فصل

ومن أعظم مكايده: ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام التي هي من عمله وقد أمر الله تعالى باجتناب ذلك وعلق الفلاح باجتنابه فقال: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [ المائده: 90 ] فالأنصاب: كل ما نصب يعبد من دون الله: من حجر أو شجر أو وثن أو قبر وهي جمع واحدها نصب كطنب وأطناب قال مجاهد: وقتادة وابن جريج: كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها قالوا: وليست بأصنام إنما الصنم ما يصور وينقش وقال ابن عباس: هي الأصنام التي يعبدونها من دون الله تعالى وقال الزجاج: حجارة كانت لهم يعبدونها وهي الأوثان وقال الفراء: هي الآلهة التي كانت تعبد من أحجار وغيرها
وأصل اللفظة: الشيء المنصوب الذي يقصده من رآه ومنه قوله تعالى: يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ المعارج: 43 ]
قال ابن عباس: إلى غاية أو علم يسرعون
وهو قول أكثر المفسرين
وقال الحسن: يعني إلى أنصابهم أيهم يستلمها أولا
قال الزجاج: وهذا على قراءة من قرأ نصب بضمتين كقوله وما ذبح على النصب [ المائده: 3 ] قال: ومعناه: أصنام لهم والمقصود: أن النصب كل شيء نصب: من خشبة أو حجر أو علم والإيفاض: الإسراع
وأما الأزلام: فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هي قداح كانوا يستقسون بها الأمور أي يطلبون بها علم ما قسم لهم
وقال سعيد بن جبير: كانت لهم حصيات إذا اراد أحدهم أن يغزو أو يجلس استقسم بها
وقال أيضا: هي القدحان اللذان كان يستقسم بهما أهل الجاهلية في أمورهم أحدهما عليه مكتوب: أمرني ربي والآخر: نهاني ربي فإذا أرادوا أمراضربوا بها فإن خرج الذي عليه أمرني فعلوا ما هموا به وإن خرج الذي عليه نهاني تركوه
وقال أبو عبيد: الاستقسام: طلب القسمة
وقال المبرد: الاستقسام أخذ كل واحد قسمه وقيل الاستقسام: إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح كقسم اليمين
وقال الأزهري: وإن تستقسموا بالأزلام أي تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين
وقال أبو اسحاق الزجاج وغيره: الاستقسام بالأزلام حرام ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا واخرج من أجل طلوع نجم كذا لأن الله تعالى يقول: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا [ لقمان: 34 ]
وذلك دخول في علم الله تعالى الذي هو غيب عنا فهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله تعالى
والمقصود: أن الناس قد ابتلوا بالأنصاب والأزلام فالأنصاب للشرك والعبادة والأزلام للتكهن وطلب علم ما استأثر الله به هذه للعلم وتلك للعمل ودين الله سبحانه وتعالى مضاد لهذا وهذا والذي جاء به رسول الله إبطالهما وكسرالأنصاب والأزلام
فمن الأنصاب ما قد نصبه الشيطان للمشركين: من شجرة أو عمود أو وثن أو قبر أو خشبة أو عين ونحو ذلك والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره كما أمر النبي عليا رضي الله عنه بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله أن لا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا الا سويته وعمى الصحابة بأمر عمر رضي الله عنه قبر دانيال وأخفوه عن الناس ولما بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بايع تحتها رسول الله ص أصحابه أرسل فقطعها رواه ابن وضاح في كتابه:
فقال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي ص
فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة
قال عيسى بن يونس: وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع أن الناس كانوا يأتون الشجرة فقطعها عمر رضي الله عنه
فإذا كان هذا فعل عمر رضي الله عنه بالشجرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن وبايع تحتها الصحابة رسول الله ص فماذا حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب والأوثان التي قد عظمت الفتنة بها واشتدت البلية بها
وأبلغ من ذلك: أن رسول الله ص هدم مسجد الضرار ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فسادا منه كالمساجد المبنية على القبور فإن حكم الإسلام فيها: أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار وكذلك القباب التي على القبور يحب هدمها كلها لأنها أسست على معصية الرسول لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم فبناء أسس على معصيته ومخافته بناء غير محرم وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعا
وقد أمر رسول الله ص بهدم القبور المشرفة كما تقدم
فهدم القباب والبناء والمساجد التي بنيت عليها أولى وأحرى لأنه لعن متخذي المساجد عليها ونهى عن البناء عليه فيجب المبادرة والمساعدة إلى هدم ما لعن رسول الله ص فاعله ونهى عنه والله تعالى يقيم لدينه وسنة رسوله من ينصرهما ويذب عنهما فهو أشد غيرة وأسرع تغييرا
وكذلك يجب إزالة كل قنديل أو سراج فلى قبر وطفيه فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله ولا يصح هذا الوقف ولا يحل إثباته وتنفيذه
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها
وقال الحافظ ابو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب: الحوادث والبدع: ومن هذا القسم أيضا ما قد عم به الابتلاء: من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك ثم يتجاوزون هذا إلى ان يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها فما أشبهها بذات أنواط التي في الحديث ثم ساق حديث أبي واقد أنهم مروا مع رسول الله بشجرة عظيمة خضراء يقال لها: ذات أنواط فقالوا: يارسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي الله أكبر هذا كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال: إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح
ثم ذكر ما صنعه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية: أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية كان العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق فمن تعذر عليه نكاح أو ولد قال: امضوا بي إلى العافية فيعرف فيها الفتنة فخرج في السحر فهدمها وأذن للصبح عليها ثم
قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا قال: فما رفع لها رأس إلى الآن
وقد كان بدمشق كثير من هذه الأنصاب فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين كالعمود المخلق والنصب الذي كان بمسجد النارنج عند المصلى يعبده الجهال والنصب الذي كان تحت الطاحون الذي عند مقابر النصارى ينتابه الناس للتبرك به وكان صورة صنم في نهر القلوط ينذرون له ويتبركون به وقطع الله سبحانه النصب الذي كان عند الرحبة يسرج عنده ويتبرك به المشركون وكان عمودا طويلاعلى رأسه حجر كالكرة وعند مسجد درب الحجر نصب قد بنى عليه مسجد صغير يعبده المشركون يسر الله كسره
فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر أي تقبل العبادة من دون الله تعالى فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذي أمر الله تعالى أن يتخذ منه مصلى كما ذكر الأزرقي في كتاب تاريخ مكة عن قتادة في قوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ البقرة: 125 ] قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق
وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب: فتنة أنصاب القبور وهي أصل فتنة عبادة الأصنام كما قاله السلف من الصحابة والتابعين وقد تقدم
ومن أعظم كيد الشيطان: أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله ثم يوحي إلى أوليائه: أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا وجعله وثنا فقد تنقصه وهضم حقه فيسعى الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفرونه وذنبه عند أهل الإشراك: أمره بما أمر الله به ورسوله ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله: من جعله وثنا وعيدا وإيقاد السرج عليه وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه وإشادته وتقبيله واستلامه ودعائه أو الدعاء به أو السفر إليه أو الاستغاثة به من دون الله مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله: من تجريد التوحيد لله وأن لا يعبد إلا الله فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون واشمأزت قلوبهم وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر وسرى ذلك في نفوس الجهال والطعام وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله ويأبى الله ذلك فما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له العارفون بما جاء به الداعون إليه لا المتشبعون بما لم يعطوا لابسو ثياب الزور الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم ويبغونها عوجا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
فصل

ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم صراط أهل نعمته ورحمته وكرامته أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانا وأعيادا وأنصابا والنهي عن اتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها وإيقاد السرج عليها والسفر إليها والنذر لها واستلامها وتقبيلها وتعفير الجباه في عرصاتها: غض من أصحابها ولا تنقيص لهم ولا تنقص كما يحسبه أهل الإشراك والضلال بل ذلك من إكرامهم وتعظيمهم واحترامهم ومتابعتهم فيما يحبونه وتجنب ما يكرهونه فأنت والله وليهم ومحبهم وناصر طريقتهم وسنتهم وعلى هديهم ومنهاجهم وهؤلاء المشركون أعصى الناس لهم وأبعدهم من هديهم ومتابعتهم كالنصارى مع المسيح واليهود مع موسى عليهما السلام والرافضة مع علي رضي الله عنه فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض
فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادة قبورهم والعكوف عليها واتخاذها أعيادا