









فصل
وأما من حلف بالطلاق: أن في هذه اللوزة حبتين ونحو ذلك مما لا يتيقنه الحالف فبان كما حلف عليه، فهذا لا يحنث عند الأكثرين وكذلك لو لم يتبين الحال واستمر مجهولا فإن النكاح ثابت بيقين فلا يزيله بالشك
ولمالك أصل نازعه فيه غيره وهو إيقاع الطلاق بالشك في الحنث وإيقاعه بالشك في عدده كما تقدم وإيقاعه بالشك في المطلقة كما لو طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها ووقف الحال مدة الإيلاء ولم يتبين طلق عليه الجميع
وكما لو حلف أن هذا فلان أو حيوان وهو غير متيقن له بل هو شاك حال الحلف فتبين أن الأمر كما حلف عليه فإنه يحنث عنده وتطلق امرأته فمن حلف على رجل أنه زيد فتبين أنه غيره أو لم يتبين: أهو المحلوف عليه أم لا حنث عنده وإن تبين أنه المحلوف عليه وكان حال اليمين لا يعلم حقيقته ولا يغلب على ظنه ولا طريق له إلى العلم به في العادة فإنه يحنث عنده لشكه حال الحلف فالحالف يحنث بالمخالفة لما حلف عليه أما في الطلب فبأن يفعل ما حلف على تركه وأما في الخبر فبأن يتبين كذبه وعند مالك يحنث بأمر آخر وهو الشك حال اليمين سواء تبين صدقه أم لا
وأبلغ من هذا: أنه يحنث من حلف بالطلاق على إنسان إلى جانبه إنسان أو حجر: أنه حجر ونحو ذلك مما لا شك فيه
وعمدته في الموضعين: أن الحالف هازل فإن من قال: أنت طالق إذ لم تكوني امرأة أو إن لم أكن رجلا لا معنى لكلامه إلا الهزل فإن هذا مما لا غرض للعقلاء فيه قالوا إن لم يكن هذا هزلا فإن الهزل لا حقيقة له
وربما عللوا الحنث بأنه أراد أن يجزم الطلاق ثم ندم فوصله بما لا يفيد ليرفعه
وأما في القسم الأول: فأصله فيه: تغليب الحنث بالشك كمن حلف ثم شك: هل حنث أم لا فإنهم يأمرونه بفراق زوجته وهل هو للوجوب أم للاستحباب على قولين الأول: لابن القاسم والثاني: لمالك
فمالك يراعي بقاء النكاح وقد شككنا في زواله والأصل البقاء وابن القاسم يقول:
قد صار حل الوطء مشكوكا فيه فيجب عليه مفارقتها والأكثرون يقولون: لا يجب عليه مفارقتها ولا يستحب له فإن قاعدة الشريعة: أن الشك لا يقوى على إزالة الأصل المعلوم ولا يزول اليقين إلا بيقين أقوى منه أو مساو له
فصل
وأما من طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها أو طلق واحدة مبهمة ولم يعينها فقد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على أقوال: فقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وحماد: يختار أيتهن شاء فيوقع عليها الطلاق في المبهمة وأما في المنسية فيمسك عنهن وينفق عليهن حتى ينكشف الأمر فإن مات الزوج قبل أن يقرع فقال أبو حنيفة: يقسم بينهن كلهن ميراث امرأة
وقال الشافعي: يوقف ميراث امرأة حتى يصطلحن
وقالت المالكية: إذا طلق واحدة منهن غير معلومة عنده بأن قال: أنت طالق ولا يدري من هي طلق الجميع وإن طلق واحدة معلومة ثم أنسيها وقف عنهن حتى يتذكر فإن طال ذلك ضرب له مدة المولى فإن تذكر فيها وإلا طلق عليه الجميع ولو قال: إحداكن طالق ولم يعينها بالنية طلق الجميع
وقال أحمد: يقرع بينهن في الصورتين نص على ذلك في رواية جماعة من أصحابه وحكاه عن علي وابن عباس
وظاهر المذهب الذي عليه جل الأصحاب أنه لا فرق بين المبهمة والمنسية
وقال صاحب المغني: يخرج المبهمة بالقرعة وأما المنسية فإنه يحرم عليه الجميع حتى تتبين المطلقة ويؤخذ بنفقة الجميع فإن مات أقرع بينهن للميراث قال: وقد روى إسماعيل ابن سعيد عن أحمد ما يدل على أن القرعة لا تستعمل في المنسية لمعرفة الحل وإنما تستعمل لمعرفة الميراث فإنه قال: سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه ولا يعلم أيتهن طلق قال: أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة قلت: أفرأيت إن مات هذا قال: أقول بالقرعة وذلك لأنه تصير القرعة على المال قال: وجماعة من روى عنه القرعة في المطلقة المنسية إنما هو في التوريث وأما في الحل فلا ينبغي أن تثبت القرعة قال: وهذا قول أكثر أهل العلم واحتج الشيخ لصحة قوله: بأنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلم تحل له إحداهما بالقرعة كما لو اشتبهت عليه بأجنبية لم يكن له عليها عقد ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة فلا ترفع الطلاق عمن وقع عليها ولاحتمال كون المطلقة غير من خرجت عليها القرعة ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه ولو ارتفع التحريم أو زال بالطلاق لما عاد بالذكر فيجب بقاء التحريم بعد القرعة كما كان قبلها قال: وقد قال الخرقي فيمن طلق امرأته فلم يدر أواحدة طلق أم ثلاثا ومن حلف بالطلاق لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة: لا تحل له امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها فحرمها مع أن الأصل بقاء النكاح ولم يعارضه يقين التحريم فههنا أولى قال: وهكذا الحكم في كل موضع أوقع الطلاق على امرأة بعينها ثم اشتبهت بغيرها مثل أن يرى امرأة في روزنة أو مولية فيقول: أنت طالق ولا يعلم ولا يعلم عينها من نسائه وكذلك إذا أوقع الطلاق على واحدة من نسائه في مسألة الطائر وشبهها فإنه يحرم عليه جميع نسائه حتى تتبين المطلقة ويؤخذ بنفقة الجميع لأنهن محبوسات عليه وإن أقرع بينهن لم تفد القرعة شيئا ولا يحل لمن وقعت عليها القرعة التزويج لأنها يجوز أن تكون غير المطلقة ولا يحل للزوج غيرها لاحتمال أن تكون المطلقة
وقال أصحابنا: إذا أقرع بينهن فخرجت القرعة على إحداهن ثبت حكم الطلاق فيها، فحل لها النكاح بعد انقضاء عدتها وحل للزوج من سواها كما لو كان الطلاق في واحدة غير معينة
وقال شيخنا: الصحيح استعمال القرعة في الصورتين
قلت: وهو منصوص أحمد في رواية الجماعة وأما رواية الشالنجي فإنه توقف وكره أن يقول في الطلاق بالقرعة ولم يعين المنسية ولا المبهمة وأكثر نصوصه على القرعة في الصورتين
قال في رواية الميموني فيمن له أربع نسوة طلق واحدة منهن ولم يدر: يقرع بينهن وكذلك في الأعبد فإن أقرع بينهن فوقعت القرعة على واحدة ثم ذكر التي طلق رجعت هذه التي وقعت عليها القرعة ويقع الطلاق على التي ذكر فإن تزوجت فذاك شيء قد مر
وكذلك نقل أبو الحرث عنه في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن ولم يكن له نية في واحدة بعينها يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهي المطلقة وكذلك إن قصد إلى واحدة بعينها ونسيها
فنص على القرعة في الصورتين مسويا بينهما
والذي أفتى به علي رضى الله عنه هو في المنسية وبه احتج أحمد رحمه الله
قال وكيع: سمعت عبد الله قال: سألت أبا جعفر عن رجل كان له أربع نسوة وطلق إحداهن لا يدري أيتهن طلق فقال قال على رضي الله عنه: يقرع بينهن
والأدلة الدالة على القرعة تتناول الصورتين والمنسية قد صارت كالمجهولة شرعا فلا فرق بينها وبين المبهمة المجهولة ولأن في الايقاف والإمساك حتى يتذكر وتحريم الجميع عليه وإيجاب النفقة على الجميع عدة مفاسد له وللزوجات مندفعة شرعا ولأن القرعة أقرب إلى مقاصد الشرع ومصلحة الزوج والزوجات من تركهن معلقات لا ذوات زوج ولا أيامى وتركه هو معلقا لاذا زوج ولا عزبا وليس في الشريعة نظير ذلك بل ليس فيها وقف الأحكام بل الفصل وقطع الخصومات بأقرب الطرق فإذا ضاقت الطرق ولم يبق إلا القرعة تعينت طريقا كما عينها الشارع في عدة قضايا حيث لم يكن هناك غيرها ولم يوقف الأمر إلى وقت الانكشاف فإنه إذا علم أنه لا سبيل له إلىانكشاف الحال كان إيقاف الأمر إلى آخر العمر من أعظم المفاسد التي لا تأتي بها الشريعة وغاية ما يقدر أن القرعة تصيب التي لم يقع عليها الطلاق وتخطىء المطلقة وهذا لا يضرها ههنا فإنها لما جهل كونها هي التي وقع عليها الطلاق صار المجهول كالمعدوم وكل ما يقدر من المفسدة في ذلك فمثلها في العتق سواء وقد دلت سنة رسول اللهالصحيحة الصريحة على إخراج المعتق من غيره بالقرعة وقد نص أحمد على حلع البضع بالقرعة
فقال في رواية ابن منصور وحنبل: إذا زوجها الوليان من رجلين ولم يعلم السابق منهما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حكم أنه الأول
فإذا قويت القرعة على تعيين الزوج في حل البضع له فلأن تقوى على تعيين المطلقة في تحريم بضعها عنه أولى فإن الطلاق مبنى على التغليب والسراية وهو أسرع نفوذا وثبوتا من النكاح من وجوه كثيرة
وقول الشيخ أبي محمد قدس الله تعالى روحه: إنه اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلم تحل له إحداهما بالقرعة كما لو اشتبهت بأجنبية لم يكن عليها عقد
جوابه: بالفرق بين حالتي الدوام والابتداء فإنه هناك شك في هذه الأجنبية هل حصل عقد أم لا والأصل فيها التحريم فإذا اشتبهت بها الزوجة لم يقدم على واحدة منهما وههنا ثبت الحل والنكاح وحصل الشك بعده هل يزول في هذه أو في هذه فإما أن يحرما جميعا أو يحلا جميعا أو يقال له: اختر من ينزل عليه التحريم أو يوقف الأمر أبدا أو يستعمل القرعة والأقسام الأربعة الأول باطلة لا أصل لها في السنة ولم يعتبرها الشارع بخلاف القرعة وبالجملة فلا يصح إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى إذ هناك تحريم متيقن ونحن نشك في حله وهنا حل متيقن نشك في تحريمه بالنستة إلى كل واحدة
قوله: ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة ولا ترفع الطلاق على من وقع عليه
فيقال: إذا جهلت المطلقة ولم يكن له سبيل إلى تعيينها قامت القرعة مقام الشاهد والمخبر بأنها المطلقة للضرورة حيث تعينت طريقا فالمطلقة المجهولة قد صار طلاقها بعينها كالمعدوم ولو كانت مطلقة في نفس الأمر فإن الشارع لم يكلفنا بما في نفس الأمر بل بما ظهر وبدا ولهذا لو نسي الطلاق بالكلية وأقام على وطئها حتى توفي كانت أحكامه أحكام الزوج والنسب لاحق به والميراث ثابت وهي مطلقة في نفس الأمر ولكن ليست مطلقة في حكم الله كما لو طلع الهلال في نفس الأمر ولم يره أحد من الناس أو كان الهلال تحت الغيم فإنه لا يترتب عليه حكم الشهر ولا يكون طالعا في حكم الله تعالى وإن كان طالعا في نفس الأمر ونظائر هذا كثيرة جدا
فغاية الأمر: أن هذه مطلقة في نفس الأمر ولا علم له بطلاقها فلا تكون مطلقة في الحكم كما لو نسي طلاقها
قوله: ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه ولو ارتفع التحريم أو زال الطلاق لما عاد بالذكر
جوابه: أن القرعة إنما عملت مع استمرار النسيان فإذا زال النسيان بطل عمل القرعة كما أن المتيمم إذا قدر على استعمال الماء بطل حكم تيممه فإن التراب إنما يعمل عند العجز عن الماء فإذا قدر عليه بطل حكمه ونظائر ذلك كثيرة
منها: أن الاجتهاد إنما يعمل به عند عدم النص فإذا تبين النص فلا اجتهاد إلا في إبطال ما خالفه
قوله: وقد قال الخرقي فيمن طلق امرأته ولم يدر أواحدة طلق أم ثلاثا يلزمه الثلاث ومن حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة لا تحل له امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها فحرمها مع أن الأصل بقاء النكاح ولم يعارضه يقين التحريم فههنا أولى
فيقال: الخرقي نص على المسئلتين مفرقا بينهما في مختصره فقال: وإذا طلق واحدة من نسائه وأنسيها أخرجت بالقرعة وقال: ما حكاه الشيخ عنه في الموضعين فأما من شك: هل طلق واحدة أم ثلاثا فأكثر النصوص أنه إنما يلزمه واحدة وهو ظاهر المذهب والخرقي اختار الرواية الأخرى وهي مذهب مالك وقد تقدم مأخذ القولين وبيان الراجح منهما
وعلى القول بلزوم الثلاث فالفرق بين ذلك وبين إخراج المنسية بالقرعة: أن المجهول في الشرع كالمعدوم فقد جهلنا وقوع الطلاق بأي الزوجتين فلم يتحقق تحريم إحداهما ولم يكن لنا سبيل إلى تحريمهما ولا إباحتهما والوقف مفسدة ظاهرة فتعينت القرعة بخلاف من أوقع على زوجته طلاقا وشك في عدده فإنه قد شك: هل يرتفع ذلك الطلاق بالرجعة أولا يرتفع بها فألزمه بالثلاث فظهر الفرق بينهما على هذا القول وأما على المشهور من المذهب فلا إشكال
وأما من حلف بالطلاق لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة فقد قال الخرقي: إنه يمنع من وطء زوجته حتى يتيقن وهذا يحتمل الكراهة والتحريم ومذهب الشافعي وأبي حنيفة: أنه لا يحنث ولا يحرم عليه وطء زوجته هو اختيار أبي الخطاب وهو الصحيح وإن أراد به التحريم فهو يشبه ما قاله هو ومالك فيمن طلق وشك هل طلق واحدة أم ثلاثا
فصل
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)