فصل

فلما رأى آخرون ضعف هذه المسالك استروحوا إلى مسلك آخر وظنوا أنهم قد استروحوا به من كلفة التأويل ومشقته
فقالوا: الإجماع قد انعقد على لزوم الثلاث وهو أكبر من خبر الواحد كما قال الشافعي رحمه الله: الاجماع أكبر من الخبر المنفرد وذلك أن الخبر يجوز الخطأ والوهم على راويه بخلاف الاجماع فإنه معصوم
قالوا: ونحن نسوق عن الصحابة والتابعين ما يبين ذلك
فثبت في صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه أمضى عليهم الثلاث ووافقه الصحابة
قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان عن شفيق سمع أنسا يقول قال عمر: في الرجل يطلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها قال: هي ثلاث لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وكان إذا أتي به أوجعه
وروى البيهقي من حديث ابن أبي ليلى عن على رضي الله عنه فيمن طلق ثلاثا قبل الدخول قال: لا تحل حتى تنكح زوجا غيره
وروى حاتم ابن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على لا تحل له حتى تنكح غيره وروى أبو نعيم عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن بعض أصحابه قال جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: طلقت امرأتي ألفا فقال: ثلاث تحرمها عليك واقسم سائرها بين نسائك
وقال علقمة بن قيس: أتى رجل ابن مسعود رضي الله عنه فقال: إن رجلا طلق امرأته البارحة مائة قال: قلتها مرة واحدة قال: نعم قال: تريد أن تبين منك امرأتك قال: نعم قال: هو كما قلت وأتاه رجل فقال: إنه طلق امرأته البارحة عدد النجوم فقال له مثل ذلك ثم قال قد بين الله سبحانه أمر الطلاق فمن طلق كما أمره الله تعالى فقد بين له ومن لبس جعلنا عليه لبسه والله لا تلبسون إلا على أنفسكم ونتحمله عنكم هو كما تقولون
وروى مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس البكير قال: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه أسأل له فسأل أبا هريرة وابن عباس عن ذلك فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك قال: إنما كان طلاقي إياها واحدة فقال ابن عباس: إنك قد أرسلت من يدك ما كان لك من فضل
وفي الموطأ أيضا في هذه القصة أن ابن البكير سأل عنها ابن الزبير فقال: إن هذا لأمر مالنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة: فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما ثم ائتنا فأخبرنا فذهب فسألهما فقال ابن عباس لابي هريرة: أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال: أبو هريرة الواحد تبينها والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجا غيره وقال ابن عباس مثل ذلك
فهذه عائشة لم تنكر عليهما ولا ابن الزبير
وفي الموطأ أيضا: عن النعمان بن أبي عياش عن عطاء بن يسار قال جاء رجل يستفتي عبد الله بن عمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يمسها قال عطاء: فقلت: إنما طلاق البكر واحدة فقال لي عبد الله بن عمرو بن العاص: إنما أنت قاص الواحدة تبينها والثلاث تحرمها: حتى تنكح زوجا غيره
وروى عبيدالله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره
وروي البيهقي من حديث معاذ بن معاذ: حدثنا شعبة عن طارق بن عبد الرحمن: سمعت قيس بن أبي عاصم قال: سأل رجل المغيرة وأنا شاهد عن رجل طلق امرأته مائة فقال: ثلاثة تحرم وسبع وتسعون فضل
وروى البيهقي عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن فلما قتل علي رضي الله عنه قالت: لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين فقال: بقتل علي تظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق يعني ثلاثا فتلفعت بثيابها حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فقالت لما جاءها الرسول: متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى وقال: لولا أني سمعت جدي أو حدثني أبي أنه سمع جدي يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثة مبهمة لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره: لراجعتها
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عطاء بن السائب عن علي رضي الله عنه أنه قال في الحرام والبتة والبائن والخلية والبرية: ثلاثا ثلاثا قال شعبة: فلقيت عطاء فقلت: من حدثك عن هذا قال أبو البختري قال أحمد: وأنا أهابها ولا أجيب فيها لأنه يروي عن عامة الناس أنها ثلاث: علي وزيد وابن عمر وعامة التابعين وأما ابن عباس فروى عنه مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير ومعاوية بن أبي عياش وغيرهم: أنه ألزم الثلاث من أوقعها جملة قال الإمام أحمد وقد سأله الأثرم: بأي شيء ترد حديث ابن عباس كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما طلاق الثلاث واحدة بأي شىء تدفعه قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس: أنها ثلاث وإلى هذا نذهب
وذكر البيهقي: أن رجلا أتى عمران بن حصين وهو في المسجد فقال: رجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس فقال: أثم بربه وحرمت عليه امرأته فانطلق الرجل فذكر ذلك لأبي موسى يريد بذلك عيبه فقال: ألا ترى أن عمران قال كذا وكذا فقال أبو موسى: أكثر الله فينا مثل أبي نجيد
قالوا فهذا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعمران بن حصين والمغيرة بن شعبة والحسن بن علي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين
وأما التابعون فأكثر من أن يذكروا والإجماع يثبت بدون هذا ولهذا حكاه غير واحد منهم أبو بكر بن العربي وأبو بكر الرازي وهو ظاهر كلام الإمام أحمد فإنه
قال في رواية الأثرم وذكر قول من قال: إذا خالف السنة يرد إلى السنة: إنه ليس بشيء وقال هذا مذهب الرافضة وظاهر هذا: أن القول بالوقوع إجماع أهل السنة
قال الآخرون: قد عرفتم ما في دعوى الإجماع الذي لم يعلم فيه مخالف: أنه راجع إلى عدم العلم لا إلى العلم بانتفاء المخالف وعدم العلم ليس بعلم حتى يحتج به ويقدم على النصوص الثابتة هذا إذا لم يعلم مخالف فكيف إذا علم المخالف وحينئذ فتكون المسألة مسألة نزاع يجب ردها إلى الله تعالى ورسوله ومن أبى ذلك فهو إما جاهل مقلد وإما متعصب صاحب هوى عاص لله تعالى ورسوله متعرض للحوق الوعيد به فإن الله تعالى يقول: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر الآية [ النساء: 59 ] فإذا ثبت أن المسألة مسألة نزاع وجب قطعا ردها إلى كتاب الله وسنة رسوله وهذه
المسألة مسألة نزاع بلا نزاع بين أهل العلم الذين هم أهله والنزاع فيها من عهد الصحابة إلى وقتنا هذا
وبيان هذا من وجوه:
أحدها: ما رواه أبو داود وغيره من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة وهذا الإسناد على شرط البخاري
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب قال: دخل الحكم بن عيينة على الزهري بمكة وأنا معهم فسألوه عن البكر تطلق ثلاثا فقال: سئل عن ذلك ابن عباس وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره قال: فخرج الحكم وأنا معه فأتى طاوسا وهو في المسجد فأكب عليه فسأله عن قول ابن عباس فيها وأخبره بقول الزهري قال: فرأيت طاوسا رفع يديه تعجبا من ذلك وقال: والله ما كان ابن عباس يجعلها إلا واحدة
أخبرنا ابن جريح قال وأخبرني حسن بن مسلم عن ابن شهاب أن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا قال: فأخبرت طاوسا فقال أشهد ما كان ابن عباس يراهن إلا واحدة
فقوله إذا طلق ثلاثا ولم يجمع كن ثلاثا أي إذا كن متفرقات فدل على أنه إذا جمعهن كانت واحدة وهذا هو الذي حلف عليه طاوس: أن ابن عباس كان يجعله واحدة
ونحن لا نشك أن ابن عباس صح عنه خلاف ذلك وأنها ثلاث فهما روايتان: ثابتتان عن ابن عباس بلا شك
الوجه الثاني: أن هذا مذهب طاوس قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وأنه كان يقول: يطلقها واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن علية عن ليث عن طاوس وعطاء أنهما قالا: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة الوجه الثالث: أنه قول عطاء بن أبي رباح قال ابن أبي شيبة: حدثنا محمد بن بشر حدثنا إسمعيل عن قتادة عن طاوس وعطاء وجابر بن زيد أنهم قالوا: إذا طلقها ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة
الوجه الرابع: أنه قول جابر بن زيد كما تقدم
الوجه الخامس: أن هذا مذهب محمد بن إسحق عن داود عن الحصين حكاه عنه الإمام أحمد في رواية الأثرم ولفظه: حدثنا سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا فجعلها النبي واحدة قال أبو عبد الله: وكان هذا مذهب ابن إسحق يقول: خالف السنة فيرد إلى السنة
الوجه السادس: أنه مذهب إسحق بن راهوية في البكر قال محمد بن نصر المروزي في كتاب اختلاف العلماء له: وكان إسحق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة وتأول حديث طاوس عن ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر يجعل واحدة: على هذا قال: فإن قال لها ولم يدخل بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإن سفيان وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد وأبا عبيد قالوا: بانت منه بالأولى وليست الثنتان بشيءلأن غير المدخول بها تبين بواحدة ولا عدة عليها وقال مالك وربيعة وأهل المدينة والأوزاعي وابن أبي ليلى: إذا قال لها ثلاث مرات: أنت طالق نسقا متتابعة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره فإن هو سكت بين التطليقتين بانت بالأولى ولم تلحقها الثانية
فصار في وقوع الثلاث بغير المدخول بها ثلاث مذاهب للصحابة والتابعين ومن بعدهم
أحدها: أنها واحدة سواء قالها بلفظ واحد أو بثلاثة ألفاظ
والثاني: أنها ثلاث سواء أوقع الثلاث بلفظ واحد أو بثلاثة ألفاظ
والثالث: أنه إن أقوعها بلفظ واحد فهي ثلاث وإن أوقعها بثلاثة ألفاظ فهي واحد