









فصل
والفتنة بعشق الصور تنافي أن يكون دين العبد كله لله بل ينقص من كون دينه لله بحسب ما حصل له من فتنة العشق وربما أخرجت صاحبه من أن يبقى معه شيء من الدين لله قال تعالى 8: 39 وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله
فناقض بين كون الفتنة وبين كون الدين كله فكل منهما يناقض الآخر
والفتنة قد فسرت بالشرك
فما حصلت به فتنة القلوب فهو إما شرك وإما من أسباب الشرك
وهي جنس تحته أنواع من الشبهات والشهوات
وفتنة الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله من أعظم الفتن
ومنه فتنة أصحاب العجل كما قال تعالى لموسى 20: 85 إنا قد فتنا قومك من بعدك
وكذلك فتنة العشق من أعظم الفتن قال تعالى 9: 49 ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا نزلت في الجد بن قيس لما غزا رسول اللهتبوك قال له هل لك يا جد في بلاد بني الأصفر تتخذ منهم السراري والوصفاء فقال جد ائذن لي في القعود عنك فقد عرف قومي أني مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن فأنزل الله تعالى هذه الآية
قال ابن زيد يريد لا تفتني بصباحة وجوههن
وقال أبو العالية لا تعرضني للفتنة
وقوله تعالى ألا في الفتنة سقطوا قال قتادة ما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول اللهوالرغبة بنفسه عنه أعظم
فالفتنة التي فر منها بزعمه هي فتنة محبة النساء وعدم صبره عنهن والفتنة التي وقع فيها هي فتنة الشرك والكفر في الدنيا والعذاب في الآخرة
ولفظ الفتنة في كتاب الله تعالى يراد بها الإمتحان الذي لم يفتتن صاحبه بل خلص من الإفتتان ويراد بها الإمتحان الذي حصل معه افتتان
فمن الأول قوله تعالى لموسى عليه السلام 20: 40 وفتناك فتونا
ومن الثاني قوله تعالى 8: 39 وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقوله ألا في الفتنة سقطوا
ويطلق على ما يتناول الأمرين كقوله تعالى 29: 1 آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ومنه قول موسى عليه السلام 7: 155 إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أي امتحانك وابتلاؤك تضل بها من وقع فيها وتهدي من نجا منها
وتطلق الفتنة على أعم من ذلك كقوله تعالى 64: 15 إنما أموالكم وأولادكم فتنة قال مقاتل أي بلاء وشغل عن الآخرة قال ابن عباس فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى
وقال الزجاج أعلمهم الله تعالى أن الأموال والأولاد مما يفتنون به وهذا عام في جميع الأولاد فإن الإنسان مفتون بولده لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه وتناول الحرام لأجله ووقع في العظائم إلا من عصمه الله تعالى
ويشهد لهذا ما روى أن النبيكان يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما وعليهما قميصان أحمران يعثران فنزل النبي
إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما
وقال ابن مسعود رضي الله عنه لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله تعالى يقول إنما أموالكم وأولادكم فتنة فأيكم استعاذ فليستعذ بالله تعالى من مضلات الفتن
ومنه قوله تعالى 25: 20 وجعلنا بعضكم لبعض فتنة وهذا عام في جميع الخلق امتحن بعضهم ببعض فامتحن الرسل بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم وتحمل المشاق في تبليغهم رسالات ربهم وامتحن المرسل إليهم بالرسل وهل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم أم يكفرون بهم ويردون عليهم ويقاتلونهم وامتحن العلماء بالجهال هل يعلمونهم وينصحونهم ويصبرون على تعليمهم ونصحهم وإرشادهم ولوازم ذلك وامتحن الجهال بالعلماء هل يطيعونهم ويهتدون بهم وامتحن الملوك بالرعية والرعية بالملوك وامتحن الأغنياء بالفقراء والفقراء بالأغنياء وامتحن الضعفاء بالأقوياء والأقوياء بالضعفاء والسادة بالأتباع والأتباع بالسادة وامتحن المالك بمملوكه ومملوكه به وامتحن الرجل بامرأته وامرأته به وامتحن الرجال بالنساء والنساء بالرجال والمؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم وامتحن المأمورين بهم ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم من أتباع الرسل فتنة لأغنيائهم ورؤسائهم امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل وقالوا: لو كان خيرا ما سبقونا إليه هؤلاء وقالوا لنوح عليه السلام: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا فإذا رأى الشريف الرئيس المسكين الذليل قد سبقه إلى الإيمان ومتابعة الرسول حمى وأنف أن يسلم فيكون مثله وقال: أسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حد سواء
قال الزجاج: كان الرجل الشريف ربما أراد الإسلام فيمتنع منه لئلا يقال: أسلم قبله من هو دونه فيقيم على كفره لئلا يكون للمسلم السابقة عليه في الفضل
ومن كون بعض الناس لبعضهم فتنة: أن الفقير يقول: لم لم أكن مثل الغني ويقول الضعيف: هلا كنت مثل القوى ويقول المبتلى هلا كنت مثل المعافى وقال الكفار: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله
قال مقاتل: نزلت في افتتان المشركين بفقراء المهاجرين نحو بلال وخباب وصهيب وأبي ذر وابن مسعود وعمار كان كفار قريش يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا قال الله تعالى: إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم كما قال تعالى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون قال الزجاج أي أتصبرون على البلاء فقد عرفتم ما وجد الصابرون
قلت: قرن الله سبحانه الفتنة بالصبر ههنا وفي قوله: ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا فليس لمن قد فتن بفتنة دواء مثل الصبر فإن صبر كانت الفتنة ممحصة له ومخلصة من الذنوب كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة
فالفتنة كير القلوب ومحك الإيمان وبها يتبين الصادق من الكاذب
قال تعالى: ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
فالفتنة قسمت الناس إلى صادق وكاذب ومؤمن ومنافق وطيب وخبيث فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه ونجا بصبره من فتنة أعظم منها ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها
فالفتنة لا بد منها في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون فالنار فتنة من لم يصبر على فتنة الدنيا قال تعالى في شجرة الزقوم: إنا جعلناها فتنة للظالمين قال قتادة: لما ذكر الله تعالى هذه الشجرة افتتن بها الظلمة فقالوا: يكون في النار شجرة والنار تأكل الشجر فأنزل الله تعالى: إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم فأخبرهم أن غذاءها من النار أي غذيت بالنار قال ابن قتيبة: قد تكون شجرة الزقوم نبتا من النار ومن جوهر لا تأكله النار وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها وعقاربها وحياتها ولو كانت على ما يعلم لم تبق على النار وإنما دلنا الله تعالى على الغائب عنده بالحاضر عندنا فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة وما في الجنة من ثمرها وفرشها وشجرها وجميع آلاتها على مثل ذلك
والمقصود: أن هذه الشجرة فتنة لهم في الدنيا بتكذيبهم بها وفتنة لهم في الآخرة بأكلهم منها
وكذلك إخباره سبحانه بأن عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر كان فتنة للكفار حيث قال عدو الله أبو جهل: أيخوفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم تخرجون من النار فقال أبو الأسد: يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة فأنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة
فكان ذكر هذا العدد فتنة لهم في الدنيا وفتنة لهم يوم القيامة
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 4 (0 من الأعضاء و 4 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)