فنبه بقوله اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد على شدة حاجة البدن والقلب إلى ما يطهرهما ويبردهما ويقويهما وتضمن دعاؤه سؤال هذا وهذا والله تعالى أعلم
وقريب من هذا: أنه كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك وفي هذا من السر والله أعلم: أن النجو يثقل البدن ويؤذيه باحتباسه والذنوب تثقل القلب وتؤذيه باحتباسها فيه فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب فحمد الله عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه وخفة البدن وراحته وسأل أن يخلصه من المؤذي الآخر ويريح قلبه منه ويخففه وأسرار كلماته وأدعيته فوق ما يخطر بالبال


فصل فيما في الشرك والزنا واللواطة من الخبث

وقد وسم الله سبحانه الشرك والزنا واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه دون سائر الذنوب وإن كانت مشتملة على ذلك لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى: يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس [ التوبة: 28 ] وقوله تعالى في حق اللوطية: ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين [ الأنبياء: 74 ] وقالت اللوطية: أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [ النمل: 56 ] فأقروا مع شركهم وكفرهم أنهم هم الأخابث الأنجاس وأن لوطا وآله مطهرون من ذلك باجتنابهم له وقال تعالى في حق الزناة: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات [ النور: 26 ]
فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلظة ونجاسة مخففة فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تعالى فإن الله لا يغفر أن يشرك به والمخففة: الشرك الأصغر كيسير الرياء والتصنع للمخلوق والحلف به وخوفه ورجائه ونجاسة الشرك عينية ولهذا جعل سبحانه الشرك نجسا بفتح الجيم ولم يقل: إنما المشركون نجس بالكسر فإن النجس عين النجاسة والنجس بالكسر هو المتنجس فالثوب إذا أصابه بول أو خمر نجس والبول والخمر نجس فأنجس النجاسة الشرك كما أنه أظلم الظلم فإن النجس في اللغة والشرع هو المستقذر الذي يطلب مباعدته والبعد منه بحيث لا يلمس ولا يشم ولا يرى فضلا أن يخالط ويلابس لقدارته ونفرة الطباع السليمة عنه وكلما كان الحق أكمل حياة وأصح حياء كان إبعاده لذلك أعظم ونفرته منه أقوى
فالأعيان النجسة إما أن تؤذي البدن أو القلب أو تؤذيهما معا والنجس قد يؤذي برائحته وقد يؤذي بملابسته وإن لم تكن له رائحة كريهة
والمقصود: أن النجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة وتارة تكون معنوية باطنة فيغلب على الروح والقلب الخبث والنجاسة حتى إن صاحب القلب الحي ليشم من تلك الروح والقلب رائحة خبيثة يتأذى بها كما يتأذى من شم رائحة النتن ويظهر ذلك كثيرا في عرقه حتى ليوجد لرائحة عرقه نتنا فإن نتن الروح والقلب يتصل بباطن البدن أكثر من ظاهره والعرق يفيض من الباطن ولهذا كان الرجل الصالح طيب العرق وكان رسول الله أطيب الناس عرقا قالت أم سليم وقد سألها رسول الله عنه وهي تلتقطه هو من أطيب الطيب فالنفس النجسة الخبيثة يقوى خبثها ونجاستها حتى يبدو على الجسد والنفس الطيبة بضدها فإذا تجردت وخرجت من البدن وجد لهذه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ولتلك كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض
والمقصود: أن الشرك لما كان أظلم الظلم وأقبح القبائح وأنكر المنكرات كان أبغض الأشياء إلى الله تعالى وأكرها له وأشدها مقتا لديه ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه وأخبر أنه لا يغفره وأن أهله نجس ومنعهم من قربان حرمه وحرم ذبائحهم ومناكحتهم وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم وأن يتخذوهم عبيدا وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية وتنقيص لعظمة الألهية وسوء ظن برب العالمين كما قال تعالى: ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا [ الفتح: 6 ] فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الشرك فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده ولهذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلا وندا يحبه ويخافه ويرجوه ويذل له ويخضع له ويهرب من سخطه ويؤثر مرضاته قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله [ البقرة: 165 ] وقال تعالى: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ الأنعام: 1 ] أي يجعلون له عدلا في العبادة والمحبة والتعظيم وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبني آلهتهم وعرفوا وهم في النار أنها كانت ضلالا وباطلا فيقولون لألهتهم وهم في النار معهم رتالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [ الشعراء: 98 ] ومعلوم أنهم ما سووهم به في الذات والصفات والأفعال ولا قالوا: إن آلهتهم خلقت السموات والأرض وأنها تحيي وتميت وإنما سووها به في محبتهم لها وتعظيمهم لها وعبادتهم إياها كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب إلى الإسلام ومن العجب أنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين وما ذنبهم إلا أن قالوا: إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وأنهم لا يشفعون لعابديهم أبدا بل قد حرم الله شفاعتهم لهم ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة فليس لهم من الأمر شيء بل الأمر كله لله والشفاعة كلها له سبحانه والولاية له فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع
فالشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن بالله تعالى ولهذا قال إبراهيم إمام الحنفاء لخصمائه من المشركين: أإفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين [ الصافات: 86 ] وإن كان المعنى ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به وقد عبدتم معه غيره وجعلتم له ندا فأنت تجد تحت هذا التهديد: ما ظننتم بربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره فإن المشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم من: من وزير أو ظهير أو عون وهذا أعظم التنقيص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك وإما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة أولا يرحم حتى يجعله الواسطة يرحم أو لا يكفي عبده وحده أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة كما يشفع المخلوق عند المخلوق فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به وتكثره به من القلة وتعززه به من الذلة أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه كما هو حال ملوك الدنيا وهذا أصل شرك الخلق أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم حتى يرفع الوسائط ذلك أو يظن أن للمخلوق عليه حقا فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه ويتوسل إليه بذلك المخلوق كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا يمكنهم مخالفته وكل هذا تنقص للربوبية وهضم لحقها ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله تعالى وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه من قلب المشرك بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به فينقص ويضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه لكفى في شفاعته
فالشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه والتنقص لازم له ضرورة شاء المشرك أم أبى ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره وأن يخلد صاحبه في العذاب الأليم ويجعله أشقى البرية فلا تجد مشركا قط إلا وهو متنقص لله سبحانه وإن زعم أنه يعظمه بذلك كما أنك لا تجد مبتدعا إلا وهو متنقص للرسول وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة فإنه يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب أو يزعم أنها هي السنة إن كان جاهلا مقلدا وإن كان مستبصرا في بدعته فهو مشاق لله ورسوله
فالمتنقصون المنقوصون عند الله تعالى ورسوله وأوليائه: هم أهل الشرك والبدعة ولا سيما من بنى دينه على أن كلام الله ورسوله أدلة لفظية لا تفيد اليقين ولا تغني من اليقين والعلم شيئا فيا لله للمسلمين أي شىء فات من هذا التنقص
وكذلك من نفى صفات الكمال عن الرب تعالى خشية ما يتوهمه من التشبيه والتجسيم فقد جاء من التنقص بضد ما وصف الله سبحانه به نفسه من الكمال
والمقصود: أن هاتين الطائفتين هم أهل التنقص في الحقيقة بل هم أعظم الناس تنقصا لبس عليهم الشيطان حتى ظنوا ان تنقصهم هو الكمال ولهذا كانت البدعة قرينة الشرك في كتاب الله تعالى قال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون [ الأعراف: 33 ] فالإثم والبغي قرينان والشرك والبدعة قرينان