الباب التاسع في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه

هذا الباب وإن كان داخلا فيما قبله كما بينا أن الزكاة لا تحصل إلا بالطهارة ولكنا أفردناه بالذكر لبيان معنى طهارته وشدة الحاجة إليها ودلالة القرآن والسنة عليها قال الله تعالى: يأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر [ المدثر: 1 ] وقال تعالى: أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ المائدة: 41 ] وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب ههنا القلب والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق
قال الواحدي: اختلف المفسرون في معناه فروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يعني من الإثم ومما كانت الجاهلية تجيزه وهذا قول قتادة ومجاهد قالا نفسك فطهرها من الذنب ونحوه قول الشعبي وإبراهيم والضحاك والزهري وعلى هذا القول: الثياب عبارة عن النفس والعرب تكنى بالثياب عن النفس ومنه قول الشماخ:
رموها بأثواب خفاف فلا ترى... لها شبها إلا النعام المنفرا
رموها يعني الركاب بأبدانهم وقال عنترة:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه... ليس الكريم على القنى بمحرم
يعني نفسه
وقال في رواية الكلبي: يعني لا تغدر فتكون غادرا دنس الثيباب وقال سعيد بن جبير: كان الرجل إذا كان غادرا قيل: دنس الثياب وخبيث الثيباب وقال عكرمة: لا تلبس ثوبك على معصية ولا على فجرة وروى ذلك عن ابن عباس واحتج بقول الشاعر:
وإني بحمد الله لا ثوب غادر... لبست ولا من خزية أتقنع
وهذا المعنى أراد من قال في هذه الآية وعملك فأصلح وهو قول أبي رزين ورواية منصور عن مجاهد وأبي روق وقال السدى: يقال للرجل إذا كان صالحا: إنه لطاهر الثياب وإذا كان فاجرا: إنه لخبيث الثيباب قال الشاعر:
لا هم إن عامر بن جهم... أوذم حجا في ثياب دسم
يعني أنه متدنس بالخطايا وكما وصفوا الغادر الفاجر بدنس الثوب وصفوا الصالح بطهارة الثوب قال امرؤ القيس:
ثياب بني عوف طهارى نقية
يريد أنهم لا يغدرون بل يفون وقال الحسن: خلقك فحسنه وهذا قول القرطبي وعلى هذا: الثياب عبارة عن الخلق لأن خلق الإنسان يشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه
وروى العوفى عن ابن عباس في هذه الآية لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طيب والمعنى طهرها من أن تكون مغصوبة أو من وجه لا يحل اتخاذها منه وروى عن سعيد بن جبير: وقلبك: ونيتك فطهر وقال أبو العباس: الثياب اللباس ويقال: القلب وعلى هذا ينشد:
فسلعى ثيابي من ثيابك تنسلي
وذهب بعضهم في تفسير هذه الآية إلى ظاهرها وقال: إنه أمر بتطهير ثيابه من النجاسات التي لا تجوز معها الصلاة وهو قول ابن سيرين وابن زيد وذكر أبو إسحاق: وثيابك فقصر قال: لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسة فإنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن أن يصيبه ما ينجسه وهذا قول طاوس وقال ابن عرفة معناه: نساءك طهرهن وقد يكنى عن النساء بالثياب واللباس قال تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [ البقرة: 178 ] ويكنى عنهن بالإزار ومنه قول الشاعر:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا... فدى لك من أخي ثقة إزارى
أي أهلي ومنه قول البراء بن معرور للنبي ليلة العقبة لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا أي نساءنا
قلت: الآية تعم هذا كله وتدل عليه بطريق التنبيه واللزوم إن لم تتناول ذلك لفظا فإن المأمور به إن كان طهارة القلب فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك ولذلك حرم لبس جلود النمور والسعباع بنهي النبي عن ذلك في عدة أحاديث صحاح لا معارض لها لما تكسب القلب من الهيئة المشابهة لتلك الحيوانات فإن الملابسة الظاهرة تسري إلى الباطن ولذلك حرم لبس الحرير والذهب على الذكور لما يكتسب القلب من الهيئة التي تكون لمن ذلك لبسه من النساء وأهل الفخر والخيلاء
والمقصود: أن طهارة الثوب وكونه من مكسب طيب هو من تمام طهارة القلب وكمالها فإن كان المأمور به ذلك فهو وسيلة مقصودة لغيرها فالمقصود لنفسه أولى أن يكون مأمورا به وإن كان المأمور به طهارة القلب وتزكية النفس فلا يتم إلا بذلك فتبين دلالة القرآن على هذا وهذا
وقوله: أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم [ المائدة: 41 ] عقيب قوله: سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه [ المائده: 41 ] مما يدل على أن العبد إذا اعتاد سماع الباطل وقبوله أكسبه ذلك تحريفا للحق عن مواضعه فإنه إذا قبل الباطل أحبه ورضيه فإذا جاء الحق بخلافه رده وكذبه إن قدر على ذلك وإلا حرفه كما تصنع الجهمية بآيات الصفات وأحاديثها يردون هذه بالتأويل الذي هو تكذيب بحقائقها وهذه بكونها أخبار آحاد لا يجوز الاعتماد عليها في باب معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته فهؤلاء وإخوانهم من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق وتعوضت بالباطل عن كلام الله تعالى ورسوله كما أن المنحرفين من أهل الإرادة لما لم تطهر قلوبهم تعوضوا بالسماع الشيطاني عن السماع القرآني الإيماني قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله
فالقلب الطاهر لكمال حياته ونوره وتخلصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن ولا يتغذى إلا بحقائقه ولا يتداوى إلا بأدويته بخلاف القلب الذي لم يطهره الله تعالى فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه بحسب ما فيه من النجاسة فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح
ودلت الآية على أن طهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى وأنه سبحانه لما لم يرد أن يطهر قلوب القائلين بالباطل المحرفين للحق لم يحصل لها الطهارة
ولا يصح أن تفسر الإرادة ههنا بالإرادة الدينية وهي الأمر والمحبة فإنه سبحانه قد أراد ذلك لهم أمرا ومحبة ولم يرده منهم كونا فأراد الطهارة لهم وأمرهم بها ولم يرد وقوعها منهم لما له في ذلك من الحكمة التي فواتها أكره إليه من فوات الطهارة منهم
وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا الكبير في القدر
ودلت الآية على أن من لم يطهر الله قلبه فلابد أن يناله الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة بحسب نجاسة قلبه وخبثه ولهذا حرم الله سبحانه الجنة على من في قلبه نجاسة وخبث ولا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره فإنها دار الطيبين ولهذا يقال لهم: طبتم فادخلوها خالدين [ الزمر: 73 ] أي ادخلوها بسبب طيبكم والبشارة عند الموت لهؤلاء دون غيرهم كما قال تعالى: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ النحل: 32 ] فالجنة لا يدخلها خبيث ولا من فيه شيء من الخبث فمن تطهر في الدنيا ولقي الله طاهرا من نجاساته دخلها بغير معوق ومن لم يتطهر في الدنيا فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعدما يتطهر في النار من تلك النجاسة ثم لا يخرج منها حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيهذبون وينقون من بقايا بقيت عليهم قصرت بهم عن الجنة ولم توجب لهم دخول النار حتى إذا هذعبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة
والله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفا على الطهارة فلا يدخل المصلي عليه حتى يتطهر وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفا على الطيب والطهارة فلا يدخلها إلا طيب طاهر فهما طهارتان: طهارة البدن وطهارة القلب ولهذا شرع للمتوضىء أن يقول عقيب وضوئه أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فطهارة القلب بالتوبة وطهارة البدن بالماء فلما اجتمع له الطهران صلح للدخول على الله تعالى والوقوف بين يديه ومناجاته
وسألت شيخ الإسلام عن معنى دعاء النبي اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد كيف يطهر الخطايا بذلك وما فائدة التخصيص بذلك وقوله في لفظ آخر: والماء البارد والحار أبلغ في الإنقاء
فقال: الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفا فيرتخى القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه والماء يغسل الخبث ويطفىء النار فإن كان باردا أورث الجسم صلابة وقوة فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته فكان أذهب لأثر الخطايا هذا معنى كلامه وهو محتاج إلى مزيد بيان وشرح
فاعلم أن ههنا أربعة أمور: أمران حسيان وأمران معنويان فالنجاسة التي تزول بالماء هي ومزيلها حسيان وأثر الخطايا التي تزول بالتوبة والاستغفار هي ومزيلها معنويان وصلاح القلب وحياته ونعيمه لا يتم إلا بهذا وهذا فذكر النبي من كل شطر قسما نبه به على القسم الآخر فتضمن كلامه الأقسام الأربعة في غاية الاختصار وحسن البيان كما في حديث الدعاء بعد الوضوء اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فإنه يتضمن ذكر الأقسام الأربعة ومن كمال بيانه وتحقيقه لما يخبر به ويأمر به: تمثيله الأمر المطلوب المعنوي بالأمر المحسوس وهذا كثير في كلامه كقوله في حديث علي بن أبي طالب سل الله الهدى والسداد واذكر بالهدى هدايتك الطريق وبالسداد سداد السهم إذ هذا من أبلغ التعليم والنصح حيث أمره أن يذكر إذا سأل الله الهدى إلى طريق رضاه وجنته: كونه مسافرا وقد ضل عن الطريق ولا يدري أين يتوجه فطلع له رجل خبير بالطريق عالم بها فسأله أن يدله على الطريق فهذا شأن طريق الآخرة تمثيلا لها بالطريق المحسوس للمسافر وحاجة المسافر إلى الله سبحانه: إلى أن يهديه تلك الطريق أعظم من حاجة المسافر إلى بلد إلى من يدله على الطريق الموصل إليها وكذلك السداد وهو إصابة القصد قولا وعملا فمثله مثل رامي السهم إذا وقع سهمه في نفس الشيء الذي رماه فقد سدد سهمه وأصاب ولم يقع باطلا فهكذا المصيب للحق في قوله وعمله بمنزلة المصيب في رميه وكثيرا ما يقرن في القرآن هذا وهذا فمنه قوله تعالى: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ البقرة: 197 ] أمر الحجاج بأن يتزودوا لسفرهم ولا يسافروا بغير زاد ثم نبههم على زاد سفر الآخرة وهو التقوى فكما أنه لا يصل المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلغه إياه فكذلك المسافر إلى الله تعالى والدار الآخرة لا يصل إلا بزاد من التقوى فجمع بين الزادين ومنه قوله تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير [ الأعراف: 26 ] فجمع بين الزينتين: زينة الظاهر والباطن وكمال الظاهر والباطن ومنه قوله تعالى: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى [ طه: 123 ] فنفى عنه الضلال الذي هو عذاب القلب والروح والشقاء الذي هو عذاب البدن والروح أيضا فهو منعم القلب والبدن بالهدى والفلاح ومنه قول امرأة العزيز عن يوسف عليه السلام لما أرته النسوة اللائمات لها في حبه: فذلكن الذي لمتنني فيه [ يوسف: 32 ] فأرتهن جماله الظاهر ثم قالت: ولقد راودته عن نفسه فاستعصم [ يوسف: 32 ] فأخبرت عن جماله الباطن بعفته فأخبرتهن بجمال باطنه وأرتهن جمال ظاهره