وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا ووضعوا له مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه مناسك حج المشاهد مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الاسلام ودخول في دين عباد الأصنام فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله ص وقصده: من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها ومنها: اتخاذها عيدا ومنها: السفر إليها ومنها: مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل عندها: من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها وعبادها يرجعحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد والويل عندهم لقيتمها ليلة يطفىء القنديل المعلق عليها ومنها: النذر لها ولسدنتها ومنها: اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء وينصر على الاعداء ويستنزل غيث السماء وتفرج الكروب وتقضى الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف إلى غير ذلك ومنها: الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة كما أن المسيح يكره ما يفعله النصارى عند قبره وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم ويوم القيامة يتبرءون منهم كما قال تعالى: ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادى هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا [ الفرقان: 17 ] قال الله للمشركين: فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا [ الفرقان: 19 ] الآية وقال تعالى: وقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ سبأ: 41 ]
ومنها: مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها ومنها: محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكثير والإثم العظيم ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع
ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله فإن عباد القبور يعطونها من التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة على الموتى مالا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد ودين الله الذي بعث به رسوله بضد ذلك ولهذا لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين عمروا المشاهد وأخربوا المساجد
ومنها: أن الذي شرعه الرسول ص عند زيارة القبور: إنما هو تذكرالآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية له فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم واستنزال البركات منه ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت
ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له
فاسمع الآن زيارة أهل الإيمان التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله ص ثم وازن بينها وبين زيارة أهل الإشراك التي شرعها لهم الشيطان واختر لنفسك
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ص كلما كان ليلتها منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد رواه مسلم
وفي صحيحه عنها أيضا: أن جبريل أتاه فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون
وفي صحيحه أيضا عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله ص يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام على أهل الديار وفي لفظ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية وعن بريدة قال: قال رسول الله ص كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرا رواه أحمد والنسائي
وكان رسول الله ص قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ونهاهم أن يقولوا هجرا فمن زارها على غير الوجه المشروع الذي يحبه الله ورسوله فإن زيارته غير مأذون فيها ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولا وفعلا
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص زوروا القبور فإنها تذكر الموت
وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله ص قال: إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة رواه الإمام أحمد
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: مر رسول الله بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم ونحن بالأثر رواه أحمد والترمذي وحسنه وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة رواه ابن ماجه
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة
فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله ص لأمته وعلمهم إياها هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه
وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي ص ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا
فقال سلمة بن وردان: رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبي ص ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو
ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر فإن الدعاء عبادة
وفي الترمذي وغيره مرفوعا الدعاء هو العبادة
فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله من السلام على أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم
وبالجملة فالميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له ويشفع له ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء له وجوبا واستحبابا ما لم يشرع مثله في الدعاء للحي
قال عوف بن مالك: صلى رسول الله على جنارة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر أو من عذاب النار حتى تمنيت أن أكون أنا الميت لدعاء رسول الله ص على ذلك الميت رواه مسلم
وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله ص يقول في صلاته على الجنازة: اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء فاغفر له رواه الامام أحمد
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ص قال: إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء
وقالت عائشة وأنس عن النبي ص: ما من ميت يصليعليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه رواه مسلم
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ص يقول: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه رواه مسلم
فهذا مقصود الصلاة على الميت وهو الدعاء له والاستغفار والشفاعة فيه
ومعلوم أنه في قبره أشد حاجة منه على نعشه فإنه حينئذ معرض للسؤال وغيره وقد كان النبي ص يقف على القبر بعد الدفن فيقول: سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل
فعلم أنه أحوج إلى الدعاء له بعد الدفن فإذا كنا على جنازته ندعو له لا ندعو به ونشفع له لا نشفع به فبعد الدفن أولى وأحرى
فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم: بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه والشفاعة له بالاستشفاع به وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله ص إحسانا إلى الميت وإحسانا إلى الزائر وتذكيرا بالآخرة: سؤال الميت والإقسام به على الله وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد وأوقات الأسحار
ومن المحال أن يكون دعاء الموتى أو الدعاء بهم أو الدعاء عندهم مشروعا وعملا صالحا ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله ص ثم يرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون
فهذه سنة رسول الله ص في أهل القبور بضعا وعشرين سنة حتى توفاه الله تعالى وهذه سنة خلفائه الراشدين وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان هل يمكن بشرعلى وجه الأرض أن يأتى عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع: أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها وتمسحوا بها فضلا أن يصلوا عندها أو يسألوا الله بأصحابها أو يسألوهم حوائجهم فليوقفونا على أثر واحد أو حرف واحد في ذلك بلى يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك بلى فيها من خلاف ذلك كثير كما قدمناه من الأحاديث المرفوعة
وأما آثار الصحابة فأكثر من أن يحاط بها وقد ذكرنا إنكار عمر رضي الله عنه على أنس رضي الله عنه صلاته عند القبر وقوله له القبر القبر
وقد ذكر محمد بن إسحاق في مغازيه من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال: حدثنا أبو العالية قال: لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعا له كعبا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل من العرب قرأه قرأته مثل ما أقرأ القرآن فقلت لأبي العالية: ما كان فيه قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت: فما صنعتم بالرجل قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه فقلت: وما يرجون منه قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون فقلت: من كنتم تظنون الرجل قال: رجل يقال له: دانيال فقلت: مذ كم وجدتموه مات قال: مذ ثلاثمائة سنة قلت: ما كان تغير منه شيء قال: لا إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به الناس ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به المستأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يدانى هذا ولا يقاربه وأقاموا لها سدنة وجعلوها معابد أعظم من المساجد
فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحا لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك ودعوا عنده وسنوا ذلك لمن بعدهم ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله ص بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ولا دعاه ولا دعا به ولا دعا عنده ولا استشفى به ولا استسقى به ولا استنصر به ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بل على نقل ما هو دونه
وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير تلك البقعة أولا يكون فإن كان أفضل فكيف خفي علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم وتظفر به الخلوف علما وعملا ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه مع حرصهم على كل خير لا سيما الدعاء فإن المضطر يتشبث بكل سبب وإن كان فيه كراهة ما فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور ثم لا يقصدونه هذا محال طبعا وشرعا
فتعين القسم الآخر وهو أنه لا فضل للدعاء عندها ولا هو مشروع ولا مأذون فيه بقصد الخصوص بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله ألبتة بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله ولم ينزل بها سلطانا
وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير
فروى غير واحد عن المعرور بن سويد قال: صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل [ الفيل: 1 ] ولإيلاف قريش ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال: أين يذهب هؤلاء فقيل: يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي ص فهم يصلون فيه فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها وكذلك أرسل عمر رضي الله تعالى عنه أيضا فقطع الشجرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله ص
بل قد أنكر رسول الله ص على الصحابة لما سألوه أن يجعل لهم شجرة يعلعقون عليها أسلحتهم ومتاعهم بخصوصها
فروى البخاري في صحيحه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله ص قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي ص: الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون [ الأعراف: 138 ] لتركبن سنن من كان قبلكم
فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه والدعاء عنده فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون
قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البراء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها
ومن له خبرة بما بعث الله تعالى به رسوله وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب وأنهم على شيء والسلف على شيء كما قيل:
سارت مشرقة وسرت مغربا... شتان بين مشرق ومغرب
والأمر والله أعظم مما ذكرنا
وقد ذكر البخاري في الصحيح عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت دخل على أبو الدرداء مغضبا فقلت له: مالك فقال: والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد ص إلا أنهم يصلون جميعا
وروي مالك في الموطأ عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة يعني الصحابة رضي الله عنهم
وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت له: ما يبكيك فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت ذكره البخاري
في لفظ آخر ما كنت أعرف شيئا على عهد رسول الله ص إلا قد أنكرته اليوم
وقال الحسن البصري: سأل رجل أبا الدرداء رضي الله عنه فقال: رحمك الله لو أن رسول الله ص بين أظهرنا هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه فغضب واشتد غضبه وقال: وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه
وقال المبارك بن فضالة: صلى الحسن الجمعة وجلس فبكى فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد فقال: تلومونني على البكاء ولو أن رجلا من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم ما عرف شيئا مما كان عليه على عهد رسول الله ص أنتم اليوم عليه إلا قبلتكم هذه
وهذه هي الفتنة العظمى التي قال فيها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري على الناس يتخذونها سنة إذا غيرت قيل: غيرت السنة أو هذا منكر
وهذا مما يدل على أن العمل إذا جرى على خلاف السنة فلا عبرة به ولا إلتفات إليه فإن العمل قد جرى على خلاف السنة منذ زمن أبي الدرداء وأنس كما تقدم
وذكر أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثني محمد بن عبيد بن ميمون حدثني عبد الله بن إسحق الجعفري قال: كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة قال: فتذاكروا يوما السنن فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا فقال عبد الله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام فهم الحجة على السنة فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء
فصل
ومن أعظم مكايده: ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام التي هي من عمله وقد أمر الله تعالى باجتناب ذلك وعلق الفلاح باجتنابه فقال: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [ المائده: 90 ] فالأنصاب: كل ما نصب يعبد من دون الله: من حجر أو شجر أو وثن أو قبر وهي جمع واحدها نصب كطنب وأطناب قال مجاهد: وقتادة وابن جريج: كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها قالوا: وليست بأصنام إنما الصنم ما يصور وينقش وقال ابن عباس: هي الأصنام التي يعبدونها من دون الله تعالى وقال الزجاج: حجارة كانت لهم يعبدونها وهي الأوثان وقال الفراء: هي الآلهة التي كانت تعبد من أحجار وغيرها
وأصل اللفظة: الشيء المنصوب الذي يقصده من رآه ومنه قوله تعالى: يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ المعارج: 43 ]
قال ابن عباس: إلى غاية أو علم يسرعون
وهو قول أكثر المفسرين
وقال الحسن: يعني إلى أنصابهم أيهم يستلمها أولا
قال الزجاج: وهذا على قراءة من قرأ نصب بضمتين كقوله وما ذبح على النصب [ المائده: 3 ] قال: ومعناه: أصنام لهم والمقصود: أن النصب كل شيء نصب: من خشبة أو حجر أو علم والإيفاض: الإسراع
وأما الأزلام: فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هي قداح كانوا يستقسون بها الأمور أي يطلبون بها علم ما قسم لهم
وقال سعيد بن جبير: كانت لهم حصيات إذا اراد أحدهم أن يغزو أو يجلس استقسم بها
وقال أيضا: هي القدحان اللذان كان يستقسم بهما أهل الجاهلية في أمورهم أحدهما عليه مكتوب: أمرني ربي والآخر: نهاني ربي فإذا أرادوا أمراضربوا بها فإن خرج الذي عليه أمرني فعلوا ما هموا به وإن خرج الذي عليه نهاني تركوه
وقال أبو عبيد: الاستقسام: طلب القسمة
وقال المبرد: الاستقسام أخذ كل واحد قسمه وقيل الاستقسام: إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح كقسم اليمين
وقال الأزهري: وإن تستقسموا بالأزلام أي تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين
وقال أبو اسحاق الزجاج وغيره: الاستقسام بالأزلام حرام ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا واخرج من أجل طلوع نجم كذا لأن الله تعالى يقول: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا [ لقمان: 34 ]
وذلك دخول في علم الله تعالى الذي هو غيب عنا فهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله تعالى
والمقصود: أن الناس قد ابتلوا بالأنصاب والأزلام فالأنصاب للشرك والعبادة والأزلام للتكهن وطلب علم ما استأثر الله به هذه للعلم وتلك للعمل ودين الله سبحانه وتعالى مضاد لهذا وهذا والذي جاء به رسول الله إبطالهما وكسرالأنصاب والأزلام
فمن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للمشركين: من شجرة أو عمود أو وثن أو قبر أو خشبة أو عين ونحو ذلك والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره كما أمر النبي عليا رضي الله عنه بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله أن لا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا الا سويته وعمى الصحابة بأمر عمر رضي الله عنه قبر دانيال وأخفوه عن الناس ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بايع تحتها رسول الله ص أصحابه أرسل فقطعها رواه ابن وضاح في كتابه:
فقال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي ص
فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة
قال عيسى بن يونس: وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع أن الناس كانوا يأتون الشجرة فقطعها عمر رضي الله عنه
فإذا كان هذا فعل عمر رضي الله عنه بالشجرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن وبايع تحتها الصحابة رسول الله ص فماذا حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب والأوثان التي قد عظمت الفتنة بها واشتدت البلية بها
وأبلغ من ذلك: أن رسول الله ص هدم مسجد الضرار ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فسادا منه كالمساجد المبنية على القبور فإن حكم الإسلام فيها: أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار وكذلك القباب التي على القبور يحب هدمها كلها لأنها أسست على معصية الرسول لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم فبناء أسس على معصيته ومخافته بناء غير محرم وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعا
وقد أمر رسول الله ص بهدم القبور المشرفة كما تقدم
فهدم القباب والبناء والمساجد التي بنيت عليها أولى وأحرى لأنه لعن متخذي المساجد عليها ونهى عن البناء عليه فيجب المبادرة والمساعدة إلى هدم ما لعن رسول الله ص فاعله ونهى عنه والله تعالى يقيم لدينه وسنة رسوله من ينصرهما ويذب عنهما فهو أشد غيرة وأسرع تغييرا
وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج فلى قبر وطفيه فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله ولا يصح هذا الوقف ولا يحل إثباته وتنفيذه
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها
وقال الحافظ ابو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب: الحوادث والبدع: ومن هذا القسم أيضا ما قد عم به الابتلاء: من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك ثم يتجاوزون هذا إلى ان يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها فما أشبهها بذات أنواط التي في الحديث ثم ساق حديث أبي واقد أنهم مروا مع رسول الله بشجرة عظيمة خضراء يقال لها: ذات أنواط فقالوا: يارسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي الله أكبر هذا كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال: إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح
ثم ذكر ما صنعه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية: أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية كان العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق فمن تعذر عليه نكاح أو ولد قال: امضوا بي إلى العافية فيعرف فيها الفتنة فخرج في السحر فهدمها وأذن للصبح عليها ثم
قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا قال: فما رفع لها رأس إلى الآن
وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين كالعمود المخلق والنصب الذي كان بمسجد النارنج عند المصلى يعبده الجهال والنصب الذي كان تحت الطاحون الذي عند مقابر النصارى ينتابه الناس للتبرك به وكان صورة صنم في نهر القلوط ينذرون له ويتبركون به وقطع الله سبحانه النصب الذي كان عند الرحبة يسرج عنده ويتبرك به المشركون وكان عمودا طويلاعلى رأسه حجر كالكرة وعند مسجد درب الحجر نصب قد بنى عليه مسجد صغير يعبده المشركون يسر الله كسره
فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر أي تقبل العبادة من دون الله تعالى فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذي أمر الله تعالى أن يتخذ منه مصلى كما ذكر الأزرقي في كتاب تاريخ مكة عن قتادة في قوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ البقرة: 125 ] قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق
وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب: فتنة أنصاب القبور وهي أصل فتنة عبادة الأصنام كما قاله السلف من الصحابة والتابعين وقد تقدم
ومن أعظم كيد الشيطان: أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله ثم يوحي إلى أوليائه: أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا وجعله وثنا فقد تنقصه وهضم حقه فيسعى الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفرونه وذنبه عند أهل الإشراك: أمره بما أمر الله به ورسوله ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله: من جعله وثنا وعيدا وإيقاد السرج عليه وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه وإشادته وتقبيله واستلامه ودعائه أو الدعاء به أو السفر إليه أو الاستغاثة به من دون الله مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله: من تجريد التوحيد لله وأن لا يعبد إلا الله فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون واشمأزت قلوبهم وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر وسرى ذلك في نفوس الجهال والطعام وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله ويأبى الله ذلك فما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له العارفون بما جاء به الداعون إليه لا المتشبعون بما لم يعطوا لابسو ثياب الزور الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم ويبغونها عوجا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
فصل
ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم صراط أهل نعمته ورحمته وكرامته أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانا وأعيادا وأنصابا والنهي عن اتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها وإيقاد السرج عليها والسفر إليها والنذر لها واستلامها وتقبيلها وتعفير الجباه في عرصاتها: غض من أصحابها ولا تنقيص لهم ولا تنقص كما يحسبه أهل الإشراك والضلال بل ذلك من إكرامهم وتعظيمهم واحترامهم ومتابعتهم فيما يحبونه وتجنب ما يكرهونه فأنت والله وليهم ومحبهم وناصر طريقتهم وسنتهم وعلى هديهم ومنهاجهم وهؤلاء المشركون أعصى الناس لهم وأبعدهم من هديهم ومتابعتهم كالنصارى مع المسيح واليهود مع موسى عليهما السلام والرافضة مع علي رضي الله عنه فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض
فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادة قبورهم والعكوف عليها واتخاذها أعيادا
فإن من اقتفى آثارهم كان متسببا إلى تكثير أجورهم باتباعه لهم ودعوته الناس إلى اتباعهم فإذا أعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر فأي تعظيم لهم واحترام في هذا وإنما اشتغل كثير من الناس بأنواع من العبادات المتبدعة التي يكرهها الله ورسوله لإعراضهم عن المشروع أو بعضه وإن قاموا بصورته الظاهرة فقد هجروا حقيقته المقصودة منه وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه عارفا بما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح مهتمزا بها كل الاهتمام أغنته عن الشرك وكل من قصر فيها أو في بعضها تجد فيه من الشرك بحسب ذلك ومن أصغى إلى كلام الله بقلبه وتدبره وتفهمه أغناه عن السماع الشيطاني الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وينبت النعفاق في القلب وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول بكلعيته وحدث نفسه باقتباس الهدى والعلم منه لا من غيره أغناه عن البدع والآراء والتخرصات والشطحات والخيالات التي هي وساوس النفوس وتخيلاتها ومن بعد عن ذلك فلابد له أن يتعوض عنه بما لا ينفعه كما أن من غمر قلبه بمحبة الله تعالى وذكره وخشيته والتوكل لعيه والإنابة إليه أغناه ذلك عن محبة غيره وخشيته والتوكل عليه وأغناه أيضا عن عشق الصور وإذا خلا من ذلك صار عبد هواه أي شيء استحسنه ملكه واستعبده فالمعرض عن التوحيد مشرك شاء أو أبى والمعرض عن السنة مبتدع ضال شاء أم أبى والمعرض عن محبة الله وذكره عبد الصور شاء أم أبى والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم [ فصل ] فإن قيل: فما الذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها مع العلم بأن ساكنيها أموات لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياتا ولا نشورا قيل: أوقعهم في ذلك أمور: منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله بل جميع الرسل: من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك فقل نصيبهم جدا من ذلك ودعاهم الشيطان إلى الفتنة ولم يكن عندهم من العلم ما يبطل دعوته فاستجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل وعصموا بقدر ما معهم من العلم
ومنها: أحاديث مكذوبة مختلقة وضعها أشباه عباد الأصنام: من المقابرية على رسول الله تناقض دينه وما جاء به كحديث: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور وحديث: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام وضعها المشركون وراجت على أشباههم من الجهال الضلال والله بعث رسوله يقتل من حسن ظنه بالأحجار وجنب أمته الفتنة بالقبور بكل طريق كما تقدم
ومنها: حكايات حكيت لهم عن تلك القبور: أن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها وفلانا دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت له وفلانا نزل به ضرفاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء كثير يطول ذكره وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات والنفوس مولعة بقضاء حوائجها وإزالة ضروراتها ويسمع بأن قبر فلان ترياق مجرب والشيطان له تلطف في الدعوة فيدعوهم أولا إلى الدعاء عنده فيدعو العبد بحرقة وانكسار وذلة فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه لا لأجل القبر فإنه لو دعاه كذلك في الحانة والخمارة والحمام والسوق أجابه فيظن الجاهل أن للقبر تأثيرا في إجابة تلك الدعوة والله سبحانه يجيب دعوة المضطر ولو كان كافرا وقد قال تعالى: كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا. وقد قال الخليل: وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر [ البقرة: 126 ] فقال الله سبحانه وتعالى: ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير [ البقرة: 126 ]
فليس كل من أجاب الله دعاءه يكون راضيا عنه ولا محبا له ولا راضيا بفعله فإنه يجيب البر والفاجر والمؤمن والكافر وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدى فيه أو يشترط في دعائه أو يكون مما لا يجوز أن يسأل فيحصل له ذلك أو بعضه فيظن أن عمله صالح
مرضي لله ويكون بمنزلة من أملى له وأمد بالمال والبنين وهو يظن أن الله تعالى يسارع له في الخيرات وقد قال تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء [ الأنعام: 44 ]
فالدعاء قد يكون عبادة فيثاب عليه الداعي وقد يكون مسألة تقضى به حاجته ويكون مضرة عليه إما أن يعاقب بما يحصل له أو تنقص به درجته فيقضي حاجته ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه واعتداء حدوده
والمقصود: أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى: من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به وهذا أعظم من الذي قبله فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك
فقال أبو الحسين القدوري في شرح كتاب الكرخي: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به قال: وأكره أن يقول: أسألك بمعقد العز من عرشك وأكره أن يقول: بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام
قال أبو الحسين: أما المسألة بغير الله فمنكرة في قولهم لأنه لا حق لغير الله عليه وإنما الحق لله على خلقه وأما قوله: بمعقد العز من عرشك فكرهه أبو حنيفة ورخص فيه أبو يوسف
وقال: وروى أن النبي دعا بذلك قال: ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله بها العرش مع عظمته فكأنه سأله بأوصافه
وقال ابن بلدجى في شرح المختار: ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على خالقه أو يقول في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك وعن أبي يوسف جوازه وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا هو عند محمد حرام وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب وجانب التحريم عليه أغلب وفي فتاوى أبي محمد بن عبد السلام: أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم وتوقف في نبينا لاعتقاده أن ذلك جاء في حديث وأنه لم يعرف صحة الحديث
فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجع في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه ويوقد عليه القنديل ويعلق عليه الستور ويبني عليه المسجد ويعبده بالسجود له والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم
قال شيخنا قدس الله روحه: وهذه الأمور المتبدعة عند القبور مراتب أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب كما يتمثل لعباد الأصنام وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحيانا وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة وكذلك السجود للقبر والتمسح به وتقبيله المرتبة الثانية: أن يسأل الله تعالى به وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو بدعة باتفاق المسلمين
الثالثة: أن يسأله نفسه
الرابعة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك ويقول بعضهم: قبر فلان ترياق مجرب
والحكاية المنقولة عن الشافعي: أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر
فصل
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 12 (0 من الأعضاء و 12 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)