









فصل
ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان حتى اتصفوا بوسوسته وقبلوا قوله وأطاعوه ورغبوا عن اتباع رسول الله ص وصحابته حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأوضوء رسول الله ص أو صلى كصلاته فوضوؤه باطل وصلاته غير صحيحة ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله ص في مواكلة الصبيان وأكل طعام عامة المسلمين أنه قد صار نجسا يجب عليه تسبيع يده وفمه كما لو ولغ فيهما أو بال عليهما هر
ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون ويقارب مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات والأمور المحسوسات وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره ويكبر ويقرأ بلسانه بحيث تسمعه أذناه ويعلمه بقلبه بل يعلمه غيره منه ويتيقنه ثم يشك هل فعل ذلك أم لا وكذلك يشككه الشيطان في نيته وقصده التي يعملها من نفسه يقينا بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله ومع هذا يقبل قول إبليس في أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها مكابرة منه لعيانه وجحدا ليقين نفسه حتى تراه متلددا متحيرا كأنه يعالج شيئا يجتذبه أو يجد شيئا في باطنه يستخرجه كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس وقبول وسوسته ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية في طاعته
ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه ويطيعه في الإضرار بجسده تارة بالغوص في الماء البارد وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك وربما فتح عينيه في الماء البارد وغسل داخلهما حتى يضر ببصره وربما أفضى إلى كشف عورته للناس وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزيء به من يراه
قلت ذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل أن رجلا قال له أنغمس في الماء مرارا كثيرة وأشك هل صح لي الغسل أم لا فما ترى في ذلك فقال له الشيخ اذهب فقد سقطت عنك الصلاة قال وكيف قال لأن النبي ص قال رفع القلم عن ثلاثة المجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ والصبي حتى يبلغ ومن ينغمس في الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون
قال وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة وربما فاته الوقت ويشغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى وربما فوت عليه ركعة أو أكثر ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا ثم يكذب
قلت وحكى لي من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنا يكرر عقد النية مرارا عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة فلم يدعه إبليس حتى زاد ففرق بينه وبين امرأته فأصابه لذلك غم شديد وأقاما متفرقين دهرا طويلا حتى تزوجت تلك المرأة برجل آخر وجاءه منها ولد ثم إنه حنث في يمين حلفها ففرق بينهما وردت إلى الأول بعد أن كاد يتلف لمفارقتها
وبلغني عن آخر أنه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك فاشتد به التنطع والتقعر يوما إلى أن قال أصلى أصلى مرارا صلاة كذا وكذا وأراد أن يقول أداء فأعجم الدال وقال أذاء لله فقطع الصلاة رجل إلى جانبه فقال ولرسوله وملائكته وجماعة المصلين
قال ومنهم من يتوسوس في إخراج الحرف حتى يكرره مرارا
قال فرأيت منهم من يقول الله أكككبر قال وقال لي إنسان منهم قد عجزت عن قول السلام عليكم فقلت له قل مثل ما قد قلت الآن وقد استرحت
وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل الآخرة وأخرجهم عن اتباع الرسول وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو وهم يحسنون صنعا
فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله ص في قوله وفعله وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته ويوقن أنه عدو له لا يدعوه إلى خير إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وليترك التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله ص كائنا ما كان فإنه لا يشك أن رسول الله ص كان على الصراط المستقيم ومن شك في هذا فليس بمسلم ومن علمه فإلى أين العدول عن سنته وأي شيء يبتغي العبد غير طريقته ويقول لنفسه ألست تعلمين أن طريقة رسول الله ص هي الصراط المستقيم فإذا قالت له بلى قال لها فهل كان يفعل هذا فستقول لا فقل لها فماذا بعد الحق إلا الضلال وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان فإن اتبعت سبيله كنت قرينه وستقولين يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله ص فليقتد بهم وليختر طريقهم فقد روينا عن بعضهم أنه قال لقد تقدمني قوم لو لم يجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته
قلت هو إبراهيم النخعي
وقال زين العابدين يوما لابنه يا بني اتخذ لي ثوبا ألبسه عند قضاء الحاجة فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب ثم انتبه فقال ما كان للنبيوأصحابه إلا ثوب واحد فتركه
وكان عمر رضي الله تعالى عنه يهم بالأمر ويعزم عليه فإذا قيل له لم يفعله رسول الله ص انتهى حتى إنه قال لقد هممت أن أنهى عن لبس هذه الثياب فإنه قد بلغني أنها تصبغ ببول العجائز فقال له أبي مالك أن تنهى فإن رسول الله ص قد لبسها ولبست في زمانه ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله ص فقال عمر صدقت
ثم ليعلم أن الصحابة ما كان فيهم موسوس ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته وهم خير الخلق وأفضلهم ولو أدرك رسول الله ص الموسوسين لمقتهم ولو أدركهم عمر رضي الله تعالى عنه لضربهم وأدبهم ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم وها أنا أذكر ما جاء في خلاف مذهبهم على ما يسره الله تعالى مفصلا
الفصل الأول في النية في الطهارة والصلاة
النية هي القصد والعزم على فعل الشيء ومحلها القلب لا تعلق لها باللسان أصلا ولذلك لم ينقل عن النبي ص ولا عن أصحابه في النية لفظ بحال ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك وهذه العبارات التي أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركا لأهل الوسواس يحسبهم عندها ويعذبهم فيها ويوقعهم في طلب تصحيحها فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في التلفظ بها وليست من الصلاة في شيء وإنما النية قصد فعل الشيء فكل عازم على فعل فهو ناويه لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها فلا يمكن عدمها في حال وجودها ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة ولا يكاد العاقل يفعل شيئا من العبادات ولا غيرها بغير نية فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل ولو أراد إخلاء أفعاله الإختيارية عن نية لعجز عن ذلك ولو كلفه الله تعالى الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه ما لا يطيق ولا يدخل تحت وسعه وما كان هكذا فما وجه التعب في تحصيله وإن شك في حصول نيته فهو نوع جنون فإن علم الإنسان بحال نفسه أمر يقيني فكيف يشك فيه عاقل من نفسه ومن قام ليصلي صلاة الظهر خلف الإمام فكيف يشك في ذلك ولو دعاه داع إلى شغل في تلك الحال لقال إني مشتغل أريد صلاة الظهر ولو قال له قائل في وقت خروجه إلى الصلاة أين تمضي لقال أريد صلاة الظهر مع الإمام فكيف يشك عاقل في هذا من نفسه وهو يعلمه يقينا
بل أعجب من هذا كله أن غيره يعلم بنيته بقرائن الأحوال فإنه إذا رأى إنسانا جالسا في الصف في وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة وإذا رآه قد قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها علم أنه إنما قام ليصلي فإن تقدم بين يدي المأمومين علم أنه يريد إمامتهم فإن رآه في الصف علم أنه يريد الإئتمام
قال فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال فكيف يجهلها من نفسه مع اطلاعه هو على باطنه فقبوله من الشيطان أنه ما نوى تصديق له في جحد العيان وإنكار الحقائق المعلومة يقينا ومخالفة للشرع ورغبة عن السنة وعن طريق الصحابة
ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها والموجودة لا يمكن إيجادها لأن من شرط إيجاد الشيء كونه معدوما فإن إيجاد الموجود محال وإذا كان كذلك فما يحصل له بوقوفه شيء ولو وقف ألف عام
قال ومن العجب أنه يتوسوس حال قيامه حتى يركع الإمام فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعا وأدركه فمن لم يحصل النية في الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يحصلها في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة
ثم ما يطلبه إما أن يكون سهلا أو عسيرا فإن كان سهلا فكيف يعسره وإن كان عسيرا فكيف تيسر عند ركوع الإمام سواء وكيف خفى ذلك على النبيوصحابته من أولهم إلى آخرهم والتابعين ومن بعدهم وكيف لم ينتبه له سوى من استحوذ عليه الشيطان أفيظن بجهله أن الشيطان ناصح له أما علم أنه لا يدعو إلى هدى ولا يهدي إلى خير وكيف يقول في صلاة رسول الله
وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعل هذا الموسوس أهي ناقصة عنده مفضولة أم هي التامة الفاضلة فما دعاه إلى مخالفتهم والرغبة عن طريقهم
فإن قال هذا مرض بليت به قلنا نعم سببه قبولك من الشيطان ولم يعذر الله تعالى أحدا بذلك ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أخرجا من الجنة ونودي عليهما بما سمعت وهما أقرب إلى العذر لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران به وأنت قد سمعت وحذرك الله تعالى من فتنته وبين لك عداوته وأوضح لك الطريق فمالك عذر ولا حجة في ترك السنة والقبول من الشيطان
قلت قال شيخنا ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعل رسول اللهولا أحد من أصحابه واحدة منها فيقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم نويت أصلي صلاة الظهر فريضة الوقت أداء لله تعالى إماما أو مأموما أربع ركعات مستقبل القبلة ثم يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عنقه ويصرخ بالتكبير كأنه يكبر على العدو ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله
أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك لما ظفر به إلا أن يجاهر بالكذب البحت فلو كان في هذا خير لسبقونا ولدلونا عليه فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)