فصل
وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات وسد الذرائع عكس ذلك فبين البابين أعظم تناقض والشارع حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم لإفضائها إليه فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه فنهى الله تعالى عن سبع آلهة المشركين لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوا وكفرا على وجه المقابلة
وأخبر النبي أن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: وهل يشتم الرجل والديه قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه
ولما جاءت صفية رضي الله تعالى عنها تزوره وهو معتكف قام معها ليوصلها إلى بيتها فرآهما رجلان من الأنصار فقال: على رسلكما إنها صفية بنت حييي فقالا: سبحان الله ! يا رسول الله فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا
فسد الذريعة إلى ظنهما السوء بإعلامهما أنها صفية
وأمسك عن قتل المنافقين مع ما فيه من المصلحة لكونه ذريعة إلى التنفير وقول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه
وحرم القطرة من الخمر وإن لم تحصل بها مفسدة الكثير لكون قليلها ذريعة إلى شرب كثيرها
وحرم إمساكها للتخليل وجعلها نجسة لئلأ تفضي مقاربتها بوجه من الوجوه إلى شربها
ونهى عن الخليطين وعن شرب العصير والنبيذ بعد ثلاث وعن الانتباذ في الأوعية التي لا يعلم بتخمير النبيذ فيها حسما للمادة وسدا للذريعة
وحرم الخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها والنظر إليها لغير حاجة حسما للمادة وسدا للذريعة
ومنع النساء إذا خرجن إلى المسجد من الطيب والبخور
ومنعهن من التسبيح في الصلاة لنائبة تنوب بل جعل لهن التصفيق
ومنع المعتدة من الوفاة من الزينة والطيبب والحلي
ومنع الرجل من التصريح بخطبتها في العدة وإن كان إنما يعقد النكاح بعد انقضائها
ونهى المرأة أن تصف لزوجها امرأة غيرها حتى كأنه ينظر إليها
ونهى عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعله
ونهى عن تعلية القبور وتشريفها وأمر بتسويتها
ونهى عن البناء عليها وتجصيصها والكتابة عليها والصلاة إليها وعندها وإيقاد المصابيح عليها كل ذلك سدا لذريعة اتخاذها أوثانا وهذا كله حرام على من قصده ومن لم يقصده بل على من قصد خلافه سدا للذريعة
ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لكون هذين الوقتين وقت سجود الكفار للشمس ففي الصلاة نوع تشبه بهم في الظاهر وذلك ذريعة إلى الموافقة والمشابهة في الباطن وكذلك النهي عن الصلاة بعد العصر وبعد الفجر وإن لم يحضر وقت سجود الكفار للشمس مبالغة في هذا المقصود وحماية لجانب التوحيد وسدا لذريعة الشرك بكل ممكن
ومنع من التفرق في الصرف قبل التقابض وكذلك الربوي إذا بيع بربوي آخر من غير جنسه سدا لذريعة النساء الذي هو صلب الربا ومعظمه بل من منع بيع الدرهم
بالدرهمين نقداد سدا لذريعة ربا النساء كما علل بذلك في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه وهذا أحسن العلل في تحريم ربا الفضل
وحرم الجمع بين السلف والبيع لما فيه من الذريعة إلى الربح في السلف بأخذ أكثر مما أعطى والتوسل إلى ذلك أو الإجارة كما هو الواقع
ومنع البائع أن يشتري السلعة من مشتريها بأقل مما اشتراها به وهي مسألة العينة وإن لم يقصد الربا لكونه وسيلة ظاهرة واقعة إلى بيع خمسة عشر نسيئة بعشرة نقدا
وحرم جمع الشرطين في البيع لكونه وسيلة إلى ذلك وهو منطبق على مسألة العينة
ومنع من القرض الذي يجر النفع وجعله ربا
ومنع المقرض من قبول هدية المقترض ما لم يكن بينهما عادةجارية بذلك قبل القرض ففي سنن ابن ماجة عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال: سألت أنس بن مالك الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه فقال: قال رسول الله إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبنها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك
وروى البخاري في تاريخه عن يزيد بن أبي يحيى الهنائي عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله إذا أقرض أحدكم فلا يأخذ هدية
وفي صحيح البخاري عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: إنك بأرض الربا فيها فاش فإذا كان لك على رجل حقفأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا
وروى سعيد بن منصور في سننه هذا المعنى عن أبي بن كعب
وجاء عن ابن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمروونحوه
وكل ذلك سدا لذريعة أخذ الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل
ونهى عن بيع الكالىء بالكالىء وهو الدين المؤخر بالدين المؤخر لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة فلو كان الدينان حالين لم يمتنع لأنهما يسقطان جيعا من ذمتهما وفي الصورة المنهي عنها: ذريعة إلى تضاعف الدين في ذمة كل واحد منهما في مقابلة تأجيله وهذه مفسدة ربا النساء بعينها
ونهى الله سبحانه النساء أن: يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن. فلما كان الضرب بالرجل ذريعة إلى ظهور صوت الخلخال الذي هو ذريعة إلى ميل الرجال إليهن نهاهن عنه
وأمر الله سبحانه الرجال والنساء بغض أبصارهم لما كان النظر ذريعة إلى الميل والمحبة التي هي ذريعة إلى مواقعة المحظور
وحرم التجارة في الخمر وإن كان إنما يبيعها من كافر يستحل شربها فإن التجارة فيها ذريعة إلى اقتنائها وشربها ولهذا لما نزلت الآيات في تحريم الربا قرأها عليهم رسول الله وقرن بها تحريم التجارة في الخمر فإن الربا ذريعة إلى إفساد الأموال والخمر ذريعة إلى إفساد العقول: فجمع بين تحريم التجارة في هذا وهذا
ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين لئلا يتخذ ذريعة إلى الزيادة في الصوم الواجب كما فعل أهل الكتاب
ونهى عن التشبه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار في مواضع كثيرة لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة فأنه إذا أشبه الهدي الهدي أشبه القلب القلب وقد قال خالف هدينا هدي الكفار وفي المسند مرفوعا: من تشبه بقوم فهو منهم
وحرم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لكونه ذريعة إلى قطيعة الرحم وبهذه العلة بعينها علل رسول الله فقال: إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم
وأمر بالتسوية بين الأولاد في العطية وأخبر أن تخصيص بعضهم بها جور لا يصلح ولا تنبغي الشهادة عليه وأمر فاعله برده ووعظه وأمره بتقوى الله تعالى وأمره بالعدل لكون ذلك ذريعة ظاهرة قريبة جدا إلى وقوع العداوة بين الأولاد وقطيعة الرحم بينهم كما هو المشاهد عيانا فلو لم تأت السنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بالمنع منه لكان القياس وأصول الشريعة وما تضمنته من المصالح ودرء المفاسد يقتضي تحريمه
ومنع من نكاح الأمة لكونه ذريعة ظاهرة إلى استرقاق ولده ثم جوز وطأها بملك اليمين لزوال هذه المفسدة
ومنع من تجاوز أربع زوجات لكونه ذريعة ظاهرة إلى الجور وعدم العدل بينهن وقصر الرجال على الأربع فسحة لهم في التخلص من الزنى وإن وقع منهم بعض الجور فاحتماله أقل مفسدة من مفسدة الزنى
ومنع من عقد النكاح في حال العدة وحال الإحرام وإن تأخر الدخول إلى ما بعد انقضائها وحصول الحل لكون العقد ذريعة إلى الوطء والنفوس لا تصبر غالبا مع قوة الداعي
وشرط في النكاح شروطا زائدة على مجرد العقد فقطع عنه شبه بعض أنواع السفاح به كاشتراط إعلانه إما بالشهادة أو بترك الكتمان أو بهما واشتراط الولي ومنع المرأة أن تليه وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة وأوجب فيه المهر
ومنع هبة المرأة نفسها لغير النبي وسر ذلك: أن في ضد ذلك والإخلال به ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح كما في الأثر إن الزانية هي التي تزوج نفسها فإنه لا تشاء زانية تقول: زوجتك نفسي بكذا سرا من وليها بغير شهود ولا إعلان ولا وليمة ولا دف ولا صوت إلا فعلت ومعلوم قطعا أن مفسدة الزنى لا تنتفي بقولها: أنكحتك نفسي أو زوجتك نفسي أو أبحتك مني كذا وكذا فلو انتفت مفسدة الزنى بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجل فعظم الشارع أمر هذا العقد وسد الذريعة إلى مشابهته الزنى بكل طريق ثم أكد ذلك بأن جعل له حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن التوارث ولهذا كان الراجح في الدليل: أن الزنى لا يثبت حرمة المصاهرة كما لا يثبت التوارث والنفقة وحقوق الزوجية ولا يثبت به النسب ولا العدة على الصحيح وإنما تستبرأ بحيضة ليعلم براءة رحمها ولا يقع فيه طلاق ولا ظهار ولا إيلاء ولا يثبت المحرمية بينه وبين أمها وابنتها فلا يثبت حرمة المصاهرة ولا تحريمها فإن الشارع جعل وصلة الصهر فيه مع وصلة النسب وجمع بينهما في قوله: فجعله نسبا وصهرا. فإذا انتفت وصلة النسب فيه انتفت وصلة الصهر
وكنا ننصر القول بالتحريم ثم رأينا الرجوع إلى عدم التحريم أولى لاقتضاء الدليل له
وليس المقصود استيفاء أدلة المسئلة من الجانبين وإنما الغرض التنبيه على أن من قواعد الشرع العظيمة: قاعدة سد الذرائع
ومن ذلك: نهى النبي أن تقام الحدود في دار الحرب وأن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذلك ذريعة إلى لحاق المحدود بالكفار
ومن ذلك: أن المسلم إذا احتاج إلى التزوج بدار الحرب وخاف على نفسه الزنا عزل عن امرأته نص عليه أحمد لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن ينشأ ولده كافرا
ومن ذلك: أن الصحابة اتفقوا على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد وإن كان القصاص يقتضي المساواة لئلا يتخذ ذريعة إلى إهدار الدماء وتعاون الجماعة على قتل المعصوم
ومن ذلك: أن السكران لو قتل اقتص منه وإن كان في هذه الحالة لا قصد له لئلا يتخذ السكر ذريعة إلى قتل المعصوم وسقوط القصاص
ومن ذلك: نهيه سبحانه رسوله عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو لما كان ذريعة إلى سبهم للقرآن ومن أنزله
ومن ذلك: أنه سبحانه نهى الصحابة أن يقولوا للنبي راعنا. مع قصدهم المعنى الصحيح وهو المراعاة لئلا يتخذ اليهود هذه اللفظة ذريعة إلى السب ولئلا يتشبهوا بهم ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا
ومن ذلك: أنه كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود أو شجرة أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد له صمدا سدا لذريعة التشبه بالسجود لغير الله تعالى
ومن ذلك: أنه أمر المأمومين أن يصلوا جلوسا إذا صلى إمامهم جالسا سدا لذريعة التشبه بفارس والروم في قيامهم على ملوكهم وهم قعود ومن ذلك: أن النبي منع الرجل من أخذ نظير حقه بصورة الخيانة ممن خانه وجحد حقه وإن كان إنما يأخذ حقه أو دونه فقال لمن سأله عن ذلك: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك لأن ذلك ذريعة إلى إساءة الظن به ونسبته إلى الخيانة ولا يمكنه أن يحتج عن نفسه ويقيم عذره مع أن ذلك أيضا ذريعة إلى أن لا يقتصر على قدر الحق وصفته فإن النفوس لا تقتصر في الاستيفاء غالبا على قدر الحق
ومن ذلك: أن سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع من يد المشتري سدا لذريعة المفسدة الناشئة من الشركة والمخالطة بحسب الإمكان وقبل البيع ليس أحدهما أولى بانتزاع نصيب شريكه من الآخر فإذا رغب عنه وعرضه للبيع كان شريكه أحق به لما فيه من إزالة الضرر عنه وعدم تضرره هو فإنه يأخذه بالثمن الذي يأخذه به الأجنبي ولهذا كان الحق: أنه لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة ولا تسقط بالاحتيال فإن الاحتيال على إسقاطها يعود على الحكمة التي شرعت لها بالنقض والإبطال
ومن ذلك: أنه لا يقبل شهادة العدو ولا الظنين في تهمة أو قرابة ولا الشريك فيما هو شريك فيه ولا الوصي فيما هو وصي فيه ولا الولد على ضرة أمه ولا يحكم القاضي بعلمه كل ذلك سدا لذريعة التهمة والغرض الفاسد
ومن ذلك: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وإفراد يوم الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى الابتداع في الدين بتخصيص زمان لم يخصه الشارع بالعبادة ومن ذلك: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بقطع الشجرة التي كانت تحتها البيعة وأمر بإخفاء قبر دانيال سدا لذريعة الشرك والفتنة ونهى عن تعمد الصلاة في الأمكنة التي كان رسول الله ينزل بها في سفره وقال: أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فلا
ومن ذلك: جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه الأمة على حرف واحد من الأحرف السبعة لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعة إلى اختلافهم في القرآن ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم
ومن ذلك: أن النبي أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره وبصبغ نعله الذي قلده به بدمه ويخلي بينه وبين المساكين ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته قالوا: لأنه لو جاز له أن يأكل منه أو أحد من رفقته قبل بلوغ المحل لخادعته نفسه إلى أن يقصر في علفه وحفظه حتى يشارف العطب فينحره فسد الشارع الذريعة ومنعه ورفقته من الأكل منه
ومن ذلك: نهيه عن الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء كخطبة الرجل على خطبة أخيه وسومه على سومه وبيعه على بيعه وسؤال المرأة طلاق ضرتها وقال: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما سدزا لذريعة الفتنة والفرقة
ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه والأمة في تلك الشرور إلى الآن
ومن ذلك: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب والمجالس لئلا تفضي مشابهتهم للمسلمين في ذلك إلى معاملتهم معاملة المسلمين: في الإكرام والاحترام ففي إلزامهم بتمييزهم عنهم سدا لهذه الذريعة
ومن ذلك: منعه من بيع القلادة التي فيها خرز وذهب بذهب لئلا يتخذ ذريعة إلى بيع الذهب بالذهب متفاضلا إذا ضم إلى أحدهما خرز أو نحوه
ولو لم يكن في هذا الباب إلا أن الله سبحانه وتعالى أوجب إقامة الحدود سدا للذريعة إلى الجرائم إذا لم يكن عليها وازع طبيعي وجعل مقادير عقوباتها وأجناسها وصفاتها بحسب مفاسدها في نفسها وقوة الداعي إليها وتقاضي الطباع لها
وبالجملة فالمحرمات قسمان: مفاسد وذرائع موصلة إليها مطلوبة الإعدام كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام
والقربات نوعان: مصالح للعباد وذرائع موصلة إليها ففتح باب الذرائع في النوع الأول كسد باب الذرائع في النوع الثاني وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة فبين باب الحيل وباب سدع الذرائع أعظم تناقض
وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التي جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها: أن تجوز فتح باب الحيل وطرق المكر على إسقاط واجباتها واستباحة محرماتها والتذرع إلى حصول المفاسد التي قصدت دفعها
وإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به ذلك المحرم أو بأن لا يقصد به وإنما يقصد به المباح نفسه لكن قد يكون ذريعة إلى المحرم يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة راجحة تقتضى حله فالتذرع إلى المحرمات بالاحتيال عليها أولى أن يكون حراما وأولى بالإبطال والإهدار إذا عرف قصد فاعله وأولى أن لا يعان فاعله عليه وأن يعامل بنقيض قصده وأن يبطل عليه كيده ومكره
وهذا بحمد الله تعالى بين لمن له فقه وفهم في الشرع ومقاصده
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة فإن الشارع يسد الطريق إلى ذلك المحرم بكل ممكن والمحتال يتوسل إليه بكل ممكن ولهذا اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح وغيرها شروطا سد ببعضها التذرع إلى الربا والزنا وكمل بها مقصود العقود ولم يمكن المحتال الخروج منها في الظاهر ومن يريد الاحتيال على ما منع الشارع منه فيأتي بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سد الشارع لذريعة إليه لم يبق لتلك الشروط التي أتى بها فائدة ولا حقيقة بل تبقى بمنزلة العبث واللعب وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة
قال: واعتبر هذا بالشفعة فإن الشارع أباح انتزاع الشقص من مشتريه والشارع لا يخرج الملك عن مالكه بقيمة أو غيرها إلا لمصلحة راجحة وكانت المصلحة هكهنا تكميل العقار للشريك فإنه بذلك يزول ضرر المشاركة والمقاسمة وليس في هذا التكميل ضرر على البائع لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشتري شريكا كان أو أجنبيا فالمحتال لإسقاطها مناقض لمقصود الشارع مضاد له في حكمه فالشارع يقول: لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك والمحتال يقول: لك أن تتحيل على منع الشريك من الأخذ بأنواع من الحيل التى ظاهرها مكر وخداع وباطنها منع الشريك مما أباحه له الشارع ومكنه منه وتفويت نفس مقصود الشارع والمصيبة الكبرى: إظهار المحتال أنه إنما فعل ما أذن له الشارع في فعله وأنه مكنه من الخداع والمكر والتحيل على إسقاط حق الشريك وهذا بين لمن تأمله
قال: والمقصود: بيان تحريم الحيل وأن صاحبها متعرض لسخط الله تعالى وأليم عقابه ويترتب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان وذلك في كل حيلة بحسبها فلا يخلو الاحتيال إما أن يكون من واحد أو اثنين فأكثر فإن كان من اثنين فأكثر فإن كان عقد بيع تواطآ عليه تحيلا على الربا كما في العينة حكم بفساد العقدين ويرد إلى الأول رأس ماله كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربا لا يحل الانتفاع به بل يجب رده إن كان باقيا وبدله إن كان تالفا وكذلك إن جمعا بين بيع وقرض أو إجارة وقرض أو مضاربة أو شركة أو مساقاة أو مزارعة وقرض حكم بفسادهما فيجب أن يرد عليه بدل ماله الذي جعلاه قرضا والعقد الآخر فاسد حكمه حكم العقود الفاسدة وكذلك إن كان نكاحا تواطآ عليه كان حكمه حكم الأنكحة الفاسدة وكذلك إن تواطآ على هبة أو بيع لإسقاط الزكاة أو على هبة لتصحيح نكاح فاسد أو وقف فاسد مثل أن تريد مواقعة مملوكها فتهبه لرجل فيزوجها به فإذا قضت وطرها منه استوهبته من الرجل فوهبها إياه فانفسخ النكاح فهذا البيع والهبة فاسدان في جميع الأحكام
وإن كان الاحتيال من واحد فإن كانت الحيلة يستقل بها لم يحصل بها غرضه فإن كانت عقدا كان فاسدا مثل أن يهب لابنه هبة يريد أن يرجع فيها لئلا يجب عليه الزكاة فإن وجود هذه الهبة كعدمها ليست هبة في شيء من الأحكام لكن إن ظهر المقصود ترتب الحكم عليه ظاهرا وباطنا وإلا كانت فاسدة في الباطن فقط وإن كانت حيلة لا يستقل بها مثل أن ينوي التحليل ولا يظهره للزوجة أو يرتجع المرأة إضرارا بها أو يهب ماله إضرارا للورثة ونحو ذلك كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضه باطلة فلا يحل له وطء المرأة ولا يرثها لو ماتت وإذا علم الموهوب له أو الموصى له غرضه باطلا: لم يحصل له الملك في الباطن فلا يحل له الانتفاع به بل يجب رده إلى مستحقه وأما بالنسبة إلى العاقد الآخر الذي لم يعلم فإنه صحيح يفيد مقصود العقود الصحيحة ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة
وإن كانت الحيلة له وعليه كطلاق المريض صح الطلاق من جهة أنه أزال ملكه ولم يصح من جهة أنه يمنع الإرث فإنه إنما منع من قطع الإرث لا من إزالة ملك البضع
وإن كانت الحيلة فعلا يفضي إلى غرض له مثل أن يسافر في الصيف ليتأخر عنه الصوم إلى الشتاء لم يحصل غرضه بل يجب عليه الصوم في هذا السفر
قلت: ونظير هذا ما قالت المالكية: إنه لا يستبيح رخصة المسح على الخفين إذا لبسهما لنفس المسح فلو مسح لذلك لم يجزه وعليه إعادة الصلاة أبدا وإنما تثبت الرخصة في حق من لبسهما لحاجة كالبرد والركوب ونحوهما فيمسح عليهما لمشقة النزع
وخالفهم باقي الفقهاء في ذلك والمنع جار على أصول من راعى المقاصد
قال شيخنا: وإن كان يفضي إلى سقوط حق غيره مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه لينفسخ نكاحه أو مثل أن تباشر المرأة ابن زوجها أو أباه عند من يرى ذلك موجبا للتحريم فهذه الحيل بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصب لا يمكن إبطالها لأن حرمة المرأة بهذا السبب حق الله تعالى يترتب عليه فسخ النكاح ضمنا والأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل فضلا عن القصد وهذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة مائع فإن تنجيس المائعات بالمخالطة وتحريم المصاهرة بالمباشرة أحكام تثبت بأمور حسية فلا ترفع الأحكام مع وجود تلك الأسباب
قلت: هذا كان قول الشيخ أولا ثم رجع إلى أن تحريم المصاهرة لا يثبت بالمباشرة المحرمة وحينئذ فصورة ذلك: أن ترضع ابنته الكبيرة أو أمته امرأته الصغيرة لينفسخ نكاحها فإن فسخ النكاح ههنا لا يتوقف على العقل ولا على القصد بل لو كانت المرضعة مجنونة يثبت التحريم فهو بمنزلة أن يلقي في مائعه ما ينجسه
قال: وإن كانت الحيلة فعلا يفضي إلى تحليل له أو لغيره مثل أن يقتل رجلا ليتزوج امرأته أو يزوجها غيره فههنا تحل المرأة لغير من قصد تزويجها به فإنها بالنسبة إليه كمن مات عنها زوجها أو قتل بحق أو في سبيل الله وأما بالنسبة إلى من قصد بالقتل أن يتزوج المرأة إما بمواطأة منها أو بدونها فهذا يشبه من بعض الوجوه ما لو خلل الخمر بنقلها من موضع إلى موضع من غير أن يطرح فيها شيئا والصحيح: أنها لا تطهر وإن كانت تطهر إذا تخللت بفعل الله تعالى وكذلك هذا الرجل لو مات بدون هذا القصد حلت المرأة فإذا قتله لهذا القصد أمكن أن يقال: تحرم عليه مع حلها لغيره ويشبه هذا: الحلال إذا صاد الصيد وذبحه لحرام فإنه يحرم على ذلك المحرم ويحل للحلال
ومما يؤيد هذا: أن القاتل يمنع الإرث ولا يمنعه غيره من الورثة لكن لما كان مال الرجل تتطلع إليه نفوس الورثة كان القتل مما يقصد به المال بخلاف الزوجة فإن ذلك لا يكاد يقصد فإن التفات الرجل إلى امرأة غيره بالنسبة إلى التفات الورثة إلى مال المورث قليل وكونه يقتله ليتزوجها فهذا أقل فلذلك لم يشرع أن من قتل رجلا حرمت عليه امرأته كما شرع أن من قتل مورثا منع ميراثه فإذا قتله ليتزوج بها فقد وجدت الحكمة فيه فيعاقب بنقيض قصده وأكثر ما يقال في رد هذا: أن الأفعال المحرمة لحق الله تعالى لا تفيد الحل كذبح الصيد وتخليل الخمر والتذكية في غير المحل أما المحرم لحق الآدمي كذبح المغصوب فإنه يفيد الحل أو يقال: إن الفعل المشروع لثبوت الحكم يشترط فيه وقوعه على الوجه المشروع كالذكاة والقتل لم يشرع لحل المرأة وإنما انقضاء النكاح بانقضاء الأجل فحصل الحل ضمنا وتبعا
ويمكن أن يقال في جواب هذا: إن قتل الآدمي حرام لحق الله تعالى وحقالآدمي ولهذا لا يستباح بالإباحة بخلاف ذبح المغصوب فإنه حرم لمحض حق الآدمي ولهذا لو أباحه حل فالمحرم هناك إنما هو تفويت المالية على المالك لا إزهاق الروح وقد اختلف في الذبح بآلة مغصوبة وفيه عن أحمد روايتان واختلف العلماء في ذبح المغصوب وقد نص أحمد على أنه ذكي وفيه حديث رافع ابن خديج في ذبح الغنم المنهوبة والحديث الآخر في المرأة التي أضافت النبي فذبحت له شاة أخذتها بدون إذن أهلها فقال: أطعموها الأسارى وفي هذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع من أكله المذبوح له دون غيره كالصيد إذا ذبحه الحلال لحرام حرم على الحرام دون الحلال وقد نقل صالح عن أبيه فيمن سرق شاة فذبحها لا يحل أكلها يعني له قلت لأبي: فإن ردها على صاحبها قال: تؤكل فهذه الرواية قد يؤخذ منها أنها حرام على الذابح مطلقا لأن أحمد لو قصد التحريم من جهة أن المالك لم يأذن له في الأكل لم يخص الذابح بالتحريم فهذا القول الذي دل عليه الحديث في الحقيقة حجة لتحريم مثل هذه المرأة على القاتل ليتزوجها دون غيره بطريق الأولى هذا كله كلام شيخنا
وبعد فالتحريم مطرد على قواعد أحمد ومالك من وجوه متعددة
منها مقابلة الفاعل بنقيض قصده كطلاق الفار وقاتل مورثه وقاتل الموصي والمدبر إذا قتل سيده
ومنها: سد الذرائع
ومنها: تحريم الحيل
ومنها تخليل الخمر كما ذكره شيخنا والله تعالى أعلم
قال: فتلخص أن الحيل نوعان: أقوال وأفعال
فالأقوال يشترط لثبوت أحكامها العقل ويعتبر فيها القصد وتكون صحيحة تارة وفاسدة أخرى
ثم ما ثبت حكمه منه ما يمكن فسخه ورفعه بعد وقوعه كالبيع والنكاح ومنه ما لا يمكن فيه ذلك كالعتق والطلاق
فهذا الضرب إذا قصد به الاحتيال على فعل محرم أو إسقاط واجب أمكن إبطاله إما من جميع الوجوه وإما من الوجه الذي يبطل مقصود المحتال بحيث لا يترتب عليه الحكم المحتال على حصوله كما حكم به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في طلاق الفار
وأما الأفعال: فإن اقتضت الرخصة للمحتال لم تحصل كالسفر والفطر وإن اقتضت تحريما على الغير فإنه قد يقع وتكون بمنزلة إتلاف النفس والمال وإن اقتضت حلا عاما إما بنفسها أو بواسطة زوال الملك فهذه مسألة القتل وذبح الصيد للحلال وذبح المغصوب للغاصب
وبالجملة: فإذا قصد بالفعل استباحة محرم لم يحل له وإن قصد إزالة ملك الغير ليحل له فالأقيس: أن لا يحل له أيضا وإن حل لغيره
وقد دخل في القسم الأول احتيال المرأة على فسخ النكاح بالردة فهي لا تمشي غالبا إلا عند من يقول: الفرقة تنجز بنفس الرعدة أو يقول: بأنها لا تقتل فالواجب في مثل هذه الحيلة: أن لا ينفسخ بها النكاح وإذا علم الحاكم أنها ارتدت لذلك لم يفرق بينهما وتكون مرتدة من حيث العقوبة والقتل غير مرتدة من حيث فساد النكاح حتى لو توفيت أو قتلت قبل الرجوع استحق ميراثها لكن لا يجوز له وطؤها في حالة الردة فإن الزوجة قد يحرم وطؤها بأسباب من جهتها كما لو أحرمت لكن لو ثبت أنها ارتدت ثم قالت: إنما ارتددت لفسخ النكاح لم يقبل هذا فإنه قد يجعل ذريعة إلى عود نكاح كل مرتدة بأن تلقن أنها إنما ارتدت للفسخ ولأنها متهمة في ذلك ولأن الأصل أنها مرتدة في جميع الأحكام
فصل
وقد استدل البخاري في صحيحه على بطلان الحيل بقوله لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة
فإن هذا النهي يعم ما قبل الحول وما بعده
واحتج بقوله في الطاعون: إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه
وهذا من دقة فقهه رحمه الله فإنه إذا كان قد نهى عن الفرار من قدر الله تعالى إذا نزل بالعبد رضا بقضاء الله تعالى وتسليما لحكمه فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد
واحتج بأنه نهى عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ
فدل على أن الشيء الذي هو في نفسه غير محرم إذا قصد به أمر محرم صار محرما
واحتج أحمد رحمه الله على بطلان الحيل وتحريمها بلعنة رسول الله للمحلل وبقوله: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل
واحتج على تحريم الحيل لإسقاط الشفعة بقوله: فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه
واحتج ابن عباس وبعده أيوب السختياني وغيره من السلف: بأن الحيل مخادعة لله تعالى وقد قال تعالى: يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم. قال ابن عباس: ومن يخادع الله يخدعه
ولا ريب أن من تدبر القرآن والسنة ومقاصد الشارع جزم بتحريم الحيل وبطلانها فإن القرآن دل على أن المقاصد والنيات معتبرة في التصرف والعادات كما هي معتبرة في القربات والعبادات فيجعل الفعل حلالا أو حراما وصحيحا أو فاسدا وصحيحا من وجه فاسدا من وجه كما أن القصد والنية في العبادات تجعلها كذلك
وشواهد هذه القاعدة كثيرة جدا في الكتاب والسنة فمنها: قوله تعالى في آية الرجعة ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا. وذلك نص في أن الرجعة إنما تثبت لمن قصد الصلاح دون الضرار فإذا قصد الضرار لم يملكه الله تعالى الرجعة
ومنها: قوله تعالى في آية الخلع: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به. وهذا دليل على أن الخلع المأذون فيه إنما هو إذا خاف الزوجان أن لا يقيما حدود الله وأن النكاح الثاني إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله فإنه شرط في الخلع عدم خوف إقامة حدوده وشرط في العود ظن إقامة حدوده
ومنها: قوله تعالى في آية الفرائض من بعد وصية يوصى بها أودين غير مضار. فإنه سبحانه وتعالى إنما قدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة فإذا كانت الوصية وصية ضرار كانت حراما وكان للورثة إبطالها وحرم على الموصى له أخذ ذلك بدون رضا الورثة وأكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله: تلك حدود الله فلا تعتدوها.
وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار في هذه الآية دون التي قبلها لأن الأولى تضمنت ميراث العمودين والثانية تضمنت ميراث الأطراف: من الزوجين والإخوة والعادة أن الميت قد يضار زوجته وإخوته ولا يكاد يضار والديه وولده
والضرار نوعان: جنف وإثم فإنه قد يقصد الضرار وهو الإثم وقد يضار من غير قصد وهو الجنف فمن أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار قصد أو لم يقصد فللوارث رد هذه الوصية وإن أوصى بالثلث فما دون ولم يعلم أنه قصد الضرار وجب إمضاؤها
فإن علم الموصى له أن الموصى إنما أوصى ضرارا لم يحل له الأخذ ولو اعترف الموصي أنه إنما أوصى ضرارا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية
وقد جوز سبحانه وتعالى إبطال وصية الجنف والإثم وأن يصلح الوصي أو غيره بين الورثة والموصى له فقال تعالى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه. وكذلك إذا ظهر للحاكم أو الوصى الجنف أو الإثم في الوقف ومصرفه أو بعض شروطه فأبطل ذلك كان مصلحا لا مفسدا وليس له أن يعين الواقف على إمضاء الجنف والإثم ولا يصحح هذا الشرط ولا يحكم به فإن الشارع قد رده وأبطله فليس له أن يصحح ما رده الشارع وحرمه فإن ذلك مضادة له ومنقاضة
ومن ذلك: قوله تعالى: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. فهذا دليل على أنه إذا عضلها لتفتدي نفسها منه وهو ظالم لها بذلك لم يحل له أخذ ما بذلته له ولا يملكه بذلك
ومن ذلك: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن. فحرم سبحانه وتعالى أن يأخذ مها شيئا مما آتاها إذا كان قد توسل إليه بالعضل
ومن ذلك: أن جداد النخل عمل مباح أي وقت شاء صاحبه لكن لما قصد به أصحابه في الليل حرمان الفقراء عاقبهم الله تعالى بإهلاكه ثم قال: ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون. ثم جاءت السنة بكراهة الجداد بالليل لكونه ذريعة إلى هذه المفسدة ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره
فصل
قال أصحاب الحيل: قد أسمعتمونا على بطلان الحيل وتحريمها ما فيه كفاية فاسمعوا الآن على جوازها واستحبابها ما نقيم به عذرنا
قال الله سبحانه وتعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم فالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم.
ووجه الاستدلال: أنه سبحانه وتعالى إنما عذرهم بتخلفهم وعجزهم إذ لم يستطيعوا حيلة يتخلصون بها من المقام بين أظهر الكفار وهو حرام فعلم أن الحيلة التي تخلص من الحرام مستحبة مأذون فيها وعامة الحيل التي تنكرونها علينا هي من هذا الباب فإنها حيل تخلص من الحرام ولهذا سمى بعض من صنف في ذلك كتابه المخارج الحرام والتخلص من الآثام واعتبر هذا بحيلة العينة فإنها تخلص من الربا المحرم
وكذلك الجمع بن الإجارة والمساقاة يخلص من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وهو حرام
وكذلك خلع اليمين يخلص من وقوع الطلاق الذي هو حرام أو مكروه أو من مواقعة المرأة بعد الحنث وهو حرام وكذلك هبة الرجل ماله قل الحول لولده أو امرأته يخلصه من إثم منع الزكاة كما يتخلص من إثم المنع بإخراجها فهما طريقان للتخلص
فالحيل تخلعص من الحرج وتخلص من الإثم والله تعالى قد نفى الحرج عنا وعن ديننا وندبنا إلى التخلص منه ومن الآثام فمن أفضل الأشياء معرفة ما يخلصنا من هذا وهذا وتعليمه وفتح طريقه
ألا ترى أن الرجل إذا حلف بالطلاق: ليقتلن أباه أو ليشربن الخمر أو ليزنين بامرأة ونحو ذلك كانت الحيلة تخليصه من مفسدة فعل ذلك ومن مفسدة خراب بيته ومفارقة أهله فإن من لا يرى الحيلة ليس له عنده مخرج إلا بوقوع الطلاق فإذا علم أنه يقع به الطلاق فزال فعل المحلوف عليه فأي شيء أفضل من تخلصيه من هذا وهذا
وكذلك من وقع عليه الطلاق الثلاث ولا صبر له عن امرأته ويرى اتصالها بغيره أشد من موته فاحتلنا له بأن زوجناها بعبد فوطئها ثم وهبناه منها فانفسخ نكاحه وحلت لزوجها المطلق بعد انقضاء عدتها
قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام وقد حلف ليجلدن امرأته مائة: وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث. قال سعيد عن قتادة: كانت امرأته قد عرضت له بأمر وأرادها إبليس على شيء فقال لها: لو تكلمت بكذا وكذا إنما حملها عليها الجوع فحلف نبي الله لئن شفاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة قال: فأمر بأصل فيه تسعة وتسعون قضيبا والأصل تكملة المائة فيضربها به ضربة واحدة فأبر الله تعالى نبيه وخفف عن أمته
وقال عبد الرحمن بن جبير: لقيها إبليس فقال لها: والله لو تكلم صاحبك بكلمة واحدة لكشف عنه كل ضر ولرجع إليه ماله وولده فأخبرت أيوب فقال: ويلك ذاك عدو الله إنما مثلك مثل المرأة الزانية إذا جاءها صديقها بشيء قبلته وأدخلته وإن لم يأتها بشيء طردته وأغلقت بابها عنه لما أعطانا الله تعالى المال والولد آمنا به وإذا قبض الذي له منا نكفر به إن أقامني الله تعالى من مرضي لأجلدنك مائة فأفتاه الله بما أخبر به: أن يأخذ ضغثا وهو الحزمة من الشيء مثل الشماريخ الرطبة والعيدان ونحوها مما هو قائم على ساق فيضربها ضربة واحدة وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلص من الآثام والمخرج من الحرج بأيسر شيء وهذا أصلنا في باب الحيل فإنا قسنا على هذا وجعلناه أصلا قالوا: وقد أرشد النبي ص إلى التخلص من صريح الربا بأن يبيع التمر بدراهم ثم يشتري بتلك الدراهم تمرا وروى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: جاء بلال إلى النبي صص بتمر برنيي فقال له النبي ص من أين هذا قال: كان عندنا تمر ردىء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي ص فقال له النبي ص عند ذلك: أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر بالدراهم ثم اشتر به متفق عليه
وفي لفظ آخر بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا والجمع والجنيب نوعان من التمر
وفي لفظ لمسلم بعه بسلعة ثم ابتع بسلعتك أي التمر شئت فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم أو السلعة ثم يبتاع بها تمرا وهذا ضرب من الحيلة ولم يفرق بين بيعه ممن يشتري منه التمر أو من غيره وقد جاء قوله تعالى إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم. وهذا إرشاد إلى حيلة العينة وما يشبهها فإن السلعة تدور بين المتعاقدين للتخلص من الربا
قالوا: وقد دلت السنة على أنه يجوز للإنسان أن يتخلص من القول الذي يأثم به أو يخاف: بالمعاريض وهي حيلة في الأقوال كما أن تلك حيلة في الأعمال
فروى قيس بن الربيع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن في معاريض الكلام ما يغني الرجل عن الكذب
وقال الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم
وقال الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول لم أسمع رسول الله ص يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث: الرجل يصلح بين الناس والرجل يكذب لامرأته والكذب في الحرب ومعنى الكذب في ذلك هو المعاريض لا صريح الكذب
وقال منصور: كان لهم كلام يدرءون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا وقد لقي رسول الله ص طليعة للمشركين وهو في نفر من أصحابه فقال المشركون: ممن أنتم فقال النبي ص نحن من ماء ! فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: أحياء اليمن كثير لعلهم منهم وانصرفوا وأراد ص بقوله نحن من ماء قوله تعالى: خلق من ماء دافق.
ولما وطىء عبد الله بن رواحة جاريته أبصرته امرأته فأخذت السكين وجاءته فوجدته قد قضى حاجته فقالت: لو رأيتك حيث كنت لوجأت بها في عنقك فقال: ما فعلت فقالت: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن فقال:
شهدت بأن وعد الله حق... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد... ملائكة الإله مسومينا
فقالت: آمنت بكتاب الله وكذبت بصري فبلغ ذلك رسول الله ص فضحك حتى بدت نواجذه
قال ابن عبد البر: ثبت ذلك عن عبد الله بن رواحة
ويذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: عجبت لمن يعرف المعاريض كيف يكذب
ودعي أبو هريرة رضي الله عنه إلى طعام فقال: إني صائم ثم رأوه يأكل فقالوا: ألم تقل: إني صائم فقال: ألم يقل رسول الله ص صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر
وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شيء معه قال: أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله تعالى فيظن أنه أراد يومه والذي يليه وإنما أراد يومي الدنيا والآخرة
وذكر الأعمش عن إبراهيم أنه قال له رجل: إن فلانا أمرني أن آتي مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان فكيف الحيلة فقال له: قل: والله ما أبصر إلا ما سددني غيري يعني إلا ما بصرك ربك
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)