ولهذا لم يكن هؤلاء الفلاسفة ولا الصابئة من الأمم المستقلة التي لها كتاب ونبي وإن كانوا من أهل دعوة الرسل فما من أمة إلا وقد أقام الله سبحانه عليها حجته وقطع عنها حجتها لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وتكون حجته عليهم والمقصود: أن الصابئة فرق فصابئة حنفاء وصابئة مشركون وصابئة فلاسفة وصابئة يأخذون بمحاسن ما عليه أهل الملل والنحل من غير تقيد بملة ولا نحلة ثم منهم من يقر بالنبوات جملة ويتوقف في التفصيل ومنهم من يقر بها جملة وتفصيلا ومنهم من ينكرها جملة وتفصيلا
وهم يقرون أن للعالم صانعا فاطرا حكيما مقدسا عن العيوب والنقائص ثم قال المشركون منهم: لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسطات الروحانيات القريبة منه وهم الروحانيون المقربون المقدسون عن المواد الجسمانية وعن القوى الجسدانية بل قد جبلوا على الطهارة فنحن نتقرب إليهم ونتقرب بهم إليه فهم أربابنا وا لهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الا لهة فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن الشهوات الطبيعية ونهذب أخلاقنا من علائق القوى الغضبية حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات وتتصل أرواحنا بهم فحينئذ نسأل حاجتنا منهم ونعرض أحوالنا عليهم ونصبوا في جميع أمورنا إليهم فيشفعون لنا إلى إلهنا وإلهكهم، وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باستمداد من جهة الروحانيات وذلك بالتضرع والابتهال بالدعوات: من الصلوات والزكوات وذبح القرابين والبخورات والعزائم فحينئذ يحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة الرسل بل نأخذ من المعدن الذي أخذت منه الرسل فيكون حكمنا وحكمهم واحدا ونحن وإياهم بمنزلة واحدة
قالوا: والأنبياء أمثالنا في النوع وشركاؤنا في المادة وأشكالنا في الصورة يأكلون مما نأكل ويشربون مما نشرب وما هم إلا بشر مثلنا يريدون أن يتفضلوا علينا
وزادت الاتحادية أتباع ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وأضرابهم على هؤلاء بما قاله شيخ الطائفة محمد بن عربي: أن الولي أعلى درجة من الرسول لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي إلى الرسول فهو أعلى منه بدرجتين
فجعل هؤلاء الملاحدة أنفسهم وشيوخهم أعلى في التلقي من الرسل بدرجتين وإخوانهم من المشركين جعلوا أنفسهم في ذلك التلقي بمنزلة الأنبياء ولم يدعوا أنهم فوقهم
والمقصود: أن هؤلاء كفروا بالأصلين اللذين جاءت بهما جميع الرسل والأنبياء من أولهم إلى ا خرهم
أحدهما: عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بما يعبد من دونه من إله والثاني: الإيمان برسله وما جاؤا به من عند الله تصديقا وإقرارا وانقيادا وامتثالا وليس هذا مختصا بمشركي الصابئة كما غلط فيه كثير من أرباب المقالات بل هذا مذهب المشركين من سائر الأمم لكن شرك الصابئة كان من جهة الكواكب والعلويات ولذلك ناظرهم إمام الحنفاء صلوات الله وسلامه عليه في بطلان إلهيتها بما حكاه الله سبحانه في سورة الأنعام أحسن مناظرة وأبينها ظهرت فيها حجته ودحضت حجتهم فقال بعد أن بين بطلان إلهية الكواكب والقمر والشمس بأفولها وأن الإله لا يليق به أن يغيب ويأفل بل لا يكون إلا شاهدا غير غائب كما لا يكون إلا غالبا قاهرا غير مغلوب ولا مقهور نافعا لعباده يملك لعابده الضر والنفع فيسمع كلامه ويرى مكانه ويهديه ويرشده ويدفع عنه كل ما يضره ويؤذيه وذلك ليس إلا لله وحده فكل معبود سواه باطل
فلما رأى إمام الحنفاء أن الشمس والقمر والكواكب ليست بهذه المثابة صعد منها إلى فاطرها وخالقها ومبدعها فقال: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا
وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه خالق أمكنتها ومحالها التي هي مفتقرة إليها ولا قوام لها إلا بها فهي محتاجة إلى محل تقوم به وفاطر يخلقها ويدبرها ويربها والمحتاج المخلوق المربوب المدبر لا يكون إلها فحاجه قومه في الله ومن حاج في عبادة الله فحجته داحضة فقال إبراهيم عليه السلام: أتحاجونىع في الله وقد هدان وهذا من أحسن الكلام أي أتريدون أن تصرفوني عن الإقرار بربي وبتوحيده وعن عبادته وحده وتشككوني فيه وقد أرشدني وبين لي الحق حتى استبان لي كالعيان وبين لي بطلان الشرك وسوء عاقبته وأن ا لهتكم لا تصلح للعبادة وأن عبادتها توجب لعابديها غاية الضرر في الدنيا والا خرة فكيف تريدون مني أن أنصرف عن عبادته وتوحيده إلى الشرك به وقد هداني إلى الحق وسبيل الرشاد فالمحاجة والمجادلة إنما فائدتها طلب الرجوع والانتقال من الباطل إلى الحق ومن الجهل إلى العلم ومن العمى إلى الإبصار ومجادلتكم إياي في الاله الحق الذي كل معبود سواه باطل تتضمن خلاف ذلك
فخوفوه بآلهتهم أن تصيبه بسوء كما يخوف المشرك الموحد بإلهه الذي يألهه مع الله أن يناله بسوء فقال الخليل: ولا أخاف ما تشركون به فإن ا لهتكم أقل وأحقر من أن تضر من كفر بها وجحد عبادتها ثم رد الأمر إلى مشيئة الله وحده وأنه هو الذي يخاف ويرجى فقال: إلا أن يشاء ربي شيئا وهذا استثناء منقطع والمعنى: لا أخاف ا لهتكم فإنها لا مشيئة لها ولا قدرة لكن إن شاء ربي شيئا نالني وأصابني لا ا لهتكم التي لا تشاء ولا تعلم شيئا وربي له المشيئة النافذة وقد وسع كل شيء علما فمن أولى بأن يخاف ويعبد: هو سبحانه أم هي
ثم قال: أفلا تتذكرون فتعلمون ما أنتم عليه من إشراك من لا مشيئة له ولا يعلم شيئا ممن له المشيئة التامة والعلم التام ثم قال: وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزعل به عليكم سلطانا وهذا من أحسن قلب الحجة وجعل حجة المبطل بعينها دالة على فساد قوله وبطلان مذهبه فإنهم خوفوه با لهتهم التي لم ينزل الله عليهم سلطانا بعبادتها وقد تبين بطلان إلهيتها ومضرة عبادتها ومع هذا فلا تخافون شرككم بالله وعبادتكم معه ا لهة أخرى فأي الفريقين أحق بالأمن وأولى بأن لا يلحقه الخوف فريق الموحدين أم فريق المشركين
فحكم الله سبحانه بين الفريقين بالحكم العدل الذي لا حكم أصح منه فقال: الذين ا منوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي بشرك أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
ولما نزلت هذه الآية شق أمرها على الصحابة وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه فقال إنما هو الشرك: ألم تسمعوا قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم
فحكم سبحانه للموحدين بالهدى والأمن وللمشركين بضد ذلك وهو الضلال والخوف ثم قال وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم
قال أبو محمد بن حزم وكان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا الحوادث وبدلوا شرائعه فبعث الله إليهم إبراهيم خليله بدين الإسلام الذي نحن عليه اليوم وتصحيح ما أفسدوه بالحنيفية السمحة التي أتانا بها محمد رسول الله من عند الله تعالى وكانوا في ذلك الزمان وبعده يسمون الحنفاء
قلت هم قسمان صابئة مشركون وصابئة حنفاء وبينهم مناظرات وقد حكى الشهرستاني بعض مناظراتهم في كتابه
فصل

في ذكر تلاعبه بالدهرية وهؤلاء قوم عطلوا المصنوعات عن صانعها وقالوا ما حكاه الله عنهم 45: 24 وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر
وهؤلاء فرقتان فرقة قالت إن الخالق سبحانه لما خلق الأفلاك متحركة أعظم حركة دارت عليه فأحرقته ولم يقدر على ضبطها وإمساك حركاتها
وفرقة قالت إن الأشياء ليس لها أول ألبتة وإنما تخرج من القوة إلى الفعل فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل تكونت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها لا من شيء آخر
وقالوا إن العالم دائم لم يزل ولا يزال لا يتغير ولا يضمحل ولا يجوز أن يكون المبدع يفعل فعلا يبطل ويضمحل إلا وهو يبطل ويضمحل مع فعله وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التي هي فيه
وهؤلاء هم المعطلة حقا وهم فحول المعطلة وقد سرى هذا التعطيل إلى سائر فرق المعطلة على اختلاف آرائهم وتباينهم في التعطيل كما سرى داء الشرك تأصيلا وتفصيلا في سائر فرق المشركين على اختلاف مذاهبهم فيه وكما سرى جحد النبوات تأصيلا وتفصيلا في سائر من جحد النبوة أو صفة من صفاتها أو أقر بها جملة وجحد مقصودها وزبدتها أو بعضه
فهذه الفرق الثلاثة سرى داؤها وبلاؤها في الناس ولم ينج منه إلا أتباع الرسل العارفون بحقيقة ما جاء به المتمسكون به دون ما سواه ظاهرا وباطنا
فداء التعطيل وداء الإشراك وداء مخالفة الرسول وجحد ما جاء به أو شيء منه هو أصل بلاء العالم ومنبع كل شر وأساس كل باطل فليست فرقة من فرق أهل الإلحاد والباطل والبدع إلا وقولها مشتق من هذه الأصول الثلاثة أو من بعضها
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة... وإلا فإني لا أظنك ناجيا