المثال السادس والخمسون: إذا أراد أن يشتري جارية وعرض له آخر يريد شراءها فاستحلف أحدهما صاحبه: أنه إن اشتراها فهي بينه وبينه نصفين فأراد أن يشتريها وتكون له تأول في يمينه: أنه إن اشتراها بنفسه فهي بينه وبينه فإذا وكل من يشتريها له كانت له وحده
فإن استحلفه أنه إن ملكها فهو شريكه فيها بطلت هذه الحيلة فله أن يأمر من يثق به أن يشتريها لنفسه ويؤدي هو عنه الثمن ثم يزوجه إياها فإذا أراد بيعها استبرأها ثم أمر ذلك الرجل أن يبيعها ويرجع ثمنها إليه
المثال السابع والخمسون: إذا كان بينهما عرض من العروض فاشتراه منهما أجنبي بمائة درهم وقبضه ثم إن المشترى أراد أن يصالح أحدهما من جميع الثمن على بعضه على أن يضمن له الدرك من شريكه حتى يخلصه منه أو يرد عليه جميع الثمن الذي وقع العقد عليه
فقال القاضي: لا يجوز ذلك لأن الضمان على شريكه إنما يجب بقبضه المال وذلك لم يوجد فلا يكون مضمونا عليه
فالحيلة للمشتري: أن يكون بريئا وإن أدركه درك من شريكه رجع به على الذي صالحه أن يحط الشريك المصالح عن المشتري نصيبه كله من الثمن ثم يدفع المشتري إليه نصيب صاحبه فصالحه على أنه ضامن لما أدركه من شريكه حتى يخلصه منه أو يرد عليه ما قبضه منه ويبرئه هو من نصيبه لأنه إذا أبرأه من نصيبه لم يبق من الدين إلا نصيب صاحبه فإذا قبضه كان مضمونا عليه لأنه قبض دين الغير بغير أمره
المثال الثامن والخمسون: إذا كان عبد بين شريكين موسرين فأراد كل منهما عتق نصيبه وأن لا يغرم لشريكه شيئا
فالحيلة: أن يوكلا رجلا فيعتقه عنهما ويكون ولاؤه بينهما المثال التاسع والخمسون: إذا سأله عبده أن يزوجه أمته فحلف أن لا يفعل ثم بدا له في تزويجه
فالحيلة: أن يبيع العبد والأمة لمن يثق به ثم يزوجه المشتري فإذا تم العقد أقاله في البيع
ولا بأس بمثل هذه الحيلة فإنها لا تتضمن إبطال حق ولا تحليل محرم وذلك غير ممتنع على أصلنا لأن الصفة وهي عقد النكاح قد وجدت في حال زوال ملكه فلا يتعلق بها حنث ولا يحنث أيضا باستدامة التزويج بعد ملكهما لأن التزويج عبارة عن العقد وقد انقضى وإنما بقي حكمه ولهذا لو حلف لا يتزوج فاستدام التزويج لم يحنث وهذا بخلاف ما إذا حلف على عبده أنه لا يدخل الدار فباعه ودخلها ثم ملكه فإن دخلها حنث لأنه ابتدأ الدخول واليمين باقية ولو دخلها في حال زوال ملكه ثم ملكه وهو داخل فيها حنث لأن الدخول الأول عبارة عن الكون وذلك موجود بعد الملك الثاني فيحنث به كما لو كان موجودا في الملك الأول
وقد قال أحمد في رواية مهنا في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن رهنت كذا وكذا فإذا هي قد رهنته قبل يمينه فقال: أخاف أن يكون حنث
قال القاضي: وهذا محمول على أنه قال إن كنت رهنته وهذا تأويل منه لكلام أحمد: فظاهر كلامه أنه جعل استدامة الرهن بمنزلة ابتدائه كالدخول
المثال الستون: إذا كان له عليه مال فمرض المستحق وأراد أن يبرئه منه وهو يخرج من ثلثه فخاف أن تكتم الورثة ماله ويقولوا: لم يدع إلا الدين الذي على هذا
فالحيلة في خلاصه: أن يخرج المريض من ماله بقدر الدين الذي على غريمه فيملكه إياه ثم يستوفيه منه ويشهد على ذلك وكذلك إذا أراد المريض أن يعتق عبدا وله مال يخرج من ثلثه ويملكه ماله فخاف أن يقول الورثة: لم يخلف الميت شيئا غير هذا العبد وماله
فالحيلة: أن يبيع المريض العبد من رجل يثق به ويقبض الثمن فيهبه للمشتري ثم يعتقه المشتري
فإن كان على الميت دين وله وفاء وفضل يخرج العبد من ثلثه فخاف المريض أن يغيب الورثة ماله ثم يقولوا: أعتق العبد ولا مال له غيره فلا نجيز له ما صنع من ذلك
فالحيلة فيه: أن يبيع العبد من نفسه ويقبض الثمن منه بمحضر من الشهود ثم يهب المريض للعبد ما قبض منه في السر فيأمن حينئذ من اعتراض الورثة فإن لم يكن للعبد مال يشترى به نفسه وهبه مالا في السر وأقبضه إياه فيشتري به العبد نفسه من سيده
فإن لم يرد السيد عتقه وأراد بيعه من بعض ورثته بمال على المريض ليست له به بينة
فالحيلة في ذلك: أن يقبض وارثه ماله عليه في السر ثم يبيعه العبد ويشهد له على ذلك ويقبض الثمن بمحضر من الشهود فيتخلص من اعتراض الورثة
المثال الحادي والستون: إذا أوصى إلى رجل فخاف أن لا يقبل فقال: إن لم يقبل فلان وصيتي فهي لفلان صح ذلك بسنة رسول الله الصحيحة الصريحة التي لا تجوز مخالفتها حيث علق الإمارة بالشرط فتعليق الوصية أولى لأنه يستفيد بالإمارة أكثر مما يستفيد بالوصية
وبعض الفقهاء يبطل ذلك
فالحيلة في ذلك: أن يشهد المريض أنهما جميعا وصياه فإن لم يقبل أحدهما وقبل الآخر فالذي قبل منهما وصي وحده فإن قبلا جميعا فلكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف عن صاحبه لأنه رضي بتصرف كل واحد منهما قاله القاضي
فإن خاف أن يمنع ذلك من لا يرى انفراد أحدهما بالتصرف ويقول: قد شرك بينهما وجعلهما بمنزلة وصي واحد:
فالحيلة في الجواز: أن يقول: أوصيت إليهما على الاجتماع والانفراد
المثال الثاني والستون: إذا تصرف الوصي وباع واشترى وأنفق على اليتيم فللحاكم أن يحاسبه ويسأله عن وجوه ذلك ولا يمنعه من محاسبته كونه أمينا فإن النبي حاسب عماله كما ثبت في صحيح البخاري أنه بعث ابن اللتبية عاملا على الصدقة فلما جاء حاسبه
فإن أراد الوصي أن يتخلص من ذلك فالحيلة له: أن يجعل غيره هو الذي يتولى بيع التركة وقبض الدين والإنفاق ولا يشهد على نفسه بوصول شيء من ذلك إليه فإذا سأله الحاكم قال: لم يصل إلى شيء من التركة ولا تصرفت فيها فإن كانت التركة قد بيعت بأمره وقبض ثمنها بأمره وصرف بأمره فحلفه الحاكم إنه لم يقبض ولم يوكل من قبض وتصرف وأنفق فإن كان محسنا قد وضع التركة موضعها ولم يخن وسعه أن يتأول في يمينه وإن كان ظالما لم ينفعه تأويله
المثال الثالث والستون: يصح وقف الإنسان على نفسه على أصح الروايتين ويجوز اشتراط النظر لنفسه ويجوز أن يستثني الإنفاق منه على نفسه ما عاش أو على أهله وغيرنا ينازعنا في ذلك فإذا خاف من حاكم يبطل الوقف على هذا الوجه فالحيلة له: أن يملكه لولده أو زوجته أو أجنبي يقفه عليه ويشترط له النظر فيه وأن يقدم على غيره من الموقوف عليهم بغلته أو بالإنفاق عليه فيصح حينئذ ولا يبقى للاعتراض عليه سبيل
المثال الرابع والستون: إذا اشترى جارية وقبضها فوجد بها عيبا ولم يكن نقد ثمنها فأراد ردها فصالحه البائع على أن يأخذ الجارية بأقل من الثمن الذي اشتراها به
فقال القاضي: لا يجوز ذلك لأن هذا الصلح في معنى البيع وبيع المبيع من بائعه بأقل من ثمنه لا يجوز لأنه ذريعة إلى الربا وهو كمسألة العينة فإن كان قد حدث بالجارية عيب عند المشتري جاز ذلك لأن مقدارالحط يكون بإزاء العيب الذي حدث عند المشتري فلا يؤدي إلى مسئلة العينة
والحيلة في جواز ذلك في الصورة الأولى على وجه لا يشبه العينة: أن يخرج الجارية من ملكه فيبيعها الرجل بالثمن الذي يأخذها به البائع فيصالح الذي في يده الجارية البائع على أن يقبلها بدون الثمن الذي وقع عليه العقد ويجعل هذا الثمن الذي يأخذ به الجارية قضاء عن مشتري الجارية لأن المشتري الثاني متى صالح البائع على أن يقبل الجارية بدون الثمن الذي اشتريت به فهو عقد جرى بينهما مبتدأ من غير بناء أحد العقدين على الآخر فإذا اشتراها البائع من هذا الثاني حصل ثمنها في ذمته له وله هو على المشتري الأول ثمنها فإذا طالبه البائع بالثمن أحاله على المشتري الأول فيتقاصان
المثال الخامس والستون: الضمان لا تبرأ ذمة المضمون عنه بمجرده حيا كان المضمون عنه أو ميتا
وفيه رواية أخرى: أنه يبرىء ذمة الميت دون الحي وهي مذهب أبي حنيفة
وفيه قول ثالث: أنه يبرىء ذمة الحي والميت كالحوالة وهو مذهب داود
فإذا أراد الضامن أن يكون ضمانه مبرئا لذمة المضمون عنه فالحيلة في ذلك: أن يقول: لا أضمن دينه إلا بشرط أن تبرئه منه فمتى أبرأته منه فأنا ضامن له ويصح تعليق الضمان بالشرط في أقوى الوجهين فإذا أبرأه صحت البراءة ولزم الدين الضامن وحده
فإن خاف رب الدين أن يرفعه إلى حاكم لا يرى صحة الضمان المعلق فيبطل دينه من ذمة الأصيل بالإبراء ولا يثبت له في ذمة الضامن
فالحيلة له: أن يكتب ضمانه ضمانا مطلقا ويشهد عليه به من غير شرط بعد إقراره ببراءة الأصيل فيحصل مقصودهما
المثال السادس والستون: الحوالة تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه فلا يملك مطالبة المحيل بعد ذلك إلا في صورة واحدة وهي: أن يشترط ملاءة المحال عليه فيتبين مفلسا
وعند أبي حنيفة: إذا توى المال على المحال عليه بأن جحده حقه إذ قرار المحال على المحال عليه فإن جحده حقه وحلف عليه أو مات مفلسا رجع على المحيل
وعند مالك: إن ظن ملاءته فبان مفلسا رجع وإن طرأ عليه الفلس لم يكن له الرجوع
فإذا أراد صاحب الحق التوثق لنفسه وأنه إن توى ماله على المحال عليه رجع على المحيل
فالحيلة له في ذلك: أن يحتال حوالة قبض لا حوالة استيفاء فيقول للمحيل: أحلني على غريمك أن أقبض لك ما عليه من الدين فيجيبه إلى ذلك فما قبضه منه كان على ملك المحيل فيأذن له في استيفائه
فإن خاف المحيل أن يهلك هذا المال في يد القابض ولا يغرمه لأنه وكيل في قبضه
فالحيلة أن يقول له: ما قبضته فهو قرض في ذمتك فيثبت في ذمته نظير ماله عليه فيتقاصان
فالحوالة ثلاثة أنواع: حوالة قبض محض فهي وكالة وحوالة استيفاء وهي التي تنقل الحق وحوالة إقراض
فالأولى لا تثبت المقبوض في ذمة المحال والثانية تجعل حقه في ذمة المحال عليه والثالثة تثبت المأخوذ في ذمته بحكم الاقتراض المثال السابع والستون: إذا ضمن الدين ضامن فلمستحقه مطالبة أيهما شاء
وعن مالك روايتان إحداهما: كذلك والثانية: أنه ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذر مطالبة الأصيل
فإن أراد الضامن أن يضمن على هذا الوجه فالحيلة أن يقول: إن تعذر مالك قبله فأنا ضامن له ويصح تعليق الضمان على الشرط على الأصح
فإن أراد أن يصحح ذلك على كل قول ويأمن رفعه إلى من يرى بطلان ذلك
فالحيلة فيه: أن يقول: ضمنت لك ما يتوى لك على فلان أو يعجز عن أدائه فيصح ذلك ولا يتمكن من مطالبته إلا إذا توى المال على الأصيل أو عجز عنه
المثال الثامن والستون: إذا بذت عليه امرأته فقال: الطلاق يلزمني منك لا تقولين لي شيئا إلا قلت لك مثله فقالت: أنت طالق ثلاثا فقال بعضهم: يقول لها: أنت طالق ثلاثا بفتح التاء ولا تطلق لأن الخطاب لا يصلح لها وهذا ضعيف جدا لأن قوله: أنت طالق إما أن يعنيها به أو يعني غيرها فإن لم يعنها لم يكن قد قال لها مثل ما قالت بل يكون القول لغيرها فلا يبر به وإن عناها به طلقت للمواجهة وفتح التاء لا يمنع صحة الخطاب والمعنى: أنت أيها الشخص أو الإنسان
ثم ما يقول هذا القائل: إذا قالت له: فعل الله بك كذا فقال لها: فعل الله بك وفتح الكاف هل يكون بارا في يمينه بذلك فإن قال: لا يبر لزمه مثله في الطلاق وإن قال: يبر كان قائلا لها مثل ذلك فيكون مطلقا لها
وأجود من هذا أن يكون قوله على التراخي ما لم يقيده بالفور بلفظه أو نيته
وقالت طائفة: يقول لها: أنت طالق ثلاثا إن لم أفعل كذا وكذا أو إن فعلت لما لا تقدر هي عليه فيكون قد قال لها مثل ما قالت وزاد عليه وفي هذا ضعف لا يخفى لأن هذه الزيادة تنقص الكلام فهي زيادة في اللفظ ونقصان في المعنى فإنه إذا علق الطلاق بشرط خرج من التنجيز إلى التعليق وصار كله كلاما واحدا وهي لم تعلق كلامها وإنما نجزته فالمماثلة تقتضي تنجيزا مثله
وأجود من هذا كله أن يقال: لا يدخل هذا الكلام الذي صدر منها في يمينه لأنه لم يرده قطعا ولا خطر بباله فيمينه لم يتناوله فهو غير محلوف عليه بلا شك واللفظ العام يختص بالنية والعرف والعرف في مثل هذا لا يدخل فيه قولها له ذلك والأيمان يرجع فيها إلى العرف والنية والسبب وهذا مطرد ظاهر على أصول مالك وأحمد في اعتبارهم عرف الحالف ونيته وسبب يمينه والله أعلم
المثال التاسع والستون: يجوز أن يستأجر الشاة والبقرة ونحوهما مدة معلومة للبنها ويجوز أن يستأجرها لذلك بعلفها وبدراهم مسماة والعلف عليه هذا مذهب مالك وخالفه الباقون وقوله هو الصحيح واختاره شيخنا لأن الحاجة تدعو إليه ولأنه كاستئجار الظئرللبها مدة ولأن اللبن وإن كان عينا فهو كالمنافع في استخلافه وحدوثه شيئا بعد شيء ولأن إجارة الأرض لما نبت فيها من الكلأ والشوك جائزة وهو عين ولأن اللبن4 حصل بعلفه وخدمته فهو كحصول المغل ببذره وخدمته ولا فرق بينهما فإن تولد اللبن من العلف كتولد المغل من البذر فهذا من أصح القياس وأيضا فإنه يجوز أن يقفها فينتفع الموقوف عليها بلبنها وحق الواقف إنما هو في منفعة الموقوف مع بقاء عينه
وأيضا فإنه يجوز أن يمنحها غيره مدة معلومة لأجل لبنها وهي باقية على ملك المانح فتجري منحتها مجرى إعارتها والعارية إباحة المنافع فإذا كان اللبن يجري مجرى المنفعة في الوقف والعارية جرى مجراها في الإجارة
وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن [ الطلاق: 6 ] فسمى ما تأخذه المرضعة في مقابلة اللبن أجرا ولم يسمه ثمنا
وأيضا فيجوز أن يستأجر بئرا مدة معلومة لمائها والماء لم يحصل بعمله فلأن يجوز استئجار الشاة للبنها الحاصل بعلفه والقيام عليها أولى
وأيضا فإنه يجوز أن يستأجر بركة يعشعش فيها السمك لأجله فهذا أولى بالجواز لأنه معلوم بالعرف وهو حاصل بعلفه والقيام على الحيوان
وقياس المنع على تحريم بيع اللبن في الضرع قياس فاسد فإن ذاك بيع مجهول لا يعرف قدره وما يتحصل منه وهو بيع معدوم فلا يجوز والإجارة أوسع من البيع ولهذا يجوز على المنافع المعدومة المستخلفة شيئا بعد شيء فاللبن في ذلك كالمنفعة سواء وإن كان عينا فهذا القول هو الصحيح
فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل هذا العقد.
فالحيلة في لزومه: أن يؤجره الحيوان مدة بدارهم مسماة ثم يأذن له في علفه بها ويبيحه اللبن
وهذه الحيلة تتأتي في إجارة البقرة والناقة والجاموس إذ يمكن الحرث عليها وركوبها وأما الشاة فلا يراد منها إلا الدر والنسل فلا تتهيأ الإجارة على منفعتها فالطريق في ذلك: أن يستأجرها لرضاع سخلة له مدة معلومة ويوكله في النفقة عليها بأجرتها أو ببعضها ويبيحه اللبن
المثال السبعون: إذا دفع إليه ثوبه وقال: بعه بعشرة فما زاد فلك فنص أحمد على صحته تبعا لعبد الله بن عباس ووافقه إسحاق ومنعه أكثرهم
ووجه الخلاف: أن في هذا العقد شائبة الوكالة والإجارة والمضاربة فمن رجح جانب الوكالة صحح العقد ومن رجح جانب الإجارة أو المضاربة أبطله لأن الأجرة والربح الذي جعل له مجهول
والصحيح: الجواز لأن العشرة تجري مجرى رأس المال في المضاربة وما زاد فهو كالربح فإذا جعله كله له كان بمنزلة الإبضاع إذا دفع إليه مالا يضارب به وقال: ما ربحت فهو لك فليس العقد من باب الإجارات بل هو بالمشاركات أشبه
فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانه
فالحيلة في ذلك: أن يقول: وكلتك في بيعه بعشرة: فإن بعته بأكثر فلا حق لي في الزيادة فيصح هذا وتكون الزيادة للوكيل
المثال الحادي والسبعون: قال الإمام أحمد في رواية مهنى: لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بسدس ما يخرج منه وهو أحب إلي من المقاطعة يعني أن يقاطعه على كيل معين أو دراهم أو عروض
وكذلك نص في رواية الأثرم وغيره في رجل دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها وما رزق الله بينهما نصفين: أن ذلك جائز
وقال أحمد أيضا: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع لحديث جابر: أن النبي
أعطى خيبر على الشطر ونقل عنه أبو داود فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة أرجو أن لا يكون به بأس
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: إذا كان على النصف والربع فهو جائز
ونقل عنه أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه ويكون له ثلث الكسب أو ربعه أنه جائز
ونقل عنه حرب فيمن دفع ثوبا إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها وله نصف ربحها بحق عمله فهو جائز ونص في رجل دفع غزله إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه: أنه جائز
وقال في المغني: وعلى قياس قول أحمد: يجوز أن يعطى الطحان أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها
وحكى عن ابن عقيل المنع منه واحتج بأن رسول الله نهى عن قفيز الطحان قال الشيخ وهذا الحديث لا نعرفه ولا ثبت عندنا صحته: وقياس قول أحمد: جوازه لما ذكرنا عنه من المسائل
وكذلك لو دفع شبكته إلى صياد ليصيد بها والسمك بينهما نصفين قال في المغني: فقياس قول أحمد صحة ذلك والسمك بينهما شركة وقال ابن عقيل: السمك للصائد ولصاحب الشبكة أجرة مثلها
ولو كان له على رجل مال فقال لرجل: اقبضه منه ولك ربعه أو قال: كل ثلثه أو ما قبضته منه فلك منه الربع أو الثلث فهو جائز
وكذلك لو غصبت منه عين فقال لرجل: خلصها لي ولك نصفها جاز أيضا
ولو غرق متاعه في البحر فقال لرجل: ما خلصته منه فلك نصفه أو ربعه جاز ولو أبق عبده فقال لرجل أو قال: من رده علي فله فيه نصفه أو ربعه أو شردت دابته فقال ذلك صح ذلك كله
قلت: وكذلك يجوز أن يقول له: انقض لي هذا الزيتون بالسدس أو الربع أو اعصره بالثلث أو الربع أو اكسر هذا الحطب بالربع أو اخبز هذا العجين بالربع وما أشبه ذالك فكل هذا جائز على نصوصه وأصوله وهو أحب من المقاطعة في بعض الصور
ولم يجوز الشافعي وأبو حنيفة شيئا من ذلك
وأما مالك فقال أصحابه عنه: إذا قال: احصد زرعي ولك نصفه فذلك جائز وإن قال: احصد اليوم فما حصدت فلك نصفه لم يجز عند ابن القاسم وفي العينية أنه يجوز
فإن قال: القط زيتوني فما لقطت فلك نصفه فهو جائز عند ابن القاسم وروى سحنون أنه لا يجوز ولو قال: انقض زيتوني فما نقضت فلك نصفه لم يجز عند ابن القاسم وأجازه عبد الملك بن حبيب
فإن قال: اقبض لي المائة دينار التي على فلان ولك عشرها جاز عند ابن القاسم وابن وهب وعند أشهب لا يجوز
فلو قال: اقبض دينى الذي على فلان ولك من كل عشرة واحد ولم يبين قدر الدين لم يجز عند ابن وهب وأجازه ابن القاسم وأصبغ
والذين منعوا الجواز في ذلك جعلوه إجارة والأجر فيها مجهول والصحيح: أن هذا ليس من باب الإجارات بل من باب المشاركات وقد نص أحمد على ذلك
فاحتج على جواز دفع الثوب بالثلث والربع بحديث خيبر وقد دلت السنة على جواز ذلك كما في المسند والسنن عن رويفع بن ثابت قال: إن كان أحدنا في زمن رسول الله ليأخذ نضو أخيه على أن له النعصف مما يغنم ولنا النصف وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح وأصل هذا كله: أن النبي دفع أرض خيبر إلى اليهود يعملونها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع وأجمع المسلمون على جواز المضاربة وأنها دفع ماله لمن يعمل عليه بجزء من ربحه فكل عين تنمى فائدتها من العمل عليها جاز لصاحبها دفعها لمن يعمل عليها بجزء من ربحها
فهذا محض القياس وموجب الأدلة وليس مع المانعين حجة سوى ظنهم أن هذا من باب الإجارات بعوض مجهول وبهذا أبطلوا المساقاة والمزارعة واستثنى قوم بعض صورها وقالوا: المضاربة على خلاف القياس لظنهم أنها إجارة بعوض عنده لم يعلم قدره
وأحمد رحمه الله عنده هذا الباب كله أطيب وأحل من المؤجراة لأنه في الإجارة يحصل على سلامة العوض قطعا والمستأجر متردد بين سلامة العوض وهلاكه فهو على خطر وقاعدة العدل في المعاوضات: أن يستوى المتعاقدان في الرجاء والخوف وهذا حاصل في المزارعة والمساقاة والمضاربة وسائر هذه الصور الملحقة بذلك فإن المنفعة إن سلمت سلمت لهما وإن تلفت تلفت عليهما وهذا من أحسن العدل
واحتج المتأخرون من المانعين بحديث أبي سعيد الذي رواه الدارقطنى نهي عن قفيز الطحان وهذا الحديث لا يصح وسمعت شيخ الإسلام يقول: هو موضوع
وحمله بعض أصحابنا على أن المنهي عنه طحن الصبرة لا يعلم كيلها بقفيز منها لأن ما عداه مجهول فهو كبيعها إلا قفيزا منها فأما إذا كانت معلومة القفزان فقال: اطحن هذه العشرة بقفيز منها صح حبا ودقيقا أما إذا كان حبا فقد استأجره على طحن تسعة أقفزة بقفيز حنطة وأما إذا كان دقيقا فقد شاركه في ذلك على أن العشر للعامل وتسعة الأعشار للآخر فيصيرشريكه بالجزء المسمى
فإن قيل فالشركة عندكم لا تصح بالعروض
قيل: بل أصح الروايتين صحتها وإن قلنا بالرواية الأخرى فإلحاق هذه بالمساقاة والمزارعة أولى بها من إلحاقها بالمضاربة على العروض لأن المضاربة بالعروض تتضمن التجارة والتصرف في رقبة المال بإبداله بغيره بخلاف هذا فإن قيل: دفع حبه إلى من يطحنه بجزء منه مطحونا أو غزله إلى من ينسجه بجزء منه منسوجا: يتضمن محذورين أحدهما: أن يكون طحن قدرالأجرة ونسجه مستحقا على العامل بحكم الإجارة ومستحقا له بحكم كونه أجرة وذلك متناقض فإن كونه مستحقا عليه يقتضي مطالبة المستأجر به وكونه مستحقا له يقتضي مطالبة المؤجر به الثاني: أن يكون بعض المعقود عليه هو العوض نفسه وذلك ممتنع
قيل: إنما نشأ هذا من ظن كونه إجارة وقد بينا أنه مشاركة لا إجارة ولو سلم أنه من باب المؤاجرة فلا تناقض في ذلك فإن جهة الاستحقاق مختلفة فإنه مستحق له بغير الجهة التي يستحق بها عليه فأي محذور في ذلك
وأما كون بعض المعقود عليه يكون عوضا فهو إنما عقد على عمله فالمعقود عليه العمل والنفع بجزء من العين وهذا أمر متصور شرعا وحسا
فظهر أن صحة هذا الباب هى مقتضى النص والقياس وبالله التوفيق
وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة لتصحيح ذلك إلا إذا خيف غدر أحدهما وإبطاله للعقد والرجوع إلى أجرة المثل
فالحيلة في التخلص من ذلك: أن يدفع إليه ربع الغزل والحب أو نصفه ويقول: انسج لي باقيه بهذا القدر فيصيران شريكين في الغزل والحب فإذا تشاركا فيه بعد ذلك صح وكان بينهما على قدر ما شرطاه والعجب أن المانعين جوزوا ذلك على هذا الوجه وجعلوه مشاركة لا مؤاجرة فهلا أجازوه من أصله كذلك وهل الاعتبار في العقود إلا بمقاصدها وحقائقها ومعانيها دون صورها وألفاظها وبالله التوفيق
المثال الثاني والسبعون: إذا كان لرجل على رجل دين فتوارى عن غريمه وله هو دين على آخر فأراد الغريم أن يقبض دينه من الدين الذي له على ذلك لم يكن له ذلك إلا بحوالة أو وكالة وقد توارى عنه غريمه فيتعذر عليه الحوالة والوكالة
فالحيلة له في اقتضاء دينه من ذلك: أن يوكله فيقول: وكلتك في اقتضاء ديني الذي على فلان وبالخصومة فيه ووكلتك أن تجعل ماله عليك قصاصا مما لي عليه وأجزت أمرك في ذلك فيقبل الوكيل ويشهد عليه شهودا ثم يشهد الوكيل أولئك الشهود أو غيرهم: أن فلانا وكلني بقبض ماله على فلان وأن أجعله قصاصا بما لفلان علي وأجاز أمري في ذلك وقد قبلت من فلان ما جعل إلى من ذلك واشهدوا أني قد جعلت الألف درهم التي لفلان على قصاصا بالألف التي لفلان موكلي عليه فتصير الألف قصاصا ويتحول ما كان للرجل المتواري على هذا الوكيل للرجل الذي وكله
المثال الثالث والسبعون: إذا كان لرجل على رجل مال فغاب الذي عليه المال وأراد الرجل أن يثبت ماله عليه حتى يحكم الحاكم عليه وهو غائب جاز للحاكم أن يحكم عليه في حال غيبته مع بقائه على حجته في أصح المذهبين وهو قول أحمد في الصحيح عنه ومالك والشافعي وعند أبي حنيفة لا يجوز الحكم على الغائب
فإذا لم يكن في الناحية إلا حاكم يرى هذا القول ويخشى صاحب الحق من ضياع حقه
فالحيلة له: أن يجىء برجل فيضمن لهذا الرجل الذي له المال جميع ماله على الرجل الغائب ويسميه وينسبه ويشهد على ذلك ثم يقدمه إلى القاضي فيقر الضامن بالضمان ويقول: قد ضمنت له ماله على فلان بن فلان ولا أدري كم له عليه ولا أدري: له عليه مال أم لا فإن القاضي يكلف المضمون له أن يحضر بينته على ذلك بماله على فلان فإذا أحضر البينة قبلها القاضي بمحضر من هذا الضمين وحكم على الغائب وعلى هذا الضامن المال بموجب ضمانه ويجعل القاضي هذا الضمين بالمال خصما على الغائب لأنه قد ضمن ما عليه ولا يجوز الحكم على هذا الضمين حتى يحكم على المضمون عنه ثم يحكم بذلك على الضمين لأنه فرعه فما لم يثبت المال على الأصل لا يثبت على الفرع
المثال الرابع والسبعون: إذا غصبه متاعا له ويقر له في السر بعينه ويجحده في العلانية ويريد تخليص ماله منه
فالحيلة له: أن يبيعه ممن يثق به ويشهد له على ذلك ببينة عادلة ثم يبيعه بعد ذلك من الغاصب ويكون بين البيعين من المدة ما يعرفه الشهود ليوقتوا بذلك عند الأداء فإذا أشهد الغاصب بالبيع في الوقت المعين جاء الذي باع منه المغصوب قبله ببينته فيحكم له السبق بينته فيرجع الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذي دفعه إليه ويسلم العين للمغصوب منه
وكذلك لو أقر بها المغصوب منه لرجل يثق به ثم باعها بعد ذلك للغاصب ثم جاء المقر له فأقام بينة على الإقرار السابق
فإن قيل: فلو خاف الغاصب من هذه الحيلة وقال للمغصوب منه: لست أبتاع منك هذه السلعة خشية هذا الصنيع ولكن آمر من يبتاعها منك لي فأراد المغصوب منه حيلة ترجع إليه بها سلعته
فالحيلة: أن يبيعها أولا ممن يثق به ولا يكتب في كتاب هذا الشراء الثاني قبض المشتري فإنه إذا أقر وكيل الغاصب بقبض العين من المغصوب منه ثم جاء الرجل الذي كتب له المغصوب منه الشراء كان أولى بها من وكيل الغاصب لأن وقت شرائه أقدم وإقراره بقبضها وتسليمها إلى الرجل المشتري لها أولا أولى ويرجع وكيل الغاصب على المغصوب بالثمن الذي دفعه إليه
المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه مالا وأجله لزم تأجيله على أصح المذهبين وهو مذهب مالك وقول في مذهب أحمد والمنصوص عنه: أنه لا يتأجل كما هو قول الشافعي وأبي حنيفة ويدل على التأجيل قوله تعالى: أوفوا بالعقود. وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون. وقوله وأوفوا بالعهد. وقوله المسلمون عند شروطهم وقوله آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وقوله ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة بقدر غدرته وقوله لا تغدروا وقوله إن الغدر لا يصلح وقوله في صفة المنافق إذا وعد أخلف وإخلاف الوعد مما فطر الله العباد على ذمه واستقباحه وما رآه المؤمنون قبيحا فهو عند الله قبيح وعلى هذا فلا حاجة إلى التحيل على لزوم التأجيل
وعلى القول الآخر: قد يحتاج إلى حيلة يلزم بها التأجيل
فالحيلة فيه أن يحيل المستقرض صاحب المال بماله إلى سنة أو نحوها بقدر مدة التأجيل فيكون المال على المحتال عليه إلى ذلك الأجل ولا يكون للطالب ولا لورثته على المستقرض سبيل ولا على المحال عليه إلى الأجل فإن الحوالة تنقل الحق
ولو أحال المحال عليه صاحب المال على رجل آخر إلى ذلك الأجل جازت الحوالة فإن مات المحال عليه الأول لم يكن لصاحب المال على تركته سبيل لا على المحال عليه الثاني المثال السادس والسبعون: إذا رهنه دارا أو سلعة على دين وليس عنده من يشهد على قدر الدين ويكتبه فالقول قول المرتهن في قدره ما لم يدع أكثر من قيمته هذا قول مالك وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد: القول قول الراهن وقول مالك هو الراجح وهو اختيار شيخنا لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتاب يشهد بقدر الحق والشهود التي تشهد به وقائما مقامه فلو لم يقبل قول المرتهن في ذلك بطلت الوثيقة من الرهن وادعى المرتهن أنه رهن على أقل شىء فلم يكن في الرهن فائدة والله سبحانه قد قال في آية المداينة:. التي أرشد بها عباده إلى حفظ حقوق بعضهم على بعض خشية ضياعها بالجحود أو النسيان فأرشدهم إلى حفظها بالكتاب وأكد ذلك بأن أمرهم بكتابة الدين وأمر الكاتب أن يكتب ثم أكد ذلك بأن نهاه أن يأبى أن يكتب ثم أعاد الأمر بأن يكتب مرة أخرى وأمر من عليه الحق أن يملل ويتقي ربه فلا يبخس من الحق شيئا فإن تعذر إملاؤه لسفهه أو صغره أو جنونه أو عدم استطاعته فوليه مأمور بالإملاء عنه
وأرشدهم إلى حفظها باستشهاد شهيدين من الرجال أو رجل وامرأتين فأمرهم بالحفظ بالنصاب التام الذي لا يحتاج صاحب الحق معه إلى يمين ونهى الشهود أن يأبوا إذا دعوا إلى إقامة الشهادة
ثم أكد ذلك عليهم بنهيهم أن يمتنعوا من كتابة الحقير والجليل من الحقوق سآمة ومللا
وأخبر أن ذلك أعدل عنده وأقوم للشهادة فيتذكرها الشاهد إذا عاين خطه فيقيمها وفي ذلك تنبيه على أن له أن يقيمها إذا رأى خطه وتيقنه وإلا لم يكن بالتعليل بقوله وأقوم للشهادة فائدة
وأخبر أن ذلك أقرب إلى اليقين وعدم الريب ثم رفع عنهم الجناح بترك الكتابة
إذا كان بيعا حاضرا فيه التقابض من الجانبين يأمن به كل واحد من المتبايعين من جحود الآخر ونسيانه
ثم أمرهم مع ذلك بالإشهاد إذا تبايعوا خشية الجحود وغدر كل واحد منهما بصاحبه فإذا أشهدا على التبايع أمنا ذلك
ثم نهى الكاتب والشهيد عن أن يضارا إما بأن يمتنعا من الكتابة والشهادة تحملا وأداء أو أن يطلبا على ذلك جعلا يضر بصاحب الحق أو بأن يكتم الشاهد بعض الشهادة أو يؤخر الكتابة والشهادة تأخيرا يضر بصاحب الحق أو يمطلاه ونحو ذلك أو هو نهي لصاحب الحق أن يضار الكاتب والشهيد بأن يشغلهما عن ضرورتهما وحوائجهما أو يكلفهما من ذلك ما يشق عليهما ثم أخبر أن ذلك فسوق بفاعله
فهذا كله عند القدرة على الكتاب والشهود
ثم ذكر ما تحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتاب والشهود وهو السفر في الغالب فقال: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة
فدل ذلك دلالة بينة أن الرهان قائمة مقام الكتاب والشهود شاهدة مخبرة بالحق كما يخبر به الكتاب والشهود
وهذا والله أعلم سر تقييد الرهن بالسفر لأنه حال يتعذر فيها الكتاب الذي ينطق بالحق غالبا فقام الرهن مقامه وناب منابه وأكد ذلك بكونه مقبوضا للمرتهن حتى لا يتمكن الراهن من جحده
فلا أحسن من هذه النصيحة وهذا الإرشاد والتعليم الذي لو أخذ به الناس لم يضع في الأكثر حق أحد ولم يتمكن المبطل من الجحود والنسيان
فهذا حكمه سبحانه المتضمن لمصالح العباد في معاشهم ومعادهم
والمقصود: أنه لو لم يقبل قول المرتهن على الراهن في قدر الدين لم يكن وثيقة ولا
حافظا لدينه ولا بدلا من الكتاب والشهود فإن الراهن يتمكن من أخذه منه ويقول: إنما رهنته منه على ثمن درهم ونحوه ومن يجعل القول قول الراهن فإنه بصدقه على ذلك ويقبل قوله في رهن الربع والضيعة على هذا القدر
فالذي نعتقده وندين الله به: هو قول أهل المدينة فإذا أراد الرجل حفظ حقه وخاف أن يقع التحاكم عند حاكم لا يرى هذا المذهب
فالحيلة في قبول قوله: أن يسترهنه المرتهن على قيمته ويدفع إليه ما اتفقا عليه ويشهد الراهن أن الباقي من قيمته أمانة عنده أو قرض في ذمته يطالبه به متى شاء فيتمكن كل واحد منهما من أخذ حقه ويأمن ظلم الآخر له والله أعلم
المثال السابع والسبعون: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم وفي يده رهن بالألف فطلب صاحب الدين الغريم بالألف وقدمه إلى الحاكم وقال: لي على هذا ألف درهم وخاف أن يقول: وله عندي رهن بالألف وهو كذا وكذا فيقول الغريم: ماله علي هذه الألف التي يدعيها ولا شيء منها وهذا الذي ادعى أنه لي رهن في يده هو لي كما قال ولكنه ليس برهن بل وديعة أو عارية فيأخذه منه ويبطل حقه
فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يدعي بالألف فيسأل الحاكم المطلوب عن المال فإما أن يقر به وإما أن ينكره فإن أقر به وادعى أن له رهنا لزمه المال ودفع الرهن إلى صاحبه أو بيع في وفائه وإن أنكره وقال: ليس له علي شيء ولي عنده تلك العين: إما الدار وإما الدابة فليقل صاحب الحق للقاضي: سله عن هذا الذي يدعي علي: على أي وجه هو عندي أعارية أم غصب أم وديعة أم رهن فإن ادعى أنه في يده على غير وجه الرهن حلف على إبطال دعواه وكان صادقا وإن ادعى أنه في يده على وجه الرهن قال للقاضي: سله: على كم هو رهن فإن أقر بقدر الحق أقر له بالعين وطالب بحقه وإن جحد بعضه حلف على نفي ما ادعاه وكان صادقا المثال الثامن والسبعون: إذا باعه سلعة ولم يقبضه إياها أو آجره دارا ولم يتسلمها أو زوجه ابنته ولم يسلمها إليه ثم ادعى عليه بالثمن أو الأجرة أو المهر فخاف إن أنكر أن يستحلفه أو يقيم عليه البينة بجريان هذه العقود وإن أقر لزمه ما ادعى عليه به
فالحيلة في تخلصه: أن يقول في الجواب: إن ادعيت هذا المبلغ من ثمن مبيع لم أقبضه أو إجارة دار لم تسلمها إلي أو نكاح امرأة لم تسلمها إلي أو كانت المرأة هي التي ادعت فقال: إن ادعيت هذا المبلغ من مهر أو كسوة أو نفقة من نكاح لم تسلمي إلي نفسك فيه ولم تمكنيني من استيفاء المعقود عليه فأنا مقر به وإن كان غير ذلك فلا أقر به وهذا جواب صحيح يتخلص به
فإن قيل: فهذا تعليق للإقرار بالشرط والإقرار لا يصح تعليقه كما لو قال: إن شاء الله أو إن شاء زيد فله علي ألف
قيل: بل يصح تعليق الإقرار بالشرط في الجملة كقوله: إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف فهذا إقرار صحيح ولا يلزمه قبل مجيء الشهر وكذا لو قال: إن شهد فلان علي بما ادعاه صدقته صح التعليق فإذا شهد به عليه فلان كان مقرا به ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره كما في تعليق الطلاق والعتاق والخلع
وفيه وجه آخر: أنه إن أخر الشرط لم ينفعه وكان إقرارا ناجزا وهذا ضعيف جدا فإن الكلام بآخره ولو بطل الشرط الملحق به لبطل الاستثناء والبدل والصفة فإن ذلك يغير الكلام ويخرجه من العموم إلى الخصوص والشرط يخرجه من الإطلاق إلى التقييد فهو أولى بالصحة
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 15 (0 من الأعضاء و 15 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)