والكافر مفتون بالمؤمن في الدنيا كما أن المؤمن مفتون به ولهذا سأل المؤمنون ربهم أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا كما قال الحنفاء: ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا وقال أصحاب موسى عليه السلام: ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال مجاهد: المعنى لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا وقال الزجاج: معناه: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك وقال الفراء: لا تظهر علينا الكفار فيروا أنهم على حق وأنا على باطل وقال مقاتل: لا تقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم فيكون ذلك فتنة لهم وقد أخبر الله سبحانه أنه قد فتن كلا من الفريقين بالفريق الآخر فقال: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بينننا فقال الله تعالى: أليس الله بأعلم بالشاكرين
والمقصود: أن الله سبحانه فتن أصحاب الشهوات بالصور الجميلة وفتن أولئك بهم فكل من النوعين فتنة للآخر فمن صبر منهم على تلك الفتنة نجا مما هو أعظم منها ومن أصابته تلك الفتنة سقط فيما هو شر منها فإن تدارك ذلك بالتوبة النصوح وإلا فبسبيل من هلك ولهذا قال النبي ما تركت بعدي فتنة أضر من النساء على الرجال أو كما قال
فالعبد في هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة وشيطانه المغوى المزين وقرنائه وما يراه ويشاهد مما يعجز صبره عنه ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين وضعف القلب ومرارة الصبر وذوق حلاوة العاجل وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا وكون العوض مؤجلا في دار أخرى غير هذه الدار التي خلق فيها وفيها نشأ فهو مكلف بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيب طلب منه الإيمان به:
فوالله لولا الله يسعد عبده... بتوفيقه والله بالعبد أرحم
لما ثبت الأيمان يوما بقلبه... على هذه العلات والأمر أعظم
ولا طاوعته النفس في ترك شهوة مخافة... نار جمرها يتضرم
ولا خاف يوما من مقام إلهه... عليه بحكم القسط إذ ليس يظلم
فصل

والفتنة نوعان: فتنة الشبهات وهي أعظم الفتنتين وفتنة الشهوات وقد يجتمعان للعبد وقد ينفرد بإحداهما
ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى فهنالك الفتنة العظمى والمصيبة الكبرى فقل ما شئت في ضلال سيء القصد الحاكم عليه الهوى لا الهدى مع ضعف بصيرته وقلة علمه بما بعث الله به رسوله فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وقد أخبر الله سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله فقال: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب
وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق وهي فتنة المنافقين وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل والهدى بالضلال
ولا ينجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول وتحكيمه في دق الدين وجله ظاهره وباطنه عقائده وأعماله حقائقه وشرائعه فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام وما يثبته لله من الصفات والأفعال والأسماء وما ينفيه عنه كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها ومقادير نصب الزكاة ومستحقيها ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة وصوم رمضان فلا يجعله رسولا في شيء دون شيء من أمور الدين بل هو رسول في كل شيء تحتاج إليه الأمة في العلم والعمل لا يتلقى إلا عنه ولا يؤخد إلا منه فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله وكل ما خرج عنها فهو ضلال فإذا عقد قلبه على ذلك وأعرض ما سواه ووزنه بما جاء به الرسول فإن وافقه قبله لا لكون ذلك القائل قاله بل لموافقته للرسالة وإن خالفه رده ولو قاله من قاله فهذا الذي ينجيه من فتنة الشبهات وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه
وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد وتارة من نقل كاذب وتارة من حق ثابت خفى على الرجل فلم يظفر به وتارة من غرض فاسد وهوى متبع فهي من عمى في البصيرة وفساد في الإرادة
فصل

وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنة الشهوات وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها والخلاق هو النصيب المقدر ثم قال: وخضتم كالذي خاضوا فهذا الخوض بالباطل وهو الشبهات
فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق والخوض بالباطل لأن فساد الدعين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكم به أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح فالأول: هو البدع وما والاها والثاني: فسق الأعمال
فالأول فساد من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات
ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه
وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون
وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع والهوى على العقل
فالأول: أصل فتنة الشبهة والثاني: أصل فتنة الشهوة
ففتنة الشبهات تدفع باليقين وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين فقال: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون
فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
وجمع بينهما أيضا في قوله: وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات وبالصبر الذي يكف عن الشهوات وجمع بينهما في قوله: واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار فالأيدي: القوى والعزائم في ذات الله والأبصار: البصائر في أمر الله وعبارات السلف تدور على ذلك
قال ابن عباس: أولى القوة في طاعة الله والمعرفة بالله
وقال الكلبي: أولى القوة في العبادة والبصر فيها
وقال مجاهد: الأيدي: القوة في طاعة الله، والأبصار: البصر في الحق.
وقال سعيد بن جبير: الأيدي: القوة في العمل والأبصار: بصرهم بما هم فيه من دينهم
وقال جاء في حديث مرسل: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة والله المستعان
فصل

إذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين مطلوبتين بهما سعادته وفلاحه وكماله وهما الهدى والرحمة
قال تعالى عن موسى وفتاه: فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما فجمع له بين الرحمة والعلم وذلك نظير قول أصحاب الكهف ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا فإن الرشد هو العلم بما ينفع والعمل به والرشد والهدى إذا أفرد كل منهما تضمن الآخر وإذا قرن أحدهما بالآخر فالهدى هو العلم بالحق والرشد هو العمل به وضدهما الغي واتباع الهوى
وقد يقابل الرشد بالضر والشر قال تعالى: قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا وقال مؤمنوا الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا فالرشد يقابل الغى كما في قوله: وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ويقابل الضر والشر كما تقدم وذلك لأن الغي سبب لحصول الشر والضرع ووقوعهما بصاحبه
فالضرر والشر غاية الغي وثمرته كما أن الرحمة والفلاح غاية الهدى وثمرته
فلهذا يقابل كل منهما بنقيضه وسبب نقيضه فيقابل الهدى بالضلال كقوله: يضل من يشاء ويهدي من يشاء وقوله: إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وهو كثير
ويقابل بالضلال والعذاب كقوله: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى فقابل الهدى بالضلال والشقاء
وجمع سبحانه بين الهدى والفلاح والهدى والرحمة كما يجمع بين الضلال والشقاء والضلال والعذاب: كقوله إن المجرمين في ضلال وسعر فالضلال ضد الهدى والسعر العذاب وهو ضد الرحمة
وقال: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى