ومن ذلك اتخاذها عيدا والعيد: ما يعتاد مجيئه وقصده: من مكان وزمان
فأما الزمان فكقوله ص يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى: عيدنا أهل الإسلام رواه أبو داود وغيره
وأما المكان فكما روي أبو داود في سننه أن رجلا قال: يا رسول الله إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال: أبها وثن من أوثان المشركين أو عيد من أعيادهم قالا: لا قال: فأوف بنذرك وكقوله: لا تجعلوا قبري عيدا
والعيد: مأخوذ من المعاودة والاعتياد فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة أو لغيرها كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله تعالى عيدا للحنفاء ومثابة كما جعل أيام التعبد فيها عيدا
وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة البيت الحرام وعرفة ومنى والمشاعر
فاتخاذ القبور عيدا هو من أعياد المشركين التي كانوا عليها قبل الإسلام وقد نهى عنه رسول الله ص في سيد القبور منبها به على غيره
فقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبرى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ص لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم وهذا إسناد حسن رواته كلهم ثقات مشاهير
وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي ابن الحسين: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله قال: لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته
وقال سعيد بن منصور في السنن: حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني
وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء فقلت: لا أريده فقال: مالي رأيتك عند القبر فقلت: سلمت على النبي ص فقال: إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال: إن رسول الله ص قال: لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يكن روى من وجوه مسندة غير هذين فكيف وقد تقدم مسندا
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله ص أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان ثم إنه قرن ذلك بقوله: ولا تتخذوا بيوتكم قبورا أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري العبادة عند القبور وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم ثم إنه عقب النهي عن اتخاذه عيدا بقوله: وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدا وقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك وشبها من اليهود بالتحريف فقال: هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه ونهي أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين فكأنه قال: لا تجعلوه بمنزلة العيد الذي يكون من الحول إلى الحول واقصدوه كل ساعة وكل وقت وهذا مراغمة ومحادة لله ومناقضة لما قصده الرسول وقلب للحقائق ونسبة الرسول إلى التدليس والتلبيس بعد التناقض فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته وكثرة انتيابه بقوله: لا تجعلوه عيدا فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان فإن لم يكن هذا تنقيصا فليس للتنقيص حقيقة فينا كمن يرمى أنصار الرسول وحزبه بدائه ومصابه وينسل كأنه بريء ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثما وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته وهكذا غيرت ديانات الرسل ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الدابين عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله
ولو أراد رسول الله ص ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن ويلعن فاعل ذلك فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وانتيابها ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول وكيف يسأل ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد وكيف يقول أعلم الخلق بذلك ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا وكيف يقول: لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا على حيثما كنتم وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف
وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره ص واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علىرضي الله عنه وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا
قال شيخنا: فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله ص قرب النسب وقرب الدار لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط
فصل

ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله تعالى وغيرة على التوحيد وتهجين وتقبيح للشرك
ولكن ما لجرح بميت إيلام
فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم
فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض وكشفوا الرءوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج وتبا كوا حتى تسمع لهم النشيج ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد ونادوا ولكن من مكان بعيد حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين فتراهم حول القبر ركعا سجدا يبتغون فضلامن الميت ورضوانا وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسرانا فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولى العاهات والبليات ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفدالبيت الحرام ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق وقربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين فلو رأيتهم يهنىء بعضهم بعضا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام فيقول: لا ولو بحجك كل عام
هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم: إذ هي فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور
وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهي عنه لما يؤول إليه وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته والشر والضلال في معصيته ومخالفته
ورأيت لأبي الوفاء بن عقيل في ذلك فصلا حسنا فذكرته بلفظه قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع: من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا وأخذ تربتها تبركا وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداءبمن عبد اللات والعزى والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء ولم يقل الحمالون على جنازته: الصديق أبو بكر أو محمد وعلى أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر ولم يخرق ثيابه إلى الذيل ولم يرق ماء الورد على القبر انتهى
ومن جمع بين سنة رسول الله ص في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأي أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا
فنهى رسول الله ص عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله تعالى
ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها
ونهى أن تتخذ عيداوهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر
وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ص أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته وفي صحيحه أيضا عن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفى صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال: سمعت رسول الله ص يأمر بتسويتها وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها عن الأرض كالبيت ويعقدون عليها القباب
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: نهى رسول الله ص عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه بناء
ونهى عن الكتابة عليها كما روى أبو داود والترمذي في سننهما عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله ص نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها قال الترمذي: حديث حسن صحيح وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو داود من حديث جابر أيضا: أن رسول الله ص نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص
ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى القبر بآجر وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره
وأوصى الأسود بن يزيد: أن لا تجعلوا على قبري آجرا
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم
وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة: أن لا تضربوا علي فسطاطا
وكره الإمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاط
والمقصود: أن هؤلاء المعظعمين للقبور المتخذينها أعيادا الموقدين عليها السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله ص محادون لما جاء به وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه قال أبو محمد المقدسي: ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن النبي ص من فعله ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام قال: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ولأن النبي ص قال: لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا متفق عليه وقالت عائشة: إنما لم يبرز قبر رسول الله ص لئلا يتخذ مسجدا لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها انتهى