









وقال محمد بن قتيبة في مشكل القرآن: وقد كان الناس يقرؤن القرآن بلغاتهم ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة ولا علم التكلف فهفوا في كثير من الحروف وذلوا فأخلوا ومنهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح وقربه من القلوب بالدين فلم أر فيمن تتبعت في وجوه قراءته أكثر تخليطا ولا أشد اضطرابا منه لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره ثم يؤصل أصلا ويخالف إلى غيره بغير علة ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز بإفراطه في المد والهمز والإشباع وإفحاشه في الإضجاع والإدغام وحمله المتعلمين على المذهب الصعب وتعسيره على الأمة ما يسره الله تعالى وتضييقه ما فسحه ومن العجب أنه يقرىء الناس بهذه المذاهب ويكره الصلاة بها ففي أي موضع يستعمل هذه القراءة إن كانت الصلاة لا تجوز بها وكان ابن عيينة يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه أو ائتم بإمام يقرأ بقراءته أن يعيد ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين منهم بشر بن الحارث والإمام أحمد بن حنبل وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقتهم وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها وطول اختلاف المتعلم إلى المقرىء فيها فإذا رأوه قد اختلف في أم الكتاب عشرا وفي مائة آية شهرا وفي السبع الطوال حولا ورأوه عند قراءته مائل الشدقين دار الوريدين راشح الجبين توهموا أن ذلك لفضله في القراءة وحذقه بها وليس هكذا كانت قراءة رسول اللهولا خيار السلف ولا التابعين ولا القراء العالمين بل كانت سهلة رسلة
وقال الخلال في الجامع: عن أبي عبد الله إنه قال: لا أحب قراءة فلان يعني هذا الذي أشار إليه ابن قتيبة وكرهها كراهية شديدة وجعل يعجب من قراءته وقال: لا يعجبني فإن كان رجل يقبل منك فانهه
وحكى عن ابن المبارك عن الربيع بن أنس: أنه نهاه عنها
وقال الفضل بن زياد: إن رجلا قال لأبي عبد الله: فما أترك من قراءته قال: الإدغام والكسر ليس يعرف في لغة من لغات العرب
وسأله عبد الله ابنه عنها فقال: أكره الكسر الشديد والإضجاع
وقال في موضع آخر: إن لم يدغم ولم يضجع ذلك الإضجاع فلا بأس به
وسأله الحسن بن محمد بن الحارث: أتكره أن يتعلم الرجل تلك القراءة قال أكرهه أشد كراهة إنما هي قراءة محدثة وكرهها شديدا حتى غضب
وروى عنه ابن سنيد أنه سئل عنها فقال: أكرهها أشد الكراهة قيل له: ما تكره منها قال: هي قراءة محدثة ما قرأ بها أحد
وروى جعفر بن محمد عنه أنه سئل عنها فكرهها وقال: كرهها ابن إدريس وأراه قال: وعبد الرحمن بن مهدي وقال: ما أدري إيش هذه القراءة ثم قال: وقراءتهم ليست تشبه كلام العرب
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو صليت خلف من يقرأ بها لأعدت الصلاة
ونص أحمد رحمه الله على أنه يعيد وعنه رواية أخرى: أنه لا يعيد
والمقصود: أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو في النطق بالحرف
ومن تأمل هدي رسول اللهوإقراراه أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق والوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته
فصل في الجواب عما احتج به أهل الوسواس
أما قولهم: إن ما نفعله احتياط لا وسواس
قلنا: سموه ما شئتم فنحن نسألكم: هل هو موافق لفعل رسول اللهوأمره وما كان عليه أصحابه أو مخالف
فإن زعمتم أنه موافق فبهت وكذب صريح فإذن لابد من الإقرار بعدم موافقته وأنه مخالف له فلا ينفعكم تسمية ذلك احتياطا وهذا نظير من ارتكب محظورا وسماه بغير اسمه كما يسمي الخمر بغير اسمها والربا معاملةوالتحليل الذي لعن رسول اللهفاعله: نكاحا ونقر الصلاة الذي أخبر رسول الله
أن فاعله لم يصل وأنه لا تجزيه صلاته ولا يقبلها الله تعالى منه: تخفيفا فهكذا تسمية الغلو في الدين والتنطع احتياطا.
وينبغي أن يعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه: الاحتياط في موافقة السنة وترك مخالفتها فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك
وكذلك المتسرعون إلى وقوع الطلاق في موارد النزاع الذي اختلف فيه الأئمة كطلاق المكره وطلاق السكران والبتة وجمع الثلاث والطلاق بمجرد النية والطلاق المؤجل المعلوم مجيء أجله واليمين بالطلاق وغير ذلك مما تنازع فيه العلماء إذا أوقعه المفتي تقليدا بغير برهان وقال: ذلك احتياط للفروج فقد ترك معنى الاحتياط فإنه يحرم الفرج على هذا ويبيحه لغيره فأين الاحتياط ههنا بل لو أبقاه على حاله حتى تجمع الأمة على تحريمه وإخراجه عمن هو حلال له أو يأتي برهان من الله ورسوله على ذلك لكان قد عمل بالاحتياط ونص على مثل ذلك الإمام أحمد في طلاق السكران
فقال في رواية أبي طالب: والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر بالطلاق فقد أتى خصلتين: حرمها عليه وأحلها لغيره فهذا خير من هذا فلا يمكن الاحتياط في وقوع الطلاق إلا حيث أجمعت الأمة أو كان هناك نص عن الله ورسوله يجب المصير إليه
قال شيخنا: والاحتياط حسن ما لم يفض بصاحبه إلى مخالفة فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط
وبهذا خرج الجواب عن احتجاجهم بقولهمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه وقوله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقوله الإثم ما حاك في الصدر فهذا كله من أقوى الحجج على بطلان الوسواس فإن الشبهات ما يشتبه فيه الحق بالباطل والحلال بالحرام على وجه لا يكون فيه دليل على أحد الجانبين أو تتعارض الأمارتان عنده فلا تترجح في ظنه إحداهما فيشتبه عليه هذا بهذا فأرشده النبي
إلى ترك المشتبه والعدول إلى الواضح الجلي
ومعلوم أن غاية الوسواس أن يشتبه على صاحبه: هل هو طاعة وقربة أم معصية وبدعة هذا أحسن أحواله والواضح الجلي هو اتباع طريق رسول اللهوما سنه للأمة قولا وعملا فمن أراد ترك الشبهات عدل عن ذلك المشتبه إلى هذا الواضح فكيف ولا شبهة بحمد الله هناك إذ قد ثبت بالسنة أنه تنطع وغلو فالمصير إليه ترك للسنة وأخذ بالبدعة وترك لما يحبه الله تعالى ويرضاه وأخذ بما يكرهه ويبغضه ولا يتقرب به إليه ألبتة فإنه لا يتقرب إليه إلا بما شرع لا بما يهواه العبد ويفعله من تلقاء نفسه فهذا هو الذي يحيك في الصدر ويتردد في القلب وهو حواز القلوب
وأما التمرة التي ترك رسول اللهأكلها وقال: أخشى أن تكون من الصدقة فذلك من باب اتقاء الشبهات وترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام فإن التمرة كانت قد وجدها في بيته وكان يؤتى بتمر الصدقة يقسمه على من تحل له الصدقة ويدخل بيته تمر يقتات منه أهله فكان في بيته النوعان فلما وجد تلك التمرة لم يدر
من أي النوعين هي فأمسك عن أكلها فهذا الحديث أصل في الورع واتقاء الشبهات فما لأهل الوسواس وماله
وأما قولكم: إن مالكا أفتى فيمن طلق ولم يدر: أواحدة طلق أم ثلاثا: إنها ثلاث احتياطا فنعم هذا قول مالك فكان ماذا أفحجة هو على الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وعلى كل من خالفه في هذه المسألة حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله وهذا القول مما يحتج له لا مما يحتج به على أن هذا ليس من باب الوسواس في شيء وإنما حجة هذا القول: أن الطلاق يوجب تحريم الزوجة والرجعة ترفع ذلك التحريم فهو يقول: قد تيقن سبب التحريم وهو الطلاق وشك في رفعه بالرجعة فإنه يحتمل أن يكون رجعيا فترفعه الرجعة ويحتمل أن يكون ثلاثا فلا ترفعه الرجعة فقد تيقن سبب التحريم وشك فيما يرفعه
والجمهور يقولون: النكاح متيقن والقاطع له المزيل لحل الفرج مشكوك فيه فإنه يحتمل أن يكون المأتي به رجعيا فلا ييزل النكاح ويحتمل أن يكون بائنا فيزيله فقد تيقنا يقين النكاح وشككنا فيما يزيله فالأصل بقاء النكاح حتى يتيقن بما يرفعه
فإن قلتم: فقد تيقن التحريم وشك في التحليل قلنا: الرجعية ليست بحرام عندكم ولهذا تجوزون وطأها ويكون رجعة إذا نوى به الرجعة
فإن قلتم: بل هي حرام والرجعة حصلت بالنية حال الوطء قلنا: لا ينفعكم ذلك أيضا
فإنه إنما تيقن تحريما يزول بالرجعة ولم يتيقن تحريما لا تؤثر فيه الرجعة
وليس المقصود تقرير هذه المسئلة والمقصود أنه لا راحة في ذلك لأهل الوسواس
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)