وكان بعضهم يتمثل:
إذا كان هذا فعله بمحبه... فماذا تراه في أعاديه يصنع
وأنت تشاهد كثيرا من الناس إذا أصابه نوع من البلاء يقول: يا ربي ما كان ذنبي حتى فعلت بي هذا
وقال لي غير واحد: إذا تبت إليه وأنبت وعملت صالحا ضيق علي رزقي ونكد علي معيشتي وإذا رجعت إلى معصيته وأعطيت نفسي مرادها جاءني الرزق والعون ونحو هذا
فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه ليرى صدقك وصبرك هل أنت صادق في مجيئك إليه وإقبالك عليه فتصبر على بلائه فتكون لك العاقبة أم أنت كاذب فترجع على عقبك
وهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنية على مقدمتين
إحداهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه واعتقاده أنه قائم بما يجب عليه وتارك ما نهى عنه واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك وأنه تارك للمأمور مرتكب للمحظور وأنه نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه
والمقدمة الثانية: اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه بل يعيش عمره مظلوما مقهورا مستضاما مع قيامه بما أمر به ظاهرا وباطنا وانتهائه عما نهي عنه باطنا وظاهرا فهو عند نفسه قائم بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان وهو تحت قهر أهل الظلم والفجور والعدوان
فلا إله إلا الله كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل ومتدين لا بصيرة له ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين
فإنه من المعلوم: أن العبد وإن آمن بالآخرة فإنه طالب في الدنيا لما لا بد له منه: من جلب النفع ودفع الضر بما يعتقد أنه مستحب أو واجب أو مباح فإذا اعتقد أن الدين الحق واتباع الهدى والاستقامة على التوحيد ومتابعة السنة ينافي ذلك وأنه يعادي جميع أهل الأرض ويتعرض لما لا يقدر عليه من البلاء وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة في كمال دينه وتجرده لله ورسوله فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين بل قد يعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين بل قد يدخل مع الظالمين بل مع المنافقين وإن لم يكن هذا في أصل الدين كان في كثير من فروعه وأعماله كما قال النبي بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسى كافرا ويصبح مؤمنا يبيع دينه بعرض من الدنيا
وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه من حصول ضرر لا يحتمله وفوات منفعة لا بد له منها لم يقدم على احتمال هذا الضرر ولا تفويت تلك المنفعة
فسبحان الله كم صدت هذه الفتنة الكثير من الخلق بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين وأصلها ناشىء من جهلين كبيرين: جهل بحقيقة الدين وجهل بحقيقة النعيم الذي هو غاية مطلوب النفوس وكمالها وبه ابتهاجها والتذاذها فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين وعن طلب حقيقة النعيم
ومعلوم أن كمال العبد هو بأن يكون عارفا بالنعيم الذي يطلبه والعمل الذي يوصل إليه وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العمل ومحبة صادقة لذلك النعيم وإلا فالعلم بالمطلوب وطريقه لا يحصله إن لم يقترن بذلك العمل والإرادة الجازمة لا توجب وجود المراد إلا إذا لازمها الصبر
فصارت سعادة العبد وكمال لذته ونعيمه موقوفا على هذه المقامات الخمسة: علمه بالنعيم المطلوب ومحبته له وعلمه بالطريق الموصل إليه وعلمه به وصبره على ذلك
قال الله تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر
والمقصود أن المقدمتين اللتين تثبت عليهما هذه الفتنه أصلهما الجهل بأمر الله ودينه وبوعده ووعيده
فإن العبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق فقد اعتقد أنه قد قام بفعل المأمور باطنا وظاهرا وترك المحظور باطنا وظاهرا وهذا من جهله بالدين الحق وما لله عليه وما هو المراد منه فهو جاهل بحق الله عليه جاهل بما معه من الدين قدرا ونوعا وصفة
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى في الدنيا والآخرة بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين وللفجار الظالمين على الأبرار المتقين فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده
فأما المقام الأول: فإن العبد كثيرا ما يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها فيكون مقصرا في العلم وكثيرا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها إما كسلا وتهاونا وإما لنوع تأويل باطل أو تقليد أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها أو لغير ذلك فواجبات القلوب أشد وجوبا من واجبات الأبدان وآكد منها وكأنها ليست واجبات الدين عند كثير من الناس بل هي من باب الفضائل والمستحبات فتراه يتحرج من ترك فرض أو من ترك واجب من واجبات البدن وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها ويتحرج من فعل أدنى المحرمات وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريما وأعظم إثما
بل ما أكثر من يتعبد لله تعالى بترك ما أوجب عليه فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه ويزعم أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك مجتمع على ربه تارك ما لا يعنيه فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى وأبغضهم إليه مع ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه
بل ما أكثر من يتعبد لله بما حرمه الله عليه ويعتقد أنه طاعة وقربة وحاله في ذلك شر من حال من يعتقد ذلك معصية وإثما كأصحاب السماع الشعري الذي يتقربون به إلى الله تعالى ويظنون أنهم من أولياء الرحمن وهم في الحقيقة من أولياء الشيطان
وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه ولا يكون الأمر كذلك بل يكون معه نوع من الحق ونوع من الباطل والظلم ومع خصمه نوع من الحق والعدل وحبك الشيء يعمي ويصم والإنسان مجبول على حب نفسه فهو لا يرى إلا محاسنها ومبغض لخصمه فهو لا يرى إلا مساويه بل قد يشتد به حبه لنفسه حتى يرى مساويها محاسن كما قال تعالى أفمن زينا له سوء عمله فرآه حسنا ويشتد به بغض خصمه حتى يرى محاسنه مساوىء كما قيل:
نظروا بعين عداوة ولو أنها... عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا
وهذا الجهل مقرون بالهوى والظلم غالبا فإن الإنسان ظلوم جهول
وأكثر ديانات الخلق إنما هي عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم وقلدوهم فيها: في الإثبات والنفي والحب والبغض والموالاة والمعاداة والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علما وعملا لم يضمن نصر الباطل ولو اعتقد صاحبه أنه محق وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وهو علم وعمل وحال قال تعالى: وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان وقال تعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه فإذا فاته حظ من العلو والعزة ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان علما وعملا ظاهرا وباطنا
وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه قال تعالى: إن الله يدافع عن الذين آمنوا فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه
وكذلك الكفاية والحسب هي بقدر الإيمان قال تعالى: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين أي الله حسبك وحسب اتباعك أي كافيك وكافيهم فكفايته لهم بحسب اتباعهم لرسوله وانقيادهم له وطاعتهم له فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص
وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هي بحسب إيمانه قال تعالى: والله ولي المؤمنين وقال الله تعالى: الله ولي الذين آمنوا وكذلك معيته الخاصة هي لأهل الإيمان كما قال تعالى: وإن الله لمع المؤمنين فإذا نقص الإيمان وضعف كان حظ العبد من ولاية الله له ومعيته الخاصة بقدر حظه من الإيمان
وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بإدالة عدوعه عليه فإنما هي بذنوبه إما بترك واجب أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه
وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الآخرة ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الحجة
والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مكفي مدفوع عنه بالذات أين كان ولو اجتمع عليه من بأقطارها إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهرا وباطنا وقد قال تعالى للمؤمنين: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين وقال تعالى: فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم فيبطلها عليهم كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره