فصل

ومنها: أنه لما جهزهم في المرة الثانية بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه وهذا القدر يتضمن اتهام أخيه بأنه سارق
وقد قيل: إنه كان بمواطأة من أخيه ورضا منه بذلك والحق كان له وقد أذن فيه وطابت نفسه به ودل على ذلك قوله تعالى: فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون. فهذا يدل على أنه عرف أخاه نفسه وقد قيل: إنه لم يصرح له بأنه يوسف وأنه إنما أراد بقوله: إنعي أنا أخوك أي أنا مكان أخيك المفقود
ومن قال هذا قال: إنه وضع السقاية في رحل أخيه والأخ لا يشعر بذلك والقرآن يدل على خلاف هذا والعدل يرده وأكثر أهل التفسير على خلافه ومن لطيف الكيد في ذلك: أنه لما أراد أخذ أخيه توصل إلى أخذه بما يقر إخوته أنه حق وعدل ولو أخذه بحكم قدرته وسلطانه لنسب إلى الظلم والجور ولم يكن له طريق في دين الملك يأخذه بها فتوصل إلى أخذه بطريق يعترف إخوته أنها ليست ظلما فوضع الصواع في رحل أخيه بمواطأة منه له على ذلك ولهذا قال: لا تبتئس بما كانوا يعملون
ومن لطيف الكيد: أنه لم يفتش رحالهم وهم عنده بل أمهلهم حتى جهزهم بجهازهم وخرجوا من البلد ثم أرسل في آثارهم لذلك
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن عيسى حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال: أمهلهم حتى إذا انطلقوا فأمعنوا من القرية أمر فأدركوا ثم جلسوا ثم ناداهم مناد: أيتها العير إنكم لسارقون فوقفوا وانتهى إليهم رسوله فقال لهم فيما يذكرون: ألم نكرم ضيافتكم ونوفكم كيلكم ونحسن منزلتكم ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم وأدخلنا كم علينا في بيوتنا ومنازلنا قالوا: بلى وما ذاك قال إنكم لسارقون
وذكر عن السدي فلما ارتحلوا أذن مؤذن أيتها العير والسياق يقتضي ذلك إذ لو كان هذا وهم بحضرته لم يحتج إلى الأذان وإنما يكون الأذان نداء لبعيد يطلب وقوفه وحبسه
فكان في هذا من لطيف الكيد: أنه أبعد من التهمة للطالب بالمواطأة والموافقة وأنه لا يشعر بما فقد له فكأنه لما خرج القوم وارتحلوا وفصلوا عن المدينة احتاج الملك إلى صواعه لبعض حاجته إليه فالتمسه فلم يجده فسأل عنه الحاضرين فلم يجدوه فأرسلوا في أثر القوم فهذا أحسن وأبعد من التفطن للحيلة من التفتيش في الحال قبل انفصالهم عنه بل كلما ازدادوا بعدا عنه كان أبلغ في هذه المعنى
ومن لطيف الكيد: أنه أذن فيهم بصوت عال رفيع يسمعه جميعهم ولم يقل لواحد واحد منهم إعلاما بأن ذهاب الصواع أمر قد اشتهر ولم يبق فيه خفاء وأنتم قد اشتهرتم بأخذه ولم يتهم به سواكم
ومن لطيف الكيد: أن المؤذن قال: إنكم لسارقون ولم يعين المسروق حتى سألهم عنه القوم فقالوا لهم: ماذا تفقدون قالوا: نفقد صواع الملك فاستقر عند القوم أن الصواع هو المتهم به وأنهم لم يفقدوا غيره فإذا ظهر لم يكونوا ظالمين باتهامهم بغيره وظهر صدقهم وعدلهم في إتهامهم به وحده وهذا من لطيف الكيد ومن لطيف الكيد: قول المؤذن وأصحابه لإخوة يوسف عليه السلام فما جزاؤه إن كنتم كاذبين أي ما عقوبة من ظهر عليه أنه سرقه منكم ووجد معه أي ما عقوبته عندكم وفي دينكم قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه فأخذوهم بما حكموا به على نفوسهم لا بحكم الملك وقومه
ومن لطيف الكيد: أن الطالب لما هم بتفتيش رواحلهم بدأ بأوعيتهم يفتشها قبل وعاء من هو معه تطمينا لهم وبعدا عن تهمة المواطأة
فإنه لو بدأ بوعاء من هو فيه لقالوا: وما يدريه أنه في هذا الوعاء دون غيره من أوعيتنا وما هذا إلا بمواطأة وموافقة فأزال هذه التهمة بأن بدأ بأوعيتهم أولا
فلما لم يجده فيها هم بالرجوع قبل تفتيش وعاء من فيه الصواع وقال: ما أراكم سارقين وما أظن هذا أيضا أخذ شيئا فقالوا: لا والله لا ندعكم حتى تفتشوا متاعه فإنه أطيب لقلوبكم وأظهر لبراءتنا فلما ألحوا عليهم بذلك فتشوا متاعه فاستخرجوا منه الصواع وهذا من أحسن الكيد فلهذا قال تعالى: كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذى علم عليم
فالعلم بالكيد الواجب أو المستحب الذي يتوصل به إلى طاعة الله تعالى ورسوله ونصر المحق وكسر المبطل مما يرفع الله به درجة العبد
وقد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين:
أحدهما: أنه من باب المعاريض وأن يوسف عليه السلام نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه حيث غيبوه عنه بالحيلة التي احتالوا بها عليه وخانوه فيه والخائن يسمى سارقا وهو من الاستعمال المشهور
الثاني: أن المنادي هو الذي قال ذلك من غير أمر يوسف عليه السلام قال القاضي أبو يعلى وغيره: أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصاع في رحل أخيه ثم قال بعض الموكلين به لما فقده ولم يدر من أخذه أيتها العير إنكم لسارقون على ظن منهم أنهم كذلك ولم يأمرهم يوسف عليه السلام بذلك ولعل يوسف عليه السلام قال للمنادي هؤلاء قد سرقوا وعنى سرقته من أبيه والمنادي فهم سرقة الصواع وصدق في قوله: إنكم لسارقون ولم يقل: صواع الملك ثم لما جاء إلى ذكر المفقود قال: نفقد صواع الملك وهو صادق في ذلك فحذف المفعول في قوله لسارقون وذكره في قوله: نفقد صواع الملك وكذلك قال يوسف عليه السلام لما عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ولم يقل: أن نأخذ إلا من سرق فإن المتاع كان موجودا عنده ولم يكن سارقا وهذا من أحسن المعاريض
وقد قال نصر بن حاجب: سئل سفيان بن عيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله ويحرف القول فيه ليرضيه أيأثم في ذلك فقال: ألم تسمع قوله عليه السلام: ليس بكاذب من أصلح بين الناس فكذب فيه فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم كان خيرا من أن يصلح بين الناس بعضهم في بعض وذلك أنه أراد به مرضاة الله وكراهية أذى المؤمن ويندم على ما كان منه ويدفع شره عن نفسه ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم ولا طمعا في شيء يصيبه منهم فإنه لم يرخص في ذلك ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عداوتهم
قال حذيقة بن اليمان رضي الله عنه: إني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن أقدم على ما هو أعظم منه
قال سفيان: وقال الملكان: خصمان بغى بعضنا على بعض أرادا معنى شيء ولم يكونا خصمين فلم يصيرابذلك كاذبين
وقال إبراهيم عليه السلام: إني سقيم. وقال: بل فعله كبيرهم هذا. وقال يوسف عليه السلام إنكم لسارقون أراد يعني أخاهم
فبين سفيان رحمه الله تعالى أن هذا كله من المعاريض المباحة مع تسميته كذبا وإن لم يكن في الحقيقة كذبا
وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه يجوز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق
قال شيخنا وهذه الحجة ضعيفة فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف حتى يقال قد اقتص منه وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك نعم كان تخلفه عنهم مما يؤذيهم لتأذي أبيهم وللميثاق الذي أخذه عليهم وقد استثنى في الميثاق بقوله إلا أن يحاط بكم وقد أحيط بهم ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الإنتقام من إخوته فإنه كان أكرم من هذا وإن كان في ضمن ما فعل من تأذي أبيه أعظم من أذى إخوته فإنما ذلك أمر أمره الله تعالى به ليبلغ الكتاب أجله ويتم البلاء الذي استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء وعلو المنزلة وتبلغ حكمة الله تعالى التي قدرها وقضاها نهايتها ولو فرض أن يوسف عليه السلام قصد الإقتصاص منهم بما فعل فليس هذا بموضع خلاف بين العلماء فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به وإنما موضع الخلاف هل له أن يخونه كما خانه أو يسرقه كما سرقه ولم تكن قصة يوسف عليه السلام من هذا النوع
نعم لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة مع أنه لا شبهة له أيضا على هذا التقدير فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالإتفاق ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه كان في هذا ابتلاء من الله تعالى لذلك المعتقل كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيا خاصا كالوحي إلى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه وتكون حكمته في حق الأخ امتحانه وابتلاءه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه ويكون حاله في هذا كحال ابيه يعقوب عليه السلام في احتباس يوسف عليه السلام عنه
وقد دل على هذا نسبة الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله 12: 76 كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذه أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله وهو سبحانه ينسب إلى نفسه أحسن هذه المعاني وما هو منها حكمة وحق وصواب وجزاء للمسيء وذلك غاية العدل والحق كقوله 86: 15 إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا وقوله 3: 54 ومكروا ومكر الله وقوله 2: 15 الله يستهزيء بهم وقوله 4: 142 إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وقوله 7: 138 وأملي لهم إن كيدي متين
فهذا منه سبحانه في أعلى مراتب الحسن وإن كان من العبد قبيحا سيئا لأنه ظالم فيه وموقعه بمن لا يستحقه والرب تعالى عادل فيه موقعه بأهله ومن يستحقه سواء قيل إنه مجاز للمشاكلة الصورية أو للمقابلة أو سماه كذلك مشاكلة لاسم ما فعلوه أو قيل إنه حقيقة وإن مسمى هذه الأفعال ينقسم إلى مذموم ومحمود واللفظ حقيقة في هذا وهذا كما قد بسطنا هذا المعنى واستوفينا الكلام عليه في كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
فصل

وإذا عرف ذلك فيوسف صلوات الله عليه وسلامه أكيد من وجوه عديدة
أحدها أن إخوته كادوه حيث احتالوا في التفريق بينه وبين أبيه كما قال له يعقوب عليه السلام 12: 5 لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا
وثانيها أنهم كادوه حيث باعوه بيع العبيد وقالوا إنه غلام لنا أبق
وثالثها كيد امرأة العزيز له بتغليق الأبواب ودعائه إلى نفسها
ورابعها كيدها له بقولها 12: 24 ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم فكادته بالمراودة أولا وكادته بالكذب عليه ثانيا ولهذا قال لها الشاهد لما تبين له براءة يوسف عليه السلام 12: 28 إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم
وخامسها كيدها له حيث جمعت له النسوة وأخرجته عليهن تستعين بهن عليه وتستعذر إليهن من شغفها به
وسادسها كيد النسوة له حتى استجار بالله تعالى من كيدهن فقال 12: 33 وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ولهذا لما جاء الرسول بالخروج من السجن قال له 12: 50 إرجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم
فإن قيل فما كان مكر النسوة اللاتي مكرن به وسمعت به امرأة العزيز فإن الله سبحانه لم يقصه في كتابه
قيل بلى قد أشار إليه بقوله 12: 30 وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر
أحدها قولهن امرأة العزيز تراود فتاها ولم يسموها باسمها بل ذكروها بالوصف الذي ينادى عليها بقبيح فعلها بكونها ذات بعل فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممن لا زوج لها
الثاني أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها
الثالث أن الذي تراوده مملوك لا حر وذلك أبلغ في القبح
الرابع أنه فتاها الذي هو في بيتها وتحت كنفها فحكمه حكم أهل البيت بخلاف من طلب ذلك من الأجنبي البعيد
الخامس أنها هي المراودة الطالبة
السادس أنها أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها
السابع أن في ضمن هذا أنه أعف منها وأبر وأوفى حيث كانت هي المراودة الطالبة وهو الممتنع عفافا وكرما وحياء وهذا غاية الذم لها
الثامن أنهن أتين بفعل المرادودة بصيغة المستقبل الدالة على الإستمرار والوقوع حالا واستقبالا وأن هذا شأنها ولم يقلن راودت فتاها وفرق بين قولك فلان أضاف ضيفا وفلان يقري الضيف ويطعم الطعام ويحمل الكل فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته
التاسع قولهن إنا لنراها في ضلال مبين أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية الإستقباح فنسبن الإستقباح إليهن ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى ولا يكدن يرين ذلك قبيحا كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه ولا يحسن معاونتها عليه