









فصل
وأما المقام الثاني الذي وقع فيه الغلط فكثير من الناس يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء مقهورين مغلوبين دائما بخلاف من فارقهم إلى سبيل أخرى وطاعة أخرى فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده بل إما أن يجعل ذلك خاص بطائفة دون طائفة أو بزمان دون زمان أو يجعله معلقا بالمشيئة وإن لم يصرح بها
وهذا من عدم الوثوق بوعد الله تعالى ومن سوء الفهم في كتابه
والله سبحانه قد بين في كتابه أنه ناصر المؤمنين في الدنيا والآخرة
قال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
وقال تعالى: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وقال تعالى: إن الذين يحادون الله ورسوله أولكئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وهذا كثير في القرآن
وقد بين سبحانه فيه أن ما أصاب العبد من مصيبة أو إدالة عدو أو كسر وغير ذلك فبذنوبه
فبين سبحانه في كتابه كلا المقدمتين فإذا جمعت بينهما تبين لك حقيقة الأمر وزال الإشكال بالكلية واستغنيت عن تلك التكلفات الباردة والتأويلات البعيدة فقرر سبحانه المقام الأول بوجوه من التقرير: منها ما تقدم
ومنها: أنه ذم من يطلب النصر والعزة من غير المؤمنين كقوله: يا أيها الذين ا منوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين ا منوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين يكأيها الذين ا منوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين ا منوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين ا منوا فإن حزب الله هم الغالبون:
فأنكر على من طلب النصر من غير حزبه وأخبر أن حزبه هم الغالبون
ونظير هذا: قوله: بشرع المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا
وقال تعالى: يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون
وقال تعالى: من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه أي من كان يزيد العزة فليطلبها بطاعة الله من الكلم الطيب والعمل الصالح
وقال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين أي ويعطيكم أخرى فوق مغفرة الذنوب ودخول الجنة وهي النصر والفتح: يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
وقال تعالى للمسيح: إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة فلما كان للنصارى نصيب ما من اتباعه كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة
وقال تعالى للمؤمنين: ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا فهذا خطاب للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان ظاهرا وباطنا
وقال تعالى: إن العاقبة للمتقين وقال: والعاقبة للتقوى والمراد: العاقبة في الدنيا قبل الآخرة لأنه ذكر عقيب قصة نوح ونصره وصبره على قومه فقال تعالى: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين أي عاقبة النصر لك ولمن معك كما كانت لنوح عليه السلام ومن آمن معه
وكذلك قوله: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى
وقال تعالى: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا
وقال: بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ]
وقال إخبارا عن يوسف عليه السلام أنه نصر بتقواه وصبره فقال: أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقال: يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم والفرقان: هو العز والنصر والنجاة والنور الذي يفرق بين الحق والباطل وقال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا
وقد روى ابن ماجه وابن أبي الدنيا عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبيقال: لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لوسعتهم فهذا في المقام الأول
وأما المقام الثاني: فقال تعالى في قصة أحد: أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وقال تعالى: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا وقال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير
وقال: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون
وقال: وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور
وقال: وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون
وقال: أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير
وقال: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك
ولهذا أمر الله سبحانه رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم وهو طاعته وهو المقدمة الأولى وأمر بانتظار وعده وهو المقدمة الثانية وأمر بالاستغفار والصبر لأن العبد لابد أن يحصل له نوع تقصير وسرف يزيله الاستغفار ولابد في انتظار الوعد من الصبر فبالاستغفار تتم الطاعة وبالصبر يتم اليقين بالوعد وقد جمع الله سبحانه بينهما في قوله: فاصبر إن وعد الله حقك واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار
وقد ذكر الله سبحانه في كتابه قصص الأنبياء وأتباعهم وكيف نجاهم بالصبر والطاعة ثم قال: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
فصل
وتمام الكلام في هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة
الأول: أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار والواقع شاهد بذلك وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير الأصل الثاني: أن ما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب فإن فاتهم الرضا فمعولهم على الصبر وعلى الاحتساب وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته فإنهم كلما شاهدوا العوض هان عليهم تحمل المشاق والبلاء والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب وإن صبروا فكصبر البهائم وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون
فاشتركوا في الألم وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى
الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أوذي في الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه ووجود حقائق الإيمان في قلبه حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن فإنه يدفع عنه كثيرا من البلاء وإذا كان لا بد له من شيء منه دفع عنه ثقله ومؤنته ومشقته وتبعته الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه كان أذى المحب في رضى محبوبه مستحلى غير مسخوط والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك حتى قال قائلهم:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة... لقد سرني أني خطرت ببالك
فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له وإحسان إليه الأصل الخامس: أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان وإن كان في الظاهر بخلافه
قال الحسن رحمه الله: إنهم وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه
الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه كما
قال النبيوالذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأقرب إليهم فالأقرب يبتلى المرء على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة
الأصل السابع: أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه وغلبته له وأذاه له في بعض الأحيان: أمر لازم لابد منه وهو كالحر الشديد والبرد الشديد والأمراض والهموم والغموم فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار حتى للأطفال والبهائم لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر والنفع عن الضر واللذة عن الألم لكان ذلك عالما غير هذا ونشأة أخرى غير هذه النشأة وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر والألم واللذة والنافع والضار وإنما يكون تخليص هذا من هذا وتمييزه في دار أخرى غير هذه الدار كما قال تعالى: ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحيانا فيه حكمة عظيمة لا يعلمها على التفضيل إلا الله تعالى
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)