









ثم كيف يسع الحاكم أن يقبل قول المرأة: أنها هي التي كانت تنفق على نفسها وتكسو نفسها هذه المدة كلها مع شهادة العرف والعادة المطردة بكذبها ولا يقبل قول الزوج: أنه هو الذي كان ينفق عليها ويكسوها مع شهادة العرف والعادة له ومشاهدة الجيران وغيرهم له: أنه كل وقت يدخل إلى بيته الطعام والشراب والفاكهة وغير ذلك فكيف يكذب من معه مثل هذه الشهادة ويقبل قول من يكذب دعواه ذلك وكيف يمكن الزوج أن يتخلص من مثل هذا البلاء الطويل والخطب الجليل إلا بأن يشهد كل يوم بكرة وعشية شاهدي عدل على الإنفاق وعلى الكسوة أو يفرض لها كل شهر دراهم معلومة يقبضها إياها بإشهاد ثم إما أن يمكنها أن تخرج من بيته كل وقت تشتري لها ما يقوم بمصالحها أو يتصدى هو لخدمتها وشراء حوائجها فيكون هو العاني الأسير المملوك وهي المالكة الحاكمة عليه وكل هذا ضد ما قصده الشارع من النكاح: من الألفة والمودة والمعاشرة بالمعروف فإن هذه المعاشرة من أنكر المعاشرة وأبعدها من المعروف
ثم من العجب: أنها إذا ادعت الكسوة والنفقة لمدة مقامها عنده فقال الزوج للحاكم: سلها: من أين كانت تأكل وتشرب وتلبس فيقول الحاكم: لا يلزمها ذلك !
فيالله العجب: إذا كانت غير معروفة بالدخول والخروج ولا يمكن الزوج أحدا يدخل عليها وهي في منزله عدد سنين تأكل وتشرب وتلبس كيف لا يسألها الحاكم: من الذي كان يقوم لك بذلك ومتى سأل الزوج سؤالها وجب عليه ذلك ومتى تركه كان تاركا للحق فإن سمت أجنبيا غير الزوج كلفها الحاكم البينة على ذلك وإن قالت: أنا الذي كنت أطعم نفسي وأكسوها في هذه المدة كان كذبها معلوما ولم يقبل قولها فإن النفقة والكسوة واجبان على الزوج وهي تدعي أنها هي التي قامت عنه بهذا الواجب وأدته من مالها وهو يدعي أنه هو الذي فعل هذا الواجب وقام به وأسقطه عن نفسه ومعه الظاهر والأصل
أما الظاهر: فلا يمكن عاقلا أن يكابر فيه بل هو ظاهر ظهورا قريبا من القطع بل يقطع به في حق أكثر الناس وأما الأصل: فهو أيضا من جانب الزوج فإنهما قد اتفقا على القيام بواجب حقها وهي تضيف ذلك إلى نفسها أو إلى أجنبي وهو يدعي أنه هو الذي قام بهذا الواجب فقد اتفقا على وصول النفقة والكسوة إليها وهي تقول: كان ذلك بطريق البدل والنيابة عنك وهو يقول: لم يكن بطريق النيابة بل بطريق الأصالة
وهذا بخلاف ما إذا لم يعلم وصول الحق إلى مستحقه كالديون والأعيان المضمونة فإن قبول قول المنكر متوجه ومعه الأصل
ونظيره: أن يعترف بقضاء الدين ووصوله إليه ثم ينكر أن يكون وصل إليه من جهة من عليه الدين فيقول: وصل إلي الدين الذي لي لكن ليس من جهتك بل غيرك أداه عنك فهل يقبل قوله ههنا أحد ويقال: الأصل بقاء الدين في ذمته
وهذا نظير مسألة الإنفاق سواء بسواء فإنها مقرة بوصول النفقة إليها ولو أنكرتها لكذبها الحس ومدعية أن وصول ذلك إلي لم يكن من جهتك فدعواها تخالف الأصل والظاهر جميعا ولهذا لا يقبلها مالك وفقهاء أهل المدينة وقولهم هو الصواب والحق الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه
وأي قبيح أعظم من دعوى امرأة على الزوج ترك النفقة والكسوة ستين سنة أو أكثر وهي لا تدخل ولا تخرج ولا يمكنها أن تعيش عيش الملائكة فيطالب الزوج بنفقة جميع المدة التي ادعت ترك الإنفاق فيها وقد تستغرق جميع ماله وداره وثيابه ودوابه فيؤخد ذلك كله منه ويحبس على الباقي ويجعل دينا مستقرا في ذمته تطالبه به متى شاءت وهي تعلم كذب دعواها ووليها يعلم ذلك وجيرانها والله وملائكته والذي يساعدها ويخاصم عنها ولما علم فقهاء العراق كأبي حنيفة وأصحابه ما في ذلك من الشر والفساد والضرر الذي لا تأتي به شريعة أسقطوا النفقة والكسوة عن الزوج بمضي الزمان فلم يسمعوا دعوى المرأة بذلك كما يقوله منازعوهم في نفقة القريب فنفسوا الخناق عن الأزواج بهذا القول وأشموهم رائحة الحياة ونفسوا عنهم بعض الكرب ولقد أقام رسول اللهبعد أن أرسله الله تعالى إلى الناس ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة فما ألزم زوجا قط بنفقة وكسوة ماضية ولا ادعتها عنده امرأة وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده وكذلك عصر الصحابة جميعهم وعصر التابعين ولا حبس على عهده وعهد أصحابه وتابعيهم رجل واحد على ذلك ولا على صداق امرأته مع صيانة نسائهم ولزومهن بيوتهن وعدم تبرجهن وتزينهن وخروجهن في الأسواق والطرقات والأزواج في الحبوس وهن مسيبات يخرجن ويذهبن حيث أردن
فوالله لو رأى هذا رسول اللهلشق عليه غاية المشقة ولعظم عليه وعز عليه ولكان إلى دفعه وإنكاره أسرع منه إلى غيره
وبالجملة فالدعوى إذا كانت مما تردها العادة والعرف والظاهر لم يجز سماعها
ومن ههنا قال أصحاب مالك: إذا كان رجل حائزا لدار متصرفا فيها مدة السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة وهو مع ذلك لا يعارضه فيها ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع يمنعه من مطالبته: من خوف سلطان أو نحو ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق ولا بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات وذوو الصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه بل كان عريا عن ذلك كله ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه ويزعم أنها له ويريد أن يقيم بذلك بينة فدعواه غير مسموعة أصلا فضلا عن بينة وتقر الدار بيد حائزها
قالوا: لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة قال تعالى: وأمر بالعرف. وأوجبت الشريعة الرجوع إليه عند الاختلاف في الدعاوى وغيرها قلت: ومما يدل على ذلك: أن الظن المستفاد من هذا الظاهر أقوى بكثير من الظن المستفاد من شاهدين أو شاهد ويمين أو مجرد النكول أو الرد
وأيضا فإن البينة على المدعي والبينة هي كل ما يبين الحق والعرف والعادة والظاهر القوي الذي إن لم يقطع به فهو أقرب إلى القطع يدل على صدق الزوج وكذب المرأة في إمساكها عن كسوتها والإنفاق عليها مدة سنين متطاولة ولا يدخل عليها أحد ولا هى ممن تخرج تشتري لها ما تأكل وتلبس
فالشريعة جاءت بما يعرف لا بما ينكر وقد أخبر الله سبحانه أن للزوجة مثل الذي عليها بالمعروف وليس من المعروف إلزام الزوج بنفقة ستين سنة وكسوتها واجتياح ماله كله وسلبه نعمة الله عليه وجعله مسكينا ذا متربة وجعله أسيرا لها ينافي ما ادعت به بل هذا من أنكر المنكر ومما يراه المسلمون بل وغير المسلمين قبيحا
وأيضا: فالرجل له ولاية الإنفاق على زوجته كما له ولاية حبسها ومنعها من الخروج من بيته فالشارع جعل إليه ذلك وأمره أن يقوم على المرأة ولا يؤتيها ماله بل يرزقها ويكسوها فيه وجعلها الله سبحانه في ذلك بمنزلة الصغير والمجنون مع وليه كما قال تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما واززقوهم فيها واكسوهم. قال ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك فيكونوا هم الذين يقومون عليك في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم
فالسفهاء هم النساء والصبيان وقد جعل الله سبحانه الأزواج قوامين عليهم كما جعل ولي الطفل قواما عليه والقوام على غيره أمير عليه ومن قبل قول الزوجة أو الطفل بعد البلوغ في عدم إيصال النفقة إليهما فقد جعلهما قوامين على الأزواج والأولياء ولو لم يقبل قول الزوج لم يكن قواما على المرأة فإن المرأة إذا كانت غريما مقبول القول دون الزوج كانت هي القوامة
وبالجملة فللرجل على امرأته ولاية حتى في مالها فإن له أن يمنعها من التبرع به لأنه إنما بذل لها المهر لما لها ونفسها فليس لها أن تتصرف في ذلك بما يمنع الزوج من كمال استمتاعه وقد سوى النبيبين نفقة الزوجات ونفقة المماليك وجعل المرأة عانية عند الزوج والعاني: هو الأسير وهو نوع من الرقفقال في المرأة: تطعمها مما تأكل وتكسوها مما تلبس وكذلك قال في الرقيق سواء فهو أمير على نفقة امرأته ورقيقه وأولاده بحكم قيامه عليهم ولم يوجب الله سبحانه على الأزواج تمليك النساء طعاما وإداما ولا دراهم أصلا وإنما أوجب إطعامهن وكسوتهن بالمعروف وإيجاب التمليك مما لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع
وكذلك فرض النفقة وتقديرها بدراهم لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا قول صاحب ولا تابع ولا أحد من الأئمة الأربعة
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)