قال الحافظ أبو بكر الاسماعيلي في مسند عمر: أخبرنا أبو يعلى: حدثنا صالح بن مالك: حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي وعلى أن لا أكون قتلت النوائح
ومن المعلوم أنه رضي الله عنه لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعي الذي أباحه الله تعالى وعلم بالضرورة من دين رسول الله جوازه ولا الطلاق المحرم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض وفي الطهر المجامع فيه ولا الطلاق قبل الدخول الذي قال الله تعالى فيه: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة. هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر رضي الله عنه أراده فتعين قطعا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك ولذلك قال: إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم وهذا كالصريح في أنه غير حرام عنده وإنما أمضاه لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى في التفريق فرغب عما فسحه الله تعالى له إلى الشدة والتغليظ فأمضاه عمر رضي الله عنه عليه فلما تبين له بأخرة ما فيه من الشر والفساد ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه وهذا هو مذهب الأكثرين: مالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله
فرأى عمر رضي الله عنه أن المفسدة تندفع بإلزامهم به فلما تبين له أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة أخبر أن الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله وأبي بكر وأول خلافة عمر رضي الله عنهما أولى من ذلك كله ولا يندفع الشر والفساد بغيره ألبتة ولا يصلح الناس سواه ولهذا لما رغب عنه كثير من الناس احتاجوا إلى أحد أمرين لا بد لهم منهما: إما الدخول فيما لعن رسول الله فاعله وتابع عليه اللعنة وإما التزام الآصار والأغلال ورؤية حبيبته حسرة
والذي شرعه الله تعالى ورسوله ودلت عليه السنة الصحيحة الصريحة يخلص من هذا وهذا ولكن تأبى حكمة الله تعالى أن يفتح للظالمين المتعدين لحدوده الراغبين عن تقواه وطاعته: أبواب الفرج واليسر والسهولة فإن الله سبحانه وتعالى إنما جعل ذلك لمن اتقاه والتزم طاعته وطاعة رسوله كما قال تعالى في السورة التي بين فيها الطلاق وأحكامه وحدوده وما شرعه لعباده: ومن يتق الله يجعل له مخرجا. وقال فيها: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا. وقال فيها: ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. فمن طلق على غير تقوى الله كان حقيقا أن لا يجعل الله له مخرجا وأن لا يجعل له من أمره يسرا
وقد أشار إلى هذا بعينه الصحابة حيث قال ابن عباس وابن مسعود لمن طلق ثلاثا جميعا: إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا
وقال شعبة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك وبانت منك امرأتك إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا ومن يتق الله يجعل له مخرجا.
وقال الأعمش: عن مالك بن الحارث عن ابن عباس: أن رجلا أتاه فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: إن عمك عصى الله فلم يجعل له مخرجا فأندمه الله تعالى وأطاع الشيطان فقال: أفلا يحللها له رجل فقال: من يخادع الله يخدعه
والله تعالى قد جرت سنته في خلقه بأن يحرم الطيبات شرعا وقدرا على من ظلم وتعدى حدوده وعصى أمره وأن ييسر للعسرى من بخل بما أمره به فلم يفعله واستغنى عن طاعته باتباع شهواته وهواه كما أنه سبحانه ييسر لليسرى من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فهذا نهاية أقدام الناس في باب الطلاق
يبقى أن يقال: فإذا خفي على أكثر الناس حكم الطلاق ولم يفرقوا بين الحلال والحرام منه جهلا وأوقعوا الطلاق المحرم يظنونه جائزا هل يستحقون العقوبة بالإلزام به لكونهم لم يتعلموا دينهم الذي أمرهم الله تعالى به وأعرضوا عنه ولم يسألوا أهل العلم: كيف يطلقون وماذا أبيح لهم من الطلاق وماذا يحرم عليهم منه أم يقال: لا يستحقون العقوبة لأن الله سبحانه لا يعاقب شرعا ولا قدرا إلا بعد قيام الحجة ومخالفة أمره كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا. وأجمع الناس على أن الحدود لا تجب إلا على عالم بالتحريم متعمد لارتكاب أسبابها والتعزيرات ملحقة بالحدود
فهذا موضع نظر واجتهاد وقد قال النبي التائب من الذنب كمن لا ذنب له فمن طلق على غير ما شرعه الله تعالى وأباحه جاهلا ثم علم به فندم وتاب فهو حقيق بأن لا يعاقب وأن يفتى بالمخرج الذي جعله الله تعالى لمن اتقاه ويجعل له من أمره يسرا
والمقصود: أن الناس لا بد لهم في باب الطلاق من أحد ثلاثة أبواب يدخلون منها: أحدها: باب العلم والاعتدال الذي بعث الله تعالى به رسوله وشرعه للأمة رحمة بهم وإحسانا إليهم
والثاني: باب الآصار والأغلال الذي فيه من العسر والشدة والمشقة ما فيه
والثالث: باب المكر والاحتيال الذي فيه من الخداع والتحيل والتلاعب بحدود الله تعالى واتخاذ آياته هزوا ما فيه ولكل باب من المطلقين وغيرهم جزء مقسوم