امرأة قد كبرت وما أطيق الغيرة. فقال: أمّا قولك: قد كبرت، فإنا أكبر منك، وأمّا الغيرة، فإننّي سوف أدعو الله أن يزلها عنك. وقال الشاعر:


فما أنا ابن رهمٍ قد علمتم
ولا ابن العاملية فاحذروني