فصل

وقد تبين بهذا بطلان الاستدلال على جواز الحيل الباطلة بقوله تعالى: إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم وأن هذا يتناول صورة العينة وغيرها فإن المتبايعين يديران السلعة بينهما
فإن الله سبحانه قسم البياعات المقصودة التي شرعها لعباده ونصبها لمصالحهم في معاشهم ومعادهم إلى بيوع مؤجلة وبيوع حالة ثم أمرهم أن يستوثقوا في البيوع المؤجلة بالكتاب والشهود وإن عدموا ذلك في السفر استوثقوا بالرهن حفظا لأموالهم وتخلصا من بطلان الحقوق بجحود أو نسيان ثم أخبرهم أنه لا حرج عليهم في ترك ذلك في البيوع الحالة لأمنهم فيها مفسدة التجاحد والنسيان
فالمراد بالتجارة الدائرة: البيعات التي تقع غالبا بين الناس
ولم يفهم أحد من أصحاب رسول الله ولا من التابعين ولا تابعيهم ولا أهل التفسير ولا أئمة الفقهاء منها: المعاملة الدائرة بالربا بين المترابيين بل فهموا تحريمها من نصوص تحريم الربا ولا ريب أن دخولها في تلك النصوص أظهر من دخولها في هذه الآية
ومما يدل عليه: أن هذه المعاملة الدائرة بينهما بالربا لا تكون في الغالب إلا مع أجل بأن يبتاع منه سلعة بثمن حال ثم يبيعها إياه بأكثر منه إلى أجل وذلك في الغالب مما يطلب عليه الشهود والكتاب خشية الجحود والله سبحانه قال: إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها فاستثنى هذا من قوله: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وهذه المعاملة الربوية قد اتفقا فيها على التداين إلى أجل مسمى واتفقا فيها على المائة بمائة وثلاثين ونحو ذلك فأين هي من التجارة الحاضرة التي يعرف الناس الفرق فيها بين التجارة والربا
فالتجارة في كلام الله ورسوله ولغة العرب وعرف الناس: إنما تنصرف إلى البياعات المقصودة التي يقصد فيها الثمن والمثمن وأما ما توطآ فيه على الربا المحض ثم أظهرا بيعا غير مقصود لهما ألبتة يتوسلان به إلى أن يعطيه مائة حالة بمائة وعشرين مؤجلة فهذا ليس من التجارة المأذون فيها بل من الربا المنهي عنه والله أعلم
فصل

وأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل فما أبطله من استدلال فأين المعاريض التي يتخلص بها الإنسان من الظلم والكذب إلى الحيل التي يسقط بها ما فرض الله تعالى ويستحل بها ما حرم الله فالمعرض تكلم بحق ونطق بصدق فيما بينه وبين الله تعالى لا سيما إذا لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه وإنما كان الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره في معرفة دلالة اللفظ ومعاريض النبي ومزاحه عامته كان من هذا الباب كقوله: نحن من ماء وإنا حاملوك على ولد الناقة ووزوجك الذي في عينه بياض ولا يدخل الجنة عجوز وأكثر معاريض السلف كانت من هذا فالمعرعض إنما يقصد باللفظ ما جعل اللفظ دالا عليه ومثبتا له في الجملة فهو لم يخرج بتعريضه عن حدود الكلام فإن الكلام فيه الحقيقة والمجاز والعام والخاص والمطلق والمقيد والمفرد والمشترك والمتباين والمترادف وتختلف دلالته تارة بحسب اللفظ المفرد وتارة بحسب التأليف فأين هذا من الحيل التي يقصد بالعقد فيها ما لم يشرع العقد له أصلا ولا هو مقتضاه ولا موجبه شرعا ولا حقيقة
وفرق ثان وهو أن المعرض لو صرح بقصده لم يكن باطلا ولا محرما بخلاف المحتال فإنه لو صرح بما قصده بإظهار صورة العقد كان محرما باطلا فإن المرابي بالحيلة لو قال: بعتك مائة حالة بمائة وعشرين إلى سنة كان حراما باطلا وذلك عين مقصوده ومقصود الآخر
وكذلك المقرض لو قال: أقرضتك ألفا على أن تعيدها إلي ومعها زيادة كذا وكذا كان حراما باطلا وذلك نفس مقصوده
وكذلك المحلل لو قال: تزوجتها على أن أحلها للمطلق ثلاثا
والمعرض لو صرح بمقصوده لم يكن حراما فأين أحدهما من الآخر
وفرق ثالث: وهو أن المعرض قصد بالقول ما يحتمله اللفظ أو يقتضيه والمحتال قصد بالعقد ما لا يحتمله ولا جعل مقتضيا له لا شرعا ولا عرفا ولا حقيقة
وفرق رابع: وهو أن المعرض مقصده صحيح ووسيلته جائزة فلا حجر عليه في مقصوده ولا في وسيلته إلى مقصوده بخلاف المحتال فإن قصده أمر محرم ووسيلته باطلة كما تقدم تقريره
وفرق خامس: وهو أن التعريض المباح ليس من مخادعة الله سبحانه في شيء وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه جزاء له على ذلك ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جواز مخادعة المحق فما كان من التعريض مخالفا لظاهر اللفظ في نفسه كان قبيحا إلا عند الحاجة وما لم يكن كذلك كان جائزا إلا عند تضمن مفسدة والذي يدخل في الحيل المذمومة إنما هو الأول فالمعرض قاصد لدفع الشر والمحتال بالباطل قاصد لدفع الحق والتعريض كما يكون بالقول يكون بالفعل كما يظهر المحارب أنه يريد وجها من الوجوه ويسافر إلى تلك الناحية ليحسب العدو أنه لا يريده ثم يكر عليه
ومثل أن يستطرد المبارز بين يدي خصمه ليظن هزيمته ثم يعطف عليه
ومثل أن يظهر ضعفا وعجزا يتخلص به من تسخيره وأذاه ونحو ذلك
وقد يكون التعريض بالقول والفعل معا كما قال سليمان عليه السلام: ائتوني بالسكين أشقه بينكما وقد يكون بإظهار الصمم وأنه لا يسمع وبإظهار النوم وإظهار الشبع وإظهار الغنى بحيث يحسبه الجاهل غنيا
وكما يقع الإجمال في الأقوال فكذلك يقع في الأفعال كما أعطى النبي عمر رضي الله عنه حلة من حرير فلما لبسها أنكر عليه وقال: لم أعطكها لتلبسها فكساها أخا له مشركا بمكة
فكل من الإجمال والاشتراك والاشتباه يقع في الألفاظ تارة وفي الأفعال تارة وفيهما معا تارة ومن أنواع التعريض: أن يتكلم المتكلم بكلام حق يقصد به حقيقته وظاهره ويوهم السامع نسبته إلى غير قائله ليقبله ولا يرده عليه أو ليتخلص به من شره وظلمه كما أنشد عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه امرأته تلك الأبيات وأوهمها أنه يقرأ القرآن فتخلص بذلك من شرها
وكذلك إذا كان الرجل يريد تنفيذ حق صحيح ولكن لا يقبل منه لكونه هو أو من لا يحسن به الظن قائله فإذا عرض للمخاطب بنسبة الكلام إلى معظم يقبله منه كان من أحسن التعريض كما علمه أبو حنيفة رحمه الله أصحابه حين شكوا إليه: إنا نقول لهم: قال أبو حنيفة فيبادرون بالإنكار فقال: قولوا لهم المسألة فإذا استحسنوها ووقعت منهم بموقع فقولوا: هذا قول أبي حنيفة وكما يجري لأصحابنا مع الجهمية وفروخهم كثيرا
فصل

وأما استدلالهم بأن الله سبحانه علم نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التي توصل بها إلى أخذ أخيه إلى آخره
فهذا قد ظن بعض أرباب الحيل أنه حجة لهم في هذا الباب وليس كما زعموا والاستدلال بذلك من أبطل الباطل
فإن المحتجين بذلك لا يجوزون شيئا مما في هذه القصة البتة ولا تجوزها شريعتنا بوجه من الوجوه فكيف يحتج المحتج بما يحرم العمل به ولا يسوغه بوجه من الوجوه والله سبحانه إنما سوغ ذلك لنبيه يوسف عليه السلام جزاءا لإخوته وعقوبة لهم على ما فعلوا به ونصرا له عليهم وتصديقا لرؤياه ورفعة لدرجته ودرجة أبيه
وبعد ففي قصته مع إخوته ضروب من الحيل المستحسنة
أحدها قوله: لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم وقد ذكروا في ذلك معاني منها: أنه تخوف أن لا يكون عندهم ورق يرجعون بها
ومنها أنه خشى أن يضر أخذ الثمن بهم
ومنها: أنه رأى لؤما أخذ الثمن منهم
ومنها: أنه أراهم كرمه في ردع البضاعة ليكون أدعى لهم إلى العود
وقد قيل: إنه علم أن أمانتهم تحوجهم إلى الرجعة ليردوها إليه فهذا المحتال به عمل صالح والمقصود: رجوعهم ومجيء أخيه وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله وهو مقصود صالح وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر فيها منفعة لهم ولأبيهم وله وتمام لما أراده الله تعالى بهم من الخير في هذا البلاء وأيضا فلو عرفهم نفسه في أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم ولم يحل ذلك المحل وهذه عادة الله سبحانه في الغايات العظيمة الحميدة: إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ لها أسبابا من المحن والبلايا والمشاق فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ والبعث والنشور والموقف والحساب والصراط ومقاساة تلك الأهوال والشدائد وكما أدخل رسوله إلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه
وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام فهو سبحانه وصل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
وربما كان مكروه النفوس إلى... محبوبها سببا ما مثله سبب
وبالجملة فالغايات الحميدة في خبايا الأسباب المكروهة الشاقة كما أن الغايات المكروهة المؤلمة في خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره وخلق النار وحفها بالشهوات