صفحة 6 من 33 الأولىالأولى ... 4567816 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 24 من 132

الموضوع: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان


  1. #21
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    ثم قال: يعدهم ويمنيعهم فوعده: ما يصل إلى قلب الإنسان نحو: سيطول عمرك وتنال من الدنيا لذتك وستعلو على أقرانك وتظفر بأعدائك والدنيا دول ستكون لك كما كانت لغيرك ويطول أمله ويعده بالحسنى على شركه ومعاصيه ويمنيه الأماني الكاذبة على اختلاف وجوهها والفرق بين وعده وتمنيته أنه يعد الباطل ويمنى المحال والنفس المهينة التي لا قدر لها تغتذي بوعده وتمنيته كما قال القائل:
    منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
    فالنفس المبطلة الخسيسة تلتذ بالأماني الباطلة والوعود الكاذبة وتفرح بها كما يفرح بها النساء والصبيان ويتحركون لها فالأقوال الباطلة مصدرها وعد الشيطان وتمنيته فإن الشيطان يمنى أصحابها الظفر بالحق وإدراكه ويعدهم الوصول إليه من غير طريقه فكل مبطل فله نصيب من قوله: يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا
    ومن ذلك قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا [ البقرة: 268 ] قيل: يعدكم الفقر يخوفكم به يقول: إن أنفقتم أموالكم افتقرتم ويأمركم بالفحشاء قالوا: هي البخل في هذا الموضع خاصة ويذكر عن مقاتل والكلبي: كل فحشاء في القرآن فهي الزنا إلا في هذا الموضع فإنها البخل
    والصواب: أن الفحشاء على بابها وهي كل فاحشة فهي صفة لموصوف محذوف فحذف موصوفها إرادة للعموم: أي بالفعلة الفحشاء والخلة الفحشاء ومن جملتها البخل فذكر سبحانه وعد الشيطان وأمره: يأمرهم بالشر ويخوفهم من فعل الخير وهذان الأمران هما جماع ما يطلبه الشيطان من الإنسان فإنه إذا خوفه من فعل الخير تركه وإذا أمره بالفحشاء وزينها له ارتكبها وسمى سبحانه تخويفه وعد الانتظار الذي خوفه إياه كما ينتظر الموعود ما وعد به ثم ذكر سبحانه وعده على طاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وهي المغفرة
    والفضل فالمغفرة: وقاية الشر والفضل: إعطاء الخير وفي الحديث المشهور: إن للملك بقلب ابن آدم لمة وللشيطان لمة فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالوعد ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد ثم قرأ: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء الآية [ البقرة: 268 ] فالملك والشيطان يتعاقبان على القلب تعاقب الليل والنهار فمن الناس من يكون ليله أطول من نهاره وآخر بضده ومنهم من يكون زمنه نهارا كله وآخر بضده نستعيذ بالله تعالى من شر الشيطان
    فصل

    ومن كيده للإنسان: أنه يورده الموارد التي يخيل إليه أن فيها منفعته ثم يصدره المصادر التي فيها عطبه ويتخلى عنه ويسلمه ويقف يشمت به ويضحك منه فيأمره بالسرقة والزنا والقتل ويدل عليه ويفضحه قال تعالى: وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى مالا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب [ الأنفال: 48 ] فإنه تراءى للمشركين عند خروجهم إلى بدر في صورة سراقة بن مالك وقال: أنا جار لكم من بني كنانة أن يقصدوا أهلكم وذراريكم بسوء فلما رأى عدو الله جنود الله تعالى من الملائكة نزلت لنصر رسوله فر عنهم وأسلمهم كما قال حسان:
    دلاهم بغرور ثم أسلمهم... إن الخبيث لمن والاه غرار
    وكذلك فعل بالراهب الذي قتل المرأة وولدها أمره بالزنا ثم بقتلها ثم دل أهلها عليه وكشف أمره لهم ثم أمره بالسجود له فلما فعل فر عنه وتركه وفيه أنزل الله سبحانه: كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين [ الحشر: 16 ] وهذا السياق لا يختص بالذي ذكرت عنه هذه القصة بل هو عام في كل من أطاع الشيطان في أمره له بالكفر لينصره ويقضي حاجته فإنه يتبرأ منه ويسلمه كما يتبرأ من أوليائه جملة في النار ويقول لهم: إني كفرت بما أشركتمون من قبل. فأوردهم شر الموارد وتبرأ منهم كل البراءة
    وتكلم الناس في قول عدو الله إني أخاف الله فقال قتادة وابن إسحق: صدق عدو الله في قوله إني أرى ما لا ترون وكذب في قوله إني أخاف الله والله ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة فأوردهم وأسلمهم وكذلك عادة عدوالله بمن أطاعه وقالت طائفة: إنما خاف بطش الله تعالى به في الدنيا كما يخاف الكافر والفاجر أن يقتل أو يؤخذ بجرمه لا أنه خاف عقابه في الآخرة وهذا أصح وهذا الخوف لا يستلزم إيمانا ولا نجاة
    قال الكلبي: خاف أن يأخذه جبريل فيعرضهم حاله فلا يطيعونه
    وهذا فاسد فإنه إنما قال لهم ذلك بعد أن فر ونكص على عقبيه إلا أن يريد أنه إذا عرف المشركون أن الذي أجارهم وأوردهم إبليس لم يطيعوه فيما بعد ذلك وقد أبعد النجعة إن أراد ذلك وتكلف غير المراد
    وقال عطاء: إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك وهذا خوف هلاك الدنيا فلا ينفعه
    وقال الزجاج وابن الانباري: ظن أن الوقت الذي أنظر إليه قد حضر زاد ابن الانباري قال: أخاف أن يكون الوقت المعلوم الذي يزول معه إنظاري قد حضر فيقع بي العذاب فإنه لما عاين الملائكة خاف أن يكون وقت الانظار قد انقضى فقال ما قال إشفاقا على نفسه
    فصل

    ومن كيد عدو الله تعالى: أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان وقد أخبرنا الله تعالى سبحانه عنه بهذا قال: إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوفم وخافون إن كنتم مؤمنين [ آل عمران: 175 ]
    المعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه قال قتادة: يعظمهم في صدوركم ولهذا قال فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم
    ومن مكايده أنه يسحر العقل دائما حتى يكيده ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله فيزين له الفعل الذي يضره حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء وينفر من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له حتى يخيل له أنه يضره فلا إله إلا الله كم فتن بهذا السحر من إنسان وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان وكم جلا الباطل وأبرزه في صورة مستحسنة وشنع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة وكم بهرج من الزيوف على الناقدين وكم روج من الزغل على العارفين فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة والآراء المتشعبة وسلك بهم من سبل الضلال كل مسلك وألقاهم من المهالك في مهلك بعد مهلك وزين لهم عبادة الأصنام وقطيعة الأرحام ووأد البنات ونكاح الأمهات ووعدهم الفوز بالجنات مع الكفر والفسوق والعصيان وأبرز لهم الشرك في صورة التعظيم والكفر بصفات الرب تعالى وعلوه وتكلمه بكتبه في قالب التنزيه وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس وحسن الخلق معهم والعمل بقوله: عليكم أنفسكم [ المائده: 105 ] والإعراض عما جاء به الرسول في قالب التقليد والاكتفاء بقول من هو أعلم منهم والنفاق والإدهان في دين الله في قالب العقل المعيشي الذي يندرج به العبد بين الناس
    فهو صاحب الأبوين حين أخرجهما من الجنة وصاحب قابيل حين قتل أخاه وصاحب قوم نوح حين أغرقوا وقوم عاد حين أهلكوا بالريح العقيم وصاحب قوم صالح حين أهلكوا بالصيحة وصاحب الأمة اللوطية حين خسف بهم وأتبعوا بالرجم بالحجارة وصاحب فرعون وقومه حين أخذوا الأخذة الرابية وصاحب عباد العجل حين جرى عليهم ما جرى وصاحب قريش حين دعوا يوم بدر وصاحب كل هالك ومفتون
    فصل

    وأول كيده ومكره: أنه كاد الأبوين بالأيمان الكاذبة: أنه ناصح لهما وأنه إنما يريد خلودهما في الجنة قال تعالى: فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وورى عنهما من سوءاتهما وقال ما نها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ الأعراف: 20 ] فالوسوسة: حديث النفس والصوت الخفي وبه سمي صوت الحلي وسواسا ورجل موسوس بكسر الواو ولا يفتح فإنه لحن وإنما قيل له: موسوس لأن نفسه توسوس إليه قال تعالى: ونعلم ما توسوس به نفسه [ ق: 16 ]
    وعلم عدو الله أنهما إذا أكلا من الشجرة بدت لهما عوراتهما فإنها معصية والمعصية تهتك ستر ما بين الله وبين العبد فلما عصيا انهتك ذلك الستر فبدت لهما سوآتهما فالمعصية تبدي السوأة الباطنة والظاهرة ولهذا رأى النبي في رؤياه الزناة والزواني عراة بادية سوآتهم وهكذا إذا رؤي الرجل أو المرأة في منامه مكشوف السوأة فإنه يدل على فساد في دينه قال الشاعر:
    إني كأني أرى من لا حياء له... ولا أمانة وسط الناس عريانا
    فإن الله سبحانه أنزل لباسين: لباسا ظاهرا يواري العورة ويسترها ولباسا باطنا من التقوى يجمل العبد ويستره فإذا زال عنه هذا اللباس انكشفت عورته الباطنة كما تنكشف عورته الظاهرة بنزع ما يسترها
    ثم قال مانها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أي: إلا كراهة أن تكونا ملكين وكراهة أن تخلدا في الجنة ومن ههنا دخل عليهما لما عرف أنهما يريدان الخلود فيها وهذا باب كيده الأعظم الذي يدخل منه على ابن آدم فإنه يجري منه مجرى الدم حتى يصادف نفسه ويخالطه ويسألها عما تحبه وتؤثره فإذا عرفه استعان بها على العبد ودخل عليه من هذا الباب وكذلك علم إخوانه وأولياءه من الإنس إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضا أن يدخلوا عليهم من الباب الذي يحبونه ويهوونه فإنه باب لا يخذل عن حاجته من دخل منه ومن رام الدخول من غيره فالباب عليه مسدود وهو عن طريق مقصده مصدود
    فشام عدو الله الأبوين فأحس منهما إيناسا وركونا إلى الخلد في تلك الدار في النعيم المقيم فعلم أنه لا يدخل عليهما من غير هذا الباب فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين وقال: مانها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين
    وكان عبد الله بن عباس يقرؤها ملكين بكسر اللام ويقول لم يطمعا أن يكونا من الملائكة ولكن استشرفا أن يكونا ملكين فأتاهما من جهة الملك ويدل على هذه القراءة قوله في الآية الأخرى: قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى [ طه: 130 ]
    وأما على القراءة المشهورة فيقال: كيف أطمع عدو الله آدم عليه السلام أن يكون بأكله من الشجرة من الملائكة وهو يرى الملائكة لا تأكل ولا تشرب وكان آدم عليه السلام أعلم بالله وبنفسه وبالملائكة من أن يطمع أن يكون منهم بأكله ولا سيما مما نهاه الله تعالى عنه
    فالجواب: أن آدم وحواء عليهما السلام لم يطمعا في ذلك أصلا وإنما كذبهما عدو الله وغرهما بأن سمى تلك الشجرة شجرة الخلد فهذا أول المكر والكيد ومنه ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها فسموا الخمر: أم الأفراح وسموا أخاها بلقيمة الراحة وسموا الربا بالمعاملة وسمو المكوس بالحقوق السلطانية وسموا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان وسموا أبلغ الكفر وهو جحد صفات الرب تنزيها وسموا مجالس الفسوق مجالس الطيبة فلما سماها شجرة الخلد قال: مانها كما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تأكلا منها فتخلدا في الجنة ولا تموتا فتكونان مثل الملائكة الذين لا يموتون ولم يكن آدم عليه السلام قد علم أنه يموت بعد واشتهى الخلود في الجنة وحصلت الشبهة من قول العدو وإقسامه بالله جهد أيمانه أنه ناصح لهما فاجتمعت الشبهة والشهوة وساعد القدر فأخذتهما سنة الغفلة واستيقظ لهما العدو كما قيل:
    واستيقظوا وأراد الله غفلتهم... لينفذ القدر المحتوم في الأزل
    إلا أن هذا الجواب يعترض عليه قوله أو تكونا من الخالدين


  • #22
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    فيقال: الماكر المخادع لا بد أن يكون فيما يمكر به ويكيد من التناقض والباطل ما يدل على مكره وكيده ولا حاجة بنا إلى تصحيح كلام عدو الله واعتذار عنه وإنما يعتذر عن الأب في كون ذلك راج عليه وولج سمعه فهو لم يجزم لهما بأنهما إن أكلا منها صارا ملكين وإنما ردد الأمر بين أمرين: أحدهما ممتنع والآخر: ممكن وهذا من أبلغ أنواع الكيد والمكر ولهذا لما أطمعه في الأمر الممكن جزم له به ولم يردده فقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فلم يدخل أداة الشك ههنا كما أدخلها في قوله: إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين [ الأعراف: 20 ] فتأمله ثم قال: وقاسمهما إني لكما من الناصحين [ الأعراف: 21 ]
    فتضمن هذا الخبر أنواعا من التأكيد:
    أحدها: تأكيده بالقسم
    الثاني: تأكيده بإن
    الثالث: تقديم المعمول على العامل إيذانا بالاختصاص أي نصيحتي مختصة بكما وفائدتها إليكما لا إلي
    الرابع: إتيانه باسم الفاعل على الثبوت واللزوم دون الفعل الدال على التجدد: أي النصح صفتي وسجيتي ليس أمرا عارضا لي
    الخامس: إتيانه بلام التأكيد في جواب القسم السادس: أنه صور نفسه لهما ناصحا من جملة الناصحين فكأنه قال لهما: الناصحون لكما في ذلك كثير وأنا واحد منهم كما تقول لمن تأمره بشىء: كل أحد معي على هذا وأنا من جملة من يشير عليك به
    سعى نحوها حتى تجاوز حده... وكثر فارتابت ولو شاء قللا
    وورث عدو الله هذا المكر لأوليائه وحزبه عند خداعهم للمؤمنين كما كان المنافقون يقولون لرسول الله إذا جاءوه: نشهد إنك لرسول الله [ المنافقون: 1 ] فأكدوا خبرهم بالشهادة وبإن وبلام التأكيد وكذلك قوله سبحانه: ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم [ التوبة: 56 ]
    ثم قال تعالى: فدلاهما بغرور. قال أبو عبيدة: خذلهما وخلاهما من تدلية الدلو وهو إرسالها في البئر
    وذكر الأزهري لهذه اللفظة أصلين: أحدهما قال: أصله الرجل العطشان يتدلى في البئر ليروى من الماء فلا يجد فيها ماء فيكون قد تدلى فيها بالغرور فوضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدي نفعا فيقال: دلاه إذا أطمعه ومنه قول أبي جندب الهذلي:
    أحص فلا أجير ومن أجره... فليس كمن تدلى بالغرور أحص: أي أقطع
    الثاني: فدلاهما بغرور أي جرأهما على أكل الشجرة وأصله: دللهما من الدلال والدالة وهي الجراءة قال شمر: يقال: مادللك علي: أي ماجرأك علي وأنشد لقيس ابن زهير:
    أظن الحلم دل علي قومي... وقد يستجهل الرجل الحليم
    قلت: أصل التدلية في اللغة الإرسال والتعليق يقال: دلى الشىء في مهواة إذا أرسله بتعليق وتدلى الشيء بنفسه ومنه قوله تعالى: فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه [ يوسف: 19 ] قال عامة أهل اللغة يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر ودلاها بالتخفيف إذا نزعها من البئر فأدلى دلوه يدليه إدلاء إذا أرسلها ودلاها يدلوها دلوا إذا نزعها وأخرجها ومنه الإدلاء وهو التوصل إلى الرجل برحم منه ويشاركه في الاشتقاق الأكبر الدلالة وهي التوصل إلى الشيء بإبانته وكشفه ومنه الدل وهو ما يدل على العبد من أفعاله وكان عبد الله ابن مسعود يشبه برسول الله في هديه ودله وسمته فالهدى الطريقة التي عليها العبد من أخلاقه وأعماله والدل ما يدل من ظاهره على باطنه والسمت هيأته ووقاره ورزانته
    والمقصود: ذكر كيد عدو الله ومكره بالأبوين
    قال مطرف بن عبد الله: قال لهما إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما وحلف لهما وإنما يخدع المؤمن بالله قال قتادة: وكان بعض أهل العلم يقول: من خادعنا بالله خدعنا فالمؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم وفي الصحيح أن عيسى بن مريم عليه السلام رأى رجلا يسرق فقال: سرقت فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو فقال المسيح: آمنت بالله وكذبت بصري
    وقد تأوله بعضهم على أنه لما حلف له جوز أن يكون قد أخذ من ماله فظنه المسيح سرقة وهذا تكلف وإنما كان الله سبحانه وتعالى في قلب المسيح عليه السلام أجل وأعظم من أن يحلف به أحد كاذبا فلما حلف له السارق دار الأمر بين تهمته وتهمة بصره فرد التهمة إلى بصره لما اجتهد له في اليمين كما ظن آدم عليه السلام صدق إبليس لما حلف له بالله تعالى وقال: ما ظننت أحدا يحلف بالله تعالى كاذبا
    فصل

    ومن كيده العجيب: أنه يشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة
    فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به وثقله عليه فهون عليه تركه حتى يتركه جملة أو يقصر فيه ويتهاون به وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به ويوهمه أنه لا يكفيه وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة فيقصر بالأول ويتجاوز الثاني كما قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير وإما إلى مجاوزة وغلو ولا يبالي بأيهما ظفر
    وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين: وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله وأصحابه
    فقوم قصر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد بالوسواس
    وقوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا كلا على الناس مستشرفين إلى ما بأيديهم
    وقوم قصر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم
    وكذلك قصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم
    وقصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام
    وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور او شاة ليأكله وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة
    وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به
    وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص
    وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة رسول الله من النكاح فرغبوا عنه بالكلية وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام
    وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح وأعرضوا عنهم ولم يقوموا بحقهم وتجاوز بأخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى
    وكذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله الصحيحة الصريحة
    وقصر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده ولا شاءها منهم ولكنهم يعملونها بدون مشيئة الله تعلى وقدرته وتجاوز بآخرين حتى قالوا: إنهم لا يفعلون شيئا البته وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقة فهي نفس فعله لا أفعالهم والعبيد ليس لهم قدرة ولا فعل ألبتة
    وقصر بقوم حتى قالوا: إن رب العالمين ليس داخلا في خلقه ولا بائنا عنهم ولا هو فوقهم ولا تحتهم ولا خلفهم ولا أمامهم ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم وتجاوز بآخرين حتى قالوا: هو في كل مكان بذاته كالهواء الذي هو داخل في كل مكان
    وقصر بقوم حتى قالوا: لم يتكلم الرب سبحانه بكلمة واحدة البتة وتجاوز بآخرين حتى قالوا: لم يزل أزلا وأبدا قائلا: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ويقول لموسى اذهب إلى فرعون فلا يزال هذا الخطاب قائما به ومسموعا منه كقيام صفة الحياة به
    وقصر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يشفع أحدا في أحد البته ولا يرحم أحدا بشفاعة أحد وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم
    وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل فضلا عن أبي بكر وعمر وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة
    وقصر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطلوه منها وتجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقة ومثلوه بهم وقصر بقوم حتى عادوا أهل بيت رسول الله وقاتلوهم واستحلوا حرمتهم وتجاوز بقوم حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة: من العصمة وغيرها وربما ادعوا فيهم الإلهية
    وكذلك قصر باليهود في المسيح حتى كذبوه ورموه وأمه بما برأهما الله تعالى منه وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله وجعلوه إلها يعبد مع الله
    وقصر بقوم حتى نفوا الأسباب والقوى والطبائع والغرائز وتجاوز بآخرين حتى جعلوها أمرا لازما لا يمكن تغييره ولا تبديله وربما جعلها بعضهم مستقلة بالتأثير
    وقصر بقوم حتى تعبدوا بالنجاسات وهم النصاري وأشباههم وتجاوز بقوم حتى أفضى بهم الوسواس إلى الآصار والأغلال وهم أشباه اليهود
    وقصر بقوم حتى تزينوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السيئة ما يسقطون به جاههم عندهم وسموا أنفسهم الملامتية
    وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها وعدوها فضلا أو فضولا وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم عليها ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح وقالوا: العارف لا يسقط وارده لورده
    وهذا باب واسع جدا لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيرا وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة


  • #23
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    فصل

    ومن حيله ومكايده: الكلام الباطل والآراء المتهافتة والخيالات المتناقضة التي هي زبالة الأذهان ونحاتة الأفكار والزبد الذي يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة التي تعدل الحق بالباطل والخطأ بالصواب قد تقاذفت بها أمواج الشبهات وزانت عليها غيوم الخيالات فمركبها القيل والقال والشك والتشكيك وكثرة الجدال ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا وقالوا من عند أنفسهم فقالوا منكرا من القول وزورا فهم في شكهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال فهم إليه يحاكمون وبه يتخاصمون فارقوا الدليل واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
    فصل

    ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين: أن ألقى على ألسنتهم أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين وأوحى إليهم أن القواطع العقلية والبراهين اليقينية في المناهج الفلسفية والطرق الكلامية فحال بينهم وبين اقتباس الهدى واليقين من مشكاة القرآن وأحالهم على منطق يونان وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العرية عن البرهان وقال لهم: تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان ومرت عليها القرون والأزمان فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان كإخراج الشعرة من العجين
    فصل

    ومن كيده: ما ألقاه إلى جهال المتصوفة من الشطح والطامات وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات فأوقعهم في أنواع الأباطيل والترهات وفتح لهم أبواب الدعاوي الهائلات وأوحى إليهم: أن وراء العلم طريقا إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العيان وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها وتصفية الأخلاق والتجافي عما عليه أهل الدنيا وأهل الرياسة والفقهاء وأرباب العلوم والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شيء حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلم فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الباطل وخيله للنفس حتى جعله كالمشاهد كشفا وعيانا فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر ولنا الكشف الباطن ولكم ظاهر الشريعة وعندنا باطن الحقيقة ولكم القشور ولنا اللباب فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل من النهار ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات وأوهمهم أنها من الآيات البينات وأنها من قبل الله سبحانه إلهامات وتعريفات فلا تعرض على السنة والقرآن ولا تعامل إلا بالقبول والإذعان
    فلغير الله لا له سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات وأنواع الهذيان وكلما ازدادوا بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم
    فصل

    ومن أنواع مكايده ومكره: أن يدعو العبد بحسن خلقه وطلاقته وبشره إلى أنواع من الآثام والفجور فيلقاه من لا يخلصه من شره إلا تجهمه والتعبيس في وجهه والإعراض عنه فيحسن له العدو أن يلقاه ببشره وطلاقة وجهه وحسن كلامه فيتعلق به فيروم التخلص منه فيعجز فلا يزال العدو يسعى بينهما حتى يصيب حاجته فيدخل على العبد بكيده من باب حسن الخلق وطلاقة الوجه ومن ههنا وصى أطباء القلوب بالإعراض عن أهل البدع وأن لا يسلم عليهم ولا يريهم طلاقة وجهه ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض
    وكذلك أوصوا عند لقاء من يخاف الفتنة بلقائه من النساء والمردان وقالوا: متى كشفت للمرأة أو الصبي بياض أسنانك كشفا لك عما هنا لك ومتى لقيتهما بوجه عابس وقيت شرهما
    ومن مكايده: أنه يأمرك أن تلقى المساكين وذوي الحاجات بوجه عبوس ولا تريهم بشرا ولا طلاقة فيطمعوا فيك ويتجرأوا عليك وتسقط هيبتك من قلوبهم فيحرمك صالح أدعيتهم وميل قلوبهم إليك ومحبتهم لك فيأمرك بسوء الخلق ومنع البشر والطلاقة مع هؤلاء وبحسن الخلق والبشر مع أولئك ليفتح لك باب الشر ويغلق عنك باب الخير
    فصل

    ومن مكايده أنه يأمرك بإعزاز نفسك وصونها حيث يكون رضى الرب تعالى في إذلالها وابتذالها كجهاد الكفار والمنافقين وأمر الفجار والظلمة بالمعروف ونهيهم عن المنكر فيخيل إليك أن ذلك تعريض لنفسك إلى مواطن الذل وتسليط الأعداء وطعنهم فيك فيزول جاهك فلا يقبل منك بعد ذلك ولا يسمع منك
    ويأمرك بإذلالها وامتهانها حيث تكون مصلحتها في إعزازها وصيانتها كما يأمرك بالتبذل لذوي الرياسات وإهانة نفسك لهم ويخيل إليك أنك تعزها بهم وترفع قدرها بالذل لهم ويذكرك قول الشاعر:
    أهين لهم نفسي لأرفعها بهم... ولن تكرم النفس التي لا تهينها
    وغلط هذا القائل: فإن ذلك لا يصلح إلا لله وحده فإنه كلما أهان العبد نفسه له أكرمه وأعزه بخلاف المخلوق فإنك كلما أهنت نفسك له ذللت عند الله وعند أوليائه وهنت عليه
    فصل

    ومن كيده وخداعه: أنه يأمر الرجل بانقطاعه في مسجد أو رباط أو زاوية أو تربة ويحبسه هناك وينهاه عن الخروج ويقول له: متى خرجت تبذلت للناس وسقطت من أعينهم وذهبت هيبتك من قلوبهم وربما ترى في طريقك منكرا وللعدو في ذلك مقاصد خفية يريدها منه: منها الكبر واحتقار الناس وحفظ الناموس وقيام الرياسة ومخالطة الناس تذهب ذلك وهو يريد أن يزار ولا يزور ويقصده الناس ولا يقصدهم ويفرح بمجيء الأمراء إليه واجتماع الناس عنده وتقبيل يده فيترك من الواجبات والمستحبات والقربات ما يقربه إلى الله ويتعوض عنه بما يقرب الناس إليه
    وقد كان رسول الله يخرج إلى السوق قال بعض الحفاظ: وكان يشتري حاجته ويحملها بنفسه ذكره أبو الفرج ابن الجوزي وغيره
    وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج إلى السوق يحمل الثياب فيبيع ويشتري
    ومر عبد الله بن سلام رضي الله عنه وعلى رأسه حزمة حطب فقيل له: ما يحملك على هذا وقد أغناك الله تعالى فقال: أردت أن أدفع به الكبر فإني سمعت رسول الله يقول: لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من الكبر
    وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يحمل الحطب وغيره من حوائج نفسه وهو أمير على المدينة ويقول: افسحوا لأميركم افسحوا لأميركم
    وخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما وهو خليفة في حاجة له ماشيا فأعيى فرأى غلاما على حمار له فقال: يا غلام احملني فقد أعييت فنزل الغلام عن الدابة وقال: اركب يا أمير المؤمنين فقال: لا، اركب أنت وأنا خلفك. فركب خلف الغلام حتى دخل المدينة والناس يرونه
    فصل

    ومن كيده: أنه يغري الناس بتقبيل يده والتمسح به والثناء عليه وسؤاله الدعاء ونحو ذلك حتى يرى نفسه ويعجبه شأنه فلو قيل له: إنك من أوتاد الأرض وبك يدفع البلاء عن الخلق ظن ذلك حقا وربما قيل له: إنه يتوسل به إلى الله تعالى ويسأل الله تعالى به وبحرمته فيقضي حاجتهم فيقع ذلك في قلبه ويفرح به ويظنه حقا وذلك كل الهلاك فإذا رأى من أحد من الناس تجافيا عنه أو قلة خضوع له تذمر لذلك ووجد في باطنه وهذا شر من أرباب الكبائر المصرين عليها وهم أقرب إلى السلامة منه
    فصل

    ومن كيده: أنه يحسن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العمل بها جسهم وواقعهم دون تحكيم أمر الشارع ويقولون: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسه وخواطره معصومة من الخطأ وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم
    فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحمانية وشيطانية ونفسانية كالرؤيا فلو بلغ العبد من الزهد والعبادة ما بلغ فمعه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت والشيطان يجري منه مجرى الدم والعصمة إنما هي للرسل صلوات الله وسلامه عليهم الذين هم وسائط بين الله تعالى وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده ومن عداهم يصيب ويخطىء وليس بحجة على الخلق
    وقد كان سيد المحدثين الملهمين: عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول الشيء فيرده عليه من هو دونه فيتبين له الخطأ فيرجع إليه وكان يعرض هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة ولا يلتفت إليها ولا يحكم بها ولا يعمل بها
    وهؤلاء الجهال يرى أحدهم أدنى شيء فيحكم هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة ولا يلتفت إليهما ويقول: حدثني قلبي عن ربي ونحن أخذنا عن الحي الذي لا يموت وأنتم أخذتم عن الوسائط ونحن أخذنا بالحقائق وأنتم اتبعتم الرسوم وأمثال ذلك من الكلام الذي هو كفر وإلحاد وغاية صاحبه أن يكون جاهلا يعذر بجهله حتى قيل لبعض هؤلاء: لا تذهب فتسمع الحديث من عبد الرزاق فقال: ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الملك الخلاق
    وهذا غاية الجهل فإن الذي سمع من الملك الخلاق موسى بن عمران كليم الرحمن وأما هذا وأمثاله فلم يحصل لهم السماع من بعض ورثة الرسول وهو يدعي أنه يسمع الخطاب من مرسله فيستغني به عن ظاهر العلم ولعل الذي يخاطبهم هو الشيطان أو نفسه الجاهلة أو هما مجتمعين ومنفردين ومن ظن أنه يستغني عما جاء به الرسول بما يلقى في قلبه من الخواطر والهواجس فهو من أعظم الناس كفرا وكذلك إن ظن أنه يكتفي بهذا تارة وبهذا تارة فما يلقي في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان
    وقد سئل عبد الله بن مسعود عن مسئلة المفوضة شهرا فقال بعد الشهر: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله برىء منه ورسوله وكتب كاتب لعمر رضي الله عنه بين يديه: هذا ما أرى الله عمر فقال: لا امحه واكتب: هذا ما رأى عمر
    وقال عمر رضي الله عنه أيضا: أيها الناس اتهموا الرأى على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله عليه السلام لرددته
    واتهام الصحابة لآرائهم كثير مشهور وهم أبر الأمة قلوبا وأعمقها علما وأبعدها من الشيطان فكانوا أتبع الأمة للسنة وأشدهم اتهاما لآرائهم وهؤلاء ضد ذلك
    وأهل الاستقامة منهم سلكوا على الجادة ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات حتى يقوم عليها شاهدان
    قال الجنيد: قال أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة
    وقال أبو يزيد: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يتربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا: كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود
    وقال أيضا: من ترك قراءة القرآن ولزوم الجماعات وحضور الجنائز وعيادة المرضى وادعى بهذا الشأن فهو مدع
    وقال سري السقطى: من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط
    وقال الجنيد: مذهبنا هذا مقيد بالأصول بالكتاب والسنة فمن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ويتفقه لا يقتدى به
    وقال أبو بكر الدقاق: من ضيع حدود الأمر والنهي في الظاهر حرم مشاهدة القلب في الباطن
    وقال أبو الحسين النوري من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربه ومن رأيته يدعي حالة لا يشهد لها حفظ ظاهره فاتهمه على دينه
    وقال الجريري: أمرنا هذا كله مجموع على فصل واحد: أن تلزم قلبك المراقبة ويكون العلم على ظاهرك قائما
    وقال أبو حفص الكبير الشان: من لم يزن أحواله وأفعاله بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعدوه في ديوان الرجال
    وما أحسن ما قال أبو أحمد الشيرازي: كان الصوفية يسخرون من الشيطان والآن الشيطان يسخر منهم


  • #24
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    ونظير هذا ما قاله بعض أهل العلم: كان الشيطان فيما مضى يهب من الناس واليوم الرجل الذي يهب من الشيطان
    فصل

    ومن كيده: أمرهم بلزوم زي واحد ولبسة واحدة وهيئة ومشية معينة وشيخ معين وطريقة مخترعة ويفرض عليهم لزوم ذلك بحيث يلزمونه كلزوم الفرائض فلا يخرجون عنه ويقدحون فيمن خرج عنه ويذمونه وربما يلزم أحدهم موضعا معينا للصلاة لا يصلي إلا فيه وقد نهى رسول الله ص أن يوطن الرجل المكان للصلاة كما يوطن البعير وكذلك ترى أحدهم لا يصلي إلا على سجاده ولم يصل عليه السلام على سجادة قط ولا كانت السجادة تفرش بين يديه بل كان يصلي على الأرض وربما سجد في الطين وكان يصلي على الحصير فيصلي على ما اتفق بسطه فإن لم يكن ثمة شيء صلى على الأرض
    وهؤلاء اشتغلوا بحفظ الرسوم عن الشريعة والحقيقة فصاروا واقفين مع الرسوم المبتدعة ليسوا مع أهل الفقه ولا مع أهل الحقائق فصاحب الحقيقة أشد شيء عليه التقيد بالرسوم الوضعية وهي من أعظم الحجب بين قلبه وبين الله فمتى تقيد بها حبس قلبه عن سيره وكان أخس أحواله الوقوف معها ولا وقوف في السير بل إما تقدم وإما تأخر كما قال تعالى: لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر [ المدثر: 37 ] فلا وقوف في الطريق إنما هو ذهاب وتقدم أو رجوع وتأخر
    ومن تأمل هدي رسول الله وسيرته وجده مناقضا لهدي هؤلاء فإنه كان يلبس القميص تارة والقباء تارة والجبة تارة والإزار والرداء تارة ويركب البعير وحده ومردفا لغيره ويركب الفرس مسرجا وعريانا ويركب الحمار ويأكل ما حضر ويجلس على الأرض تارة وعلى الحصير تارة وعلى البساط تارة ويمشي وحده تارة ومع أصحابه تارة وهديه عدم التكلف والتقيد بغير ما أمره به ربه فبين هديه وهدي هؤلاء بون بعيد
    فصل

    ومن كيده الذي بلغ به من الجهال ما بلغ: الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية حتى ألقاهم في الآصار والأغلال وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله ص وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد والتعب الحاضر وبطلان الأجر أو تنقيصه
    ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس: فأهله قد أطاعوا الشيطان ولبوا دعوته واتبعوا أمره ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله وطريقته حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله أو اغتسل كاغتساله لم يطهر ولم يرتفع حدثه ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول فقد كان رسول الله يتوضأ بالمدع وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقي ويغتسل بالصاع وهو نحو رطل وثلث والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة ولم يزد على ثلاث بل أخبر أن: من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم فالموسوس مسيء متعد ظالم بشهادة رسول الله ص فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسىء به متعد فيه لحدوده
    وصح عنه أنه كان يغتسل هو وعائشة رضي الله عنها من قصعة بينهما فيها أثر العجين ولو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار وقال: ما يكفي هذا القدر لغسل اثنين كيف والعجين يحلله الماء فيغيره هذا والرشاش ينزل في الماء فينجسه عند بعضهم ويفسده عند آخرين فلا تصح به الطهارة وكان ص يفعل ذلك مع غير عائشة مثل ميمونة وأم سلمة وهذا كله في الصحيح
    وثبت أيضا في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: كان الرجال والنساء على عهد رسول الله ص يتوضئون من إناء واحد والآنية التي كان عليه السلام وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية ولا كانت لها مادة تمدها كأنبوب الحمام ونحوه ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجري الماء من حافاتها كما يراعيه جهال الناس ممن بلى بالوسواس في جرن الحمام
    فهدي رسول الله ص الذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته جواز الاغتسال من الحياض والآنية وإن كانت ناقصة غير فائضة ومن انتظر الحوض حتى يفيض ثم استعمله وحده ولم يمكن أحدا أن يشاركه في استعماله فهو مبتدع مخالف للشريعة
    قال شيخنا: ويستحق التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ويعبدوا الله بالبدع لا بالاتباع
    ودلت هذه السنن الصحيحة على أن النبي ص وأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان
    قال سعيد بن المسيب: إني لاستنجي من كوز الحب وأتوضأ وأفضل منه لأهلي
    وقال الإمام أحمد: من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء
    وقال المروزى: وضأت أبا عبد الله بالعسكر فسترته من الناس لئلا يقولوا إنه لايحسن الوضوء لقلة صبه الماء
    وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى
    وثبت عنه في الصحيح: أنه توضأ من إناء فأدخل يده فيه ثم تمضض واستنشق وكذلك كان في غسله يدخل يده في الإناء ويتناول الماء منه والموسوس لا يجوز ذلك ولعله أن يحكم بنجاسة الماء ويسلبه طهوريته بذلك
    وبالجملة فلا تطاوعه نفسه لاتباع رسول الله وأن يأتي بمثل ما أتى به أبدا وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفرق قريبا من خمسة أرطال بالدمشقي يغمسان أيديهما فيه ويفرغان عليهما فالمسوس يشمئز من ذلك كما يشمئز إذا ذكر الله وحده
    قال أصحاب الوسواس: إنما حملنا على ذلك الاحتياط لديننا والعمل بقوله دع ما يريبك إلى مالا يريبك وقوله: من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه: وقوله الإثم ما حاك في الصدر
    وقال بعض السلف: الإثم حور القلوب وقد وجد النبي تمرة فقال لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها أفلا يرى أنه ترك أكلها احتياطا

  • صفحة 6 من 33 الأولىالأولى ... 4567816 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 7 (0 من الأعضاء و 7 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. حوار مع الشيطان
      بواسطة king-of-nothing في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 08-03-2010, 11:35 PM
    2. الشيطان
      بواسطة SHARIEF FATTOUH في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 7
      آخر مشاركة: 07-19-2010, 06:06 PM
    3. كن مثل الشيطان
      بواسطة nano في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 1
      آخر مشاركة: 07-11-2010, 10:47 PM
    4. الكبرياء خلة الشيطان
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 07-06-2010, 02:25 AM
    5. الشيطان المثقف !!!
      بواسطة سوسن في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 7
      آخر مشاركة: 05-01-2010, 11:30 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1