ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك الوقعة التي كانت بين بابك وبغا الكبير من ناحية هشتادسر، فهزم بغا واستبيح عسكره.
ذكر الخبر عن وقعة الأفشين مع بابك في هذه السنة

وفيها واقع الأفشين بابك وهزمه.
ذكر الخبر عن هذه الوقعة وكيف كان السبب فيها
ذكر أن بغا الكبير قدم بالمال الذي قد مضى ذكره؛ وأن المعتصم وجهه معه إلى الأفشين عطاءً للجند الذي كان معه ولنفقات على الأفشين، وبالرجال الذين توجهوا معه إليه، فأعطى الأفشين أصحابه، وتجهز بعد النيروز، ووجّه بغا في عسكر ليدور حول هشتادسر، وينزل في خندق محمد بن حميد ويحفره ويحكمه وينزه. فتوجه بغا إلى خندق محمد بن حميد، وصار إليه، ورحل الأفشين من برزند، ورحل أبو سعيد من خش يريد بابك، فتوافوا بموضع يقال له دروذ، فاحتقر الأفشين بها خندقًا، وبنى حوله سورًا، ونزل هو وأبو سعيد في الخندق مع من كان صار إليه من المطوعة؛ فكان بينه وبين البذ ستة أميال. ثم إن بغا تجهز، وحمل معه الزاد من غير أن يكون الأفشين كتب إليه ولا أمره بذلك؛ فدار حول هشتادسر حتى دخل إلى قرية البذ، فنزل في وسطها، وأقام بها يومًا واحدًا، ثم وجه ألف رجل في علافة له، فخرج عسكر من عساكر بابك، فاستباح العلافة، وقتل جميع من قاتله منهم، وأسر من قدر عليه، وأخذ بعض الأسرى؛ فأرسل منهم رجلين مما يلي الأفشين، وقال لهما: إلى الأفشين، وأعلماه ما نزل بأصحابكم فأشرف الرجلان، فنظر إليهما صاحب الكوهبانية؛ فحرك العلم، فصاح أهل العسكر: السلاح السلاح! وركبوا يريدون البذ، فتلقاهم الرجلان عريانين؛ فأخذهما صاحب المقدمة، فمضى بهما إلى الأفشين، فأخبراه بقصتيهما، فقال: فعل شيئًا من غير أن نأمره. ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيهًا بالمنهزم؛ وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك، ويسأله المدد، ويعلمه أن العسكر مفلول، فوجه إليه الأفشين أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وجناحًا الأعور السكري وصاحب شرطة الحسن بن سهل - وأحد الأخوين قرابة الفضل بن سهل - فداروا حول هشتادسر، فسر أهل عسكره بهم؛ ثم كتب الأفشين إلى بغا يعلمه أنه يغزو بابك في يوم سماه له، ويأمره أن يغزوه في ذلك اليوم بعينه، ليحاربه من كلا الوجهين؛ فخرج الأفشين في ذلك اليوم من دروذ يريد بابك، وخرج بغا من خندق محمد بن حميد، فصعد إلى هشتادسر، فعسكر على دعوة يجنب قبر محمد بن حميد، فهاجت ريح باردة ومطر شديد؛ فلم يكن للناس عليها صبر لشدة البرد وشدة الريح، فانصرف بغا إلى عسكره، وواقعهم الأفشين من الغد، وقد رجع بغا إلى عسكره، فهزمه الأفشين، وأخذ عسكره وخيمته وامرأة كانت معه في العسكر. ونزل الأفشين في معسكر بابك. ثم تجهز بغا من الغد، وصعد هشتادستر، فأصاب العسكر الذي كان مقيمًا بازائه بهشتادسر، قد انصرف إلى بابك ورحل بغا إلى موضعه، فأصاب خرثيًا وقماشًا، وانحدر من هشتادسر يريد البذ، فأصاب رجلًا وغلامًا نائمين فأخذهما داودسياه - وكان على مقدمته - فساءلهما، فذكرا أن رسول بابك أتاهم في الليلة التي انهزم فيها بابك، فأمرهم أن يوافوه بالبذ، فكان الرجل والغلام سكرانين، فذهب بهما النوم، فلا يعرفان من الخبر غير هذا؛ وكان ذلك قبل صلاة العصر. فبعث بغا إلى داودسياه: قد توسطنا الموضع الذي تعرفه - يعني الذي كنا فيه في المرة الأولى - وهذا وقت المساء، وقد تعب الرجالة، فانظر جبلًا حصينًا يسع عسكرنا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه. فالتمس داودسياه ذلك، فصعد إلى بعض الجبال، فالتمس أعلاه فأشرف، فرأى أعلام الأفشين ومعسكره شبه الخيال فقال: هذا موضعنا إلى غدوة، ونتحدر من الغد إلى الكافر إن شاء الله. فجاءهم في تلك الليلة سحاب وبرد ومطر وثلج كثير؛ فلم يقدر أحد حين أصبحوا أن ينزل من الجبل يأخذ ماء، ولا يسقي دابته من شدة البرد وكثرة الثلج؛ وكأنهم كانوا في ليل من شدة الظلمة والضباب. فلما كان اليوم الثالث قال الناس لبغا: قد فنى ما معنا من الزاد، وقد أضر بنا البرد؛ فانزل على أي حالة كانت؛ إما راجعين وإما إلى الكافر. وكان في أيام الضباب. فبيت بابك الأفشين ونقض عسكره، وانصرف الأفشين عنه إلى معسكره، فضرب بغا بالطبل، وانحدر يريد البذ حتى صار إلى البطن، فنظر إلى السماء منجلية، والدنيا طيبة، غير رأس الجبل الذي كان عليه بغا، فعبى بغا أصحابه ميمنةً وميسرةً ومقدمة، وتقدم يريد البذ، وهو لا يشك أن الأفشين في موضع معسكره، فمضى حتى صار بلزق جبل البذ، ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذ إلا صعود قدر نصف ميل؛ وكان على مقدمته جماعة فيهم غلام لابن البعيثن له قرابة بالبذ، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف بعضهم الغلام، فقال له: فلان، فقال: من هذا ها هنا؟ فسمى له من كان معه من أهل بيته، فقال: ادن حتى أكلمك، فدنا الغلام منه، فقال له: ارجع وقل لمن تعنى به يتنحى؛ فإنا قد بيتنا الأفشين، وانهزم إلى خندقه وقد هيأنا لكم عسكرين، فعجل الانصراف لعلك أن تفلت. فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث بذلك، وسمى له الرجل، فعرفه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا شاور أصحابه، فقال بعضهم: هذا باطل؛ هذه خدعة ليس من هذا شيء، فقال بعض الكوهبانيين: إن هذا رأس جبل أعرفه، من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين. فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممن نشط، فأشرفوا على الموضع، فلم يروا فيه عسكر الأفشين فتيقنوا أنه قد مضى، وتشاوروا، فرأوا أن ينصرف الناس راجعين في صدر النهار قبل أن يجنّهم الليل، فأمر بغا داود سياه بالانصراف، فتقدّم داود وجدّ في السير، ولم يقصد الطريق الذي كان دخل منه إلى هشتادستر مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي كان دخل منه في المرّة الأولى، يدور حول هشتادسر، وليس فيه مضيق إلّا في موضع واحد. ضهم الغلام، فقال له: فلان، فقال: من هذا ها هنا؟ فسمى له من كان معه من أهل بيته، فقال: ادن حتى أكلمك، فدنا الغلام منه، فقال له: ارجع وقل لمن تعنى به يتنحى؛ فإنا قد بيتنا الأفشين، وانهزم إلى خندقه وقد هيأنا لكم عسكرين، فعجل الانصراف لعلك أن تفلت. فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث بذلك، وسمى له الرجل، فعرفه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا شاور أصحابه، فقال بعضهم: هذا باطل؛ هذه خدعة ليس من هذا شيء، فقال بعض الكوهبانيين: إن هذا رأس جبل أعرفه، من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين. فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممن نشط، فأشرفوا على الموضع، فلم يروا فيه عسكر الأفشين فتيقنوا أنه قد مضى، وتشاوروا، فرأوا أن ينصرف الناس راجعين في صدر النهار قبل أن يجنّهم الليل، فأمر بغا داود سياه بالانصراف، فتقدّم داود وجدّ في السير، ولم يقصد الطريق الذي كان دخل منه إلى هشتادستر مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي كان دخل منه في المرّة الأولى، يدور حول هشتادسر، وليس فيه مضيق إلّا في موضع واحد.
فسار بالناس، وبعث بالرّجالة، فطرحوا رماحهم وأسلحتهم في الطريق، ودخلتهم وحشة شديدة ورعب، وصار بغا والفضل بن كاوس وجماعة القوّاد في الساقة، وظهرت طلائع بابك؛ فكلما نزل هؤلاء جبلًا صعدته طلائع بابك؛ يتراءون لهم مرّة ويغيبون عنهم مرّة، وهو في ذلك يقفون آثارهم، وهو قدر عشرة فرسان؛ حتى كان بين الصلاتين: الظهر والعصر، فنزل بغا ليتؤضأ ويصلي، فتدانت منهم طلائع بابك، فبرزوا لهم، وصلى بغا، ووقف في وجوهم، فوقفوا حين رأوه، فتخوّف بغا على عسكره أن يواقعه الطلائع من ناحية، ويدور عليهم في بعض الجبال والمضايق قومٌ آخرون، فشارو من حضره وقال: لست آمن أن يكونوا جعلوا هؤلاء مشغلة، يحبسوننا عن المسير، ويقدمون أصحابهم ليأخذوا على أصحابنا المضايق. فقال له الفضل بن كاوس: ليس هؤلاء أصحاب نهار؛ وإنما هم أصحاب ليل؛ وإنما يتخوّف على أصحابنا من الليل، فوجّه إلى داود سياه ليسرع السير ولا ينزل، ولو صار إلى نصف الليل حتى يجاوز المضيق، ونقف نحن هاهنا؛ فإن هؤلاء ما داموا يروننا في وجوهم لا يسيرون، فنماطلهم وندافعهم قليلًا قليلًا حتى تجيء الظلمة؛ فإذا جاءت الظلمة لم يعرفوا لنا موضعًا، وأصحابنا يسيرون فينفذون أوّلا فأوّلا، فإن أخذ علينا نحن المضيق تخلصنا من طريق هشتادستر أو من طريق آخر.
وأشار غيره على بغا. فقال: إنّ العسكر قد تقطّع، وليس يدرك أوّله آخره، والناس قد رموا بسلاحهم، وقد بقي المال والسلاح على البغال، وليس معه أحد، ولا نأمن من أن يخرج عليه من يأخذ المال والأسير - وكان ابن جويدان معهم أسيرًا أرادوا أن يفادوا به كاتبًا لعبد الرحمن بن حبيب، أسره بابك - فعزم بغا على أن يعسكر بالناس حين ذكر له المال والسلاح والأسي فوجه إلى داود سياه: حيثما رأيت جبلًا حصينًا، فعسكر عليه.
فعدل داود إلى جبل مؤوب، لم يكن لناس موضع يقعدون فيه من شدة هبوطه، فعسكر عليه، فضرب مضربًا لبغا على طرف الجبل في موضع شبيه بالحائط؛ ليس فيه مسلك، وجاء بغا فنزل، وأنزل الناس وقد تعبوا وكلوا، وفنيت أزوادهم، فباتوا على تعبئة وتحارس من ناحية المصعد فجاءهم العدو من الناحية الأخرى فتعلقوا بالجبل حتى صاروا إلى مضرب بغا، فكبسوا المضرب، وبيتوا العسكر، وخرج بغا راجلًا حتى نجا، وجرح الفضل بن كاوس، وقتل جناح السكري، وقتل ابن جوشن، وقتل أحد الأخوين قرابة الفضل ابن سهل وخرج بغا من العسكر راجلًا، فوجد دابة فركبها، ومرّ بابن البعيث فأصعده على هشتادسر، حتى انحدر به على عسكر محمد بن حميد فوافاه في جوف الليل، وأخذ الخرمية المال والسلاح والأسير ابن جويدان، ولم يتبعوا الناس ومر الناس منهزمين منقطعين حتى وافوا بغا، وهو في خندق محمد بن حميد، فأقام بغا في خندق محمد بن حميد خمسة عشر يومًا، فأتاه كتاب الأفشين يأمره بالرجوع إلى المراغة وأن يرد إليه المدد الذي كان أمده به، فمضى بغا إلى المراغة، وانصرف بن كاوس وجميع من جاء معه من معسكر الأفشين، وفرق الأفشين اناس في مشاتيهم تلك السنة حتى جاء الربيع من السنة المقبلة.