ومنع من تجاوز أربع زوجات لكونه ذريعة ظاهرة إلى الجور وعدم العدل بينهن وقصر الرجال على الأربع فسحة لهم في التخلص من الزنى وإن وقع منهم بعض الجور فاحتماله أقل مفسدة من مفسدة الزنى
ومنع من عقد النكاح في حال العدة وحال الإحرام وإن تأخر الدخول إلى ما بعد انقضائها وحصول الحل لكون العقد ذريعة إلى الوطء والنفوس لا تصبر غالبا مع قوة الداعي
وشرط في النكاح شروطا زائدة على مجرد العقد فقطع عنه شبه بعض أنواع السفاح به كاشتراط إعلانه إما بالشهادة أو بترك الكتمان أو بهما واشتراط الولي ومنع المرأة أن تليه وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة وأوجب فيه المهر
ومنع هبة المرأة نفسها لغير النبي وسر ذلك: أن في ضد ذلك والإخلال به ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح كما في الأثر إن الزانية هي التي تزوج نفسها فإنه لا تشاء زانية تقول: زوجتك نفسي بكذا سرا من وليها بغير شهود ولا إعلان ولا وليمة ولا دف ولا صوت إلا فعلت ومعلوم قطعا أن مفسدة الزنى لا تنتفي بقولها: أنكحتك نفسي أو زوجتك نفسي أو أبحتك مني كذا وكذا فلو انتفت مفسدة الزنى بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجل فعظم الشارع أمر هذا العقد وسد الذريعة إلى مشابهته الزنى بكل طريق ثم أكد ذلك بأن جعل له حريما من العدة يزيد على مقدار الاستبراء وأثبت له أحكاما من المصاهرة وحرمتها ومن التوارث ولهذا كان الراجح في الدليل: أن الزنى لا يثبت حرمة المصاهرة كما لا يثبت التوارث والنفقة وحقوق الزوجية ولا يثبت به النسب ولا العدة على الصحيح وإنما تستبرأ بحيضة ليعلم براءة رحمها ولا يقع فيه طلاق ولا ظهار ولا إيلاء ولا يثبت المحرمية بينه وبين أمها وابنتها فلا يثبت حرمة المصاهرة ولا تحريمها فإن الشارع جعل وصلة الصهر فيه مع وصلة النسب وجمع بينهما في قوله: فجعله نسبا وصهرا. فإذا انتفت وصلة النسب فيه انتفت وصلة الصهر
وكنا ننصر القول بالتحريم ثم رأينا الرجوع إلى عدم التحريم أولى لاقتضاء الدليل له
وليس المقصود استيفاء أدلة المسئلة من الجانبين وإنما الغرض التنبيه على أن من قواعد الشرع العظيمة: قاعدة سد الذرائع
ومن ذلك: نهى النبي أن تقام الحدود في دار الحرب وأن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذلك ذريعة إلى لحاق المحدود بالكفار
ومن ذلك: أن المسلم إذا احتاج إلى التزوج بدار الحرب وخاف على نفسه الزنا عزل عن امرأته نص عليه أحمد لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن ينشأ ولده كافرا
ومن ذلك: أن الصحابة اتفقوا على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد وإن كان القصاص يقتضي المساواة لئلا يتخذ ذريعة إلى إهدار الدماء وتعاون الجماعة على قتل المعصوم
ومن ذلك: أن السكران لو قتل اقتص منه وإن كان في هذه الحالة لا قصد له لئلا يتخذ السكر ذريعة إلى قتل المعصوم وسقوط القصاص
ومن ذلك: نهيه سبحانه رسوله عن الجهر بالقرآن بحضرة العدو لما كان ذريعة إلى سبهم للقرآن ومن أنزله
ومن ذلك: أنه سبحانه نهى الصحابة أن يقولوا للنبي راعنا. مع قصدهم المعنى الصحيح وهو المراعاة لئلا يتخذ اليهود هذه اللفظة ذريعة إلى السب ولئلا يتشبهوا بهم ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدا
ومن ذلك: أنه كره الصلاة إلى ما قد عبد من دون الله وأحب لمن صلى إلى عمود أو عود أو شجرة أن يجعله على أحد حاجبيه ولا يصمد له صمدا سدا لذريعة التشبه بالسجود لغير الله تعالى
ومن ذلك: أنه أمر المأمومين أن يصلوا جلوسا إذا صلى إمامهم جالسا سدا لذريعة التشبه بفارس والروم في قيامهم على ملوكهم وهم قعود ومن ذلك: أن النبي منع الرجل من أخذ نظير حقه بصورة الخيانة ممن خانه وجحد حقه وإن كان إنما يأخذ حقه أو دونه فقال لمن سأله عن ذلك: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك لأن ذلك ذريعة إلى إساءة الظن به ونسبته إلى الخيانة ولا يمكنه أن يحتج عن نفسه ويقيم عذره مع أن ذلك أيضا ذريعة إلى أن لا يقتصر على قدر الحق وصفته فإن النفوس لا تقتصر في الاستيفاء غالبا على قدر الحق
ومن ذلك: أن سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع من يد المشتري سدا لذريعة المفسدة الناشئة من الشركة والمخالطة بحسب الإمكان وقبل البيع ليس أحدهما أولى بانتزاع نصيب شريكه من الآخر فإذا رغب عنه وعرضه للبيع كان شريكه أحق به لما فيه من إزالة الضرر عنه وعدم تضرره هو فإنه يأخذه بالثمن الذي يأخذه به الأجنبي ولهذا كان الحق: أنه لا يحل الاحتيال لإسقاط الشفعة ولا تسقط بالاحتيال فإن الاحتيال على إسقاطها يعود على الحكمة التي شرعت لها بالنقض والإبطال
ومن ذلك: أنه لا يقبل شهادة العدو ولا الظنين في تهمة أو قرابة ولا الشريك فيما هو شريك فيه ولا الوصي فيما هو وصي فيه ولا الولد على ضرة أمه ولا يحكم القاضي بعلمه كل ذلك سدا لذريعة التهمة والغرض الفاسد
ومن ذلك: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم وإفراد يوم الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى الابتداع في الدين بتخصيص زمان لم يخصه الشارع بالعبادة ومن ذلك: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بقطع الشجرة التي كانت تحتها البيعة وأمر بإخفاء قبر دانيال سدا لذريعة الشرك والفتنة ونهى عن تعمد الصلاة في الأمكنة التي كان رسول الله ينزل بها في سفره وقال: أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فلا
ومن ذلك: جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه الأمة على حرف واحد من الأحرف السبعة لئلا يكون اختلافهم فيها ذريعة إلى اختلافهم في القرآن ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم
ومن ذلك: أن النبي أمر الذي أرسل معه بهديه إذا عطب شيء منه دون المحل أن ينحره وبصبغ نعله الذي قلده به بدمه ويخلي بينه وبين المساكين ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته قالوا: لأنه لو جاز له أن يأكل منه أو أحد من رفقته قبل بلوغ المحل لخادعته نفسه إلى أن يقصر في علفه وحفظه حتى يشارف العطب فينحره فسد الشارع الذريعة ومنعه ورفقته من الأكل منه
ومن ذلك: نهيه عن الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء كخطبة الرجل على خطبة أخيه وسومه على سومه وبيعه على بيعه وسؤال المرأة طلاق ضرتها وقال: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما سدزا لذريعة الفتنة والفرقة
ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم كما هو الواقع فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه والأمة في تلك الشرور إلى الآن
ومن ذلك: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب والمجالس لئلا تفضي مشابهتهم للمسلمين في ذلك إلى معاملتهم معاملة المسلمين: في الإكرام والاحترام ففي إلزامهم بتمييزهم عنهم سدا لهذه الذريعة
ومن ذلك: منعه من بيع القلادة التي فيها خرز وذهب بذهب لئلا يتخذ ذريعة إلى بيع الذهب بالذهب متفاضلا إذا ضم إلى أحدهما خرز أو نحوه
ولو لم يكن في هذا الباب إلا أن الله سبحانه وتعالى أوجب إقامة الحدود سدا للذريعة إلى الجرائم إذا لم يكن عليها وازع طبيعي وجعل مقادير عقوباتها وأجناسها وصفاتها بحسب مفاسدها في نفسها وقوة الداعي إليها وتقاضي الطباع لها
وبالجملة فالمحرمات قسمان: مفاسد وذرائع موصلة إليها مطلوبة الإعدام كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام
والقربات نوعان: مصالح للعباد وذرائع موصلة إليها ففتح باب الذرائع في النوع الأول كسد باب الذرائع في النوع الثاني وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة فبين باب الحيل وباب سدع الذرائع أعظم تناقض
وكيف يظن بهذه الشريعة العظيمة الكاملة التي جاءت بدفع المفاسد وسد أبوابها وطرقها: أن تجوز فتح باب الحيل وطرق المكر على إسقاط واجباتها واستباحة محرماتها والتذرع إلى حصول المفاسد التي قصدت دفعها
وإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم إما بأن يقصد به ذلك المحرم أو بأن لا يقصد به وإنما يقصد به المباح نفسه لكن قد يكون ذريعة إلى المحرم يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة راجحة تقتضى حله فالتذرع إلى المحرمات بالاحتيال عليها أولى أن يكون حراما وأولى بالإبطال والإهدار إذا عرف قصد فاعله وأولى أن لا يعان فاعله عليه وأن يعامل بنقيض قصده وأن يبطل عليه كيده ومكره
وهذا بحمد الله تعالى بين لمن له فقه وفهم في الشرع ومقاصده