وقد رأى أمير المؤمنين - لما يحبه من التقرب إلى الله بجهاد عدوه، وقضاء حقه عليه فيما استحفظه من دينه، والتماس الزلفى له في إعزاز أوليائه، وإحلال البأس والنقمة بمن حاد عن دينه، وكذب رسله، وفارق طاعته - أن ينهض وصيفًا مولى أمير المؤمنين في هذا العام إلى بلاد أعداء الله الكفرة والروم، غازيًا لما عرّف الله أمير المؤمنين من طاعته ومناصحته ومحمود نقيبته وخلوص نيته، في كل ما قربة من الله ومن خليفته.
وقد رأى أمير المؤمنين - والله ولي معونته وتوفيقه - أن تكون موافاة وصيف فيمن أنهض أمير المؤمنين معه من مواليه وجنده وشاكريته ثغر ملطية لاثنتي عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين؛ وذلك من شهور العجم للنصف من حزيران ودخوله بلاد أعداء الله في أول يوم من تموز؛ فاعلم ذلك واكتب إلى أعمالك على نواحي عملك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا؛ ومرهم بقراءته على من قبلهم من المسلمين وترغيبهم في الجهاد، وحثهم عليه واستنفارهم إليه، وتعريفهم ما جعل الله من الثواب لأهله، ليعمل ذوو النيات والحسبة والرغبة في الجهاد على حسب ذلك في النهوض إلى عدوهم والحفوف إلى معاونة إخوانهم والذياد عن دينهم والرمي من وراء حوزتهم بموافاة عسكر وصيف مولى أمير المؤمنين ملطية في الوقت الذي حده أمير المؤمنين لهم إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب أحمد بن الخصيب لسبع ليال خلون من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائتين؛ وصير على ما ذكرناه على نفقات عسكر وصيف والمغانم والمقاسم المعروف بأبي الوليد الجريري البجلي.
وكتب معه المنتصر كتابًا إلى وصيف يأمره بالمقام ببلاد الثغر إذا هو انصرف من غزاته أربع سنين، يغزو في أوقات الغزو منها إلى أن يأيته رأى أمير المؤمنين.
ذكر خبر خلع المعتز والمؤيد أنفسهما

وفي هذه السنة خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وأظهر المنتصر خلعهما في القصر الجعفري المحدث.
ذكر الخبر عن خلعهما أنفسهما
ذكر أن محمدًا المنتصر بالله لما استقامت له الأمور، قال أحمد بن الخصيب لوصيف وبغا: إنا لا نأمن من الحدثان؛ وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي الأمر المعتز، فلا يبقى منا باقية، ويبيد خضراءنا؛ والرأي أن نعمل في خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا. فجد الأتراك في ذلك، وألحوا على المنتصر وقالوا: يا أمير المؤمنين؛ تخلعهما من الخلافة، وتبايع لابنك عبد الوهاب؛ فلم يزالوا حتى فعل، ولم يزل مكرمًا المعتز والمؤيد؛ على ميلٍ منه شديد إلى المؤيد؛ فلما كان بعد أربعين يومًا من ولايته؛ أمر بإحضار المعتز والمؤيد بعد انصرافهما من عنده، فأحضرا وجعلا في دار، فقال المعتز للمؤيد: يا أخي، لم ترانا أحضرنا؟ فقال: يا شقي، للخلع! فقال: لا أظنه يفعل بنا ذلك؛ فبيناهم كذلك؛ إذ جاءهم الرسل بالخلع، فقال المؤيد: السمع والطاعة، وقال المعتز: ما كنت لأفعل؛ فإن أردتم القتل فشأنكم، فرجعوا إليه، فأعلموه ثم عادوا بغلظة شديدة، فأخذوا المعتز بعنف، وأدخلوه إلى بيت، وأغلقوا الباب.
فذكر عن يعقوب بن السكيت، أنه قال: حدثني المؤيد، قال: لما رأيت ذلك قلت لهم بجرأة واستطالة: ما هذا يا كلاب! فقد ضريتم على دمائنا، تثبون على مولاكم هذا الوثوب! اعزبوا قبحكم الله! دعوني أكلمه؛ فكاعوا عن جوابي بعد تسرع كان منهم، وأقاموا ساعة، ثم قالوا لي: القه إن أحببت؛ فظننت أنهم استأمروا، فقمت إليه، فإذا هو في البيت يبكي، فقلت: يا جاهل؛ تراهم قد نالوا من أبيك - وهو هو - ما نالوا، ثم تمتنع عليهم! اخلع ويلك لا تراجعهم!؛ قال: سبحان الله! أمرٌ قد مضيت عليه، وجرى في الآفاق أخلعه من عنقي! فقلت: هذا الأمر قتل أباك، فليته لا يقتلك! اخلعه ويلك! فوالله لئن كان في سابق علم الله أن تلي لتلين. قال: أفعل. قال: فخرجت فقلت: قد أجاب، فأعلموا أمير المؤمنين، فمضوا ثم عادوا فجزوني خيرًا، ودخل معهم كاتب قد سماه، ومعه دواة وقرطاس، فجلس، ثم أقبل على أبي عبد الله، فقال: اكتب بخطك خلعك، فتلكأ، فقلت للكاتب: هات قرطاسًا، أملل ما شئت، فأملي علي كتابًا إلى المنتصر، أعلمه فيه ضعفي عن هذا الأمر؛ وأني علمت أنه لا يحل أن أتقلده، وكرهت أن يأثم المتوكل بسببي إذا لم أكن موضعًا له، وأسأله الخلع، وأعلمه أني خلعت نفسي، وأحللت الناس من بيعتي. فكتبت كل ما أراد، ثم قلت: اكتب يا أبا عبد الله، فامتنع، فقلت: اكتب ويلك! فكتب وخرج الكاتب عنا، ثم دعانا فقلت: نجدد ثيابنا أو نأتي في هذه؟ فقال: بل جددا، فدعوت بثياب فلبستها، وفعل أبو عبد الله كذلك، وخرجنا فدخلنا؛ وهو في مجلسه، والناس على مراتبهم، فسلمنا فردوا، وأمر بالجلوس، ثم قال: هذا كتابكما؟ فسكت المعتز، فبدرت فقلت: نعم يا أمير المؤمنين! هذا كتابي بمسألتي ورغبتي، وقلت للمعتز: تكلم، فقال مثل ذلك، ثم أقبل علينا والأتراك وقوفٌ، وقال: أترياني خلعتكما طمعًا في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له! والله ما طمعت في ذلك ساعة قط؛ وإذا لم يكن في ذلك طمع؛ فوالله لأن يليها بنو أبي أحب إلي من أن يليها بنو عمي؛ ولكن هؤلاء - وأما إلى سائر الموالي ممن هو قائم وقاعد - ألحوا علي في خلعكما، فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة، فيأتي عليكما، فما ترياني صانعًا! أقتله؟ فوالله ما تفى دماؤهم كلهم بدم بعضكم؛ فكانت إجابتهم إلى ما سألوا أسهل على. قال: فأكبا عليه، فقبلا يده، فضمها إليه، ثم انصرفا.
وذكر أنه لما كان يوم السبت لسبع بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وكتب كل واحد منها رقعة بخطه أنه خلع نفسه من البيعة التي بويع بها، وأن الناس في حل من حلها ونقضها؛ وأنهما يعجزان عن القيام بشيء منها، ثم قاما بذلك على رءوس الناس والأتراك والوجوه والصحابة والقضاة، وجعفر بن عبد الواحد قاضي القضاة، والقواد بني هاشم، وولاة الدواوين والشيعة ووجوه الحرس، ومحمد بن عبد الله بن طاهر، ووصيف وبغا الكبير وبغا الصغير، وجميع من حضر دار الخاصة والعامة، ثم انصرف الناس بعد ذلك.
والنسخة التي كتباها: بسم الله الرحمن الرحيم: إن أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه قلدني هذا الأمر، وبايع لي وأنا صغير؛ من غير إرادتي ومحبتي؛ فلما فهمت أمري علمت أني لا أقوم بما قلدني، ولا أصلح لخلافة المسلمين، فمن كانت بيعتي في عنقه فهو من نقضها في حل، وقد أحللتكم منها، وأبرأتكم من أيمانكم؛ ولا عهد لي في رقابكم ولا عقد؛ وأنتم برآء من ذلك.
وكان الذي قرأ الرقاع أحمد بن الخصيب. ثم قال كل واحد منهما قائمًا، فقال لمن حضر: هذه رقعتي وهذا قولي؛ فاشهدوا علي، وقد أبرأتكم من أيمانكم. وحللتكم منها. فقال لهما المنتصر عند ذلك: قد خار الله لكما وللمسلمين، وقام فدخل وكان قد قعد للناس، وأقعدهما بالقرب منه، فكتب كتابًا إلى العمال بخلعهما وذلك في صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين.
نسخة كتاب المنتصر بالله إلى أبي العباس محمد بن عبد الله

ابن طاهر مولى أمير المؤمنين في خلع أبي عبد الله المعتز وإبراهيم المؤيد من عبد الله محمد الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين؛ أما بعد؛ فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه؛ وجعل ولاة الأمر من خلفائه القائمين بما بعث به رسول والذابين عن دينه، والدا عين إلى حقه والممضين لأحكامه، وجعل ما اختصهم به من كرامته قوامًا لعباده. وصلاحًا لبلاده، ورحمة غمر بها خلقه، وافترض طاعتهم، ووصلها بطاعته وطاعة رسوله محمد ، وأوجبها في محكم تنزيله؛ لما جمع فيها من سكون الدهماء. واتساق الأهواء، ولم الشعث، وأمن السبل، ووقم العدو، وحفظ الحريم، وسد الثغور، وانتظام الأمور، فقال: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " فمن الحق على خلفاء الله الذين حباهم بعظيم نعمته، واختصهم بأعلى رتب كرامته، واستحفظهم فيما جعله وسيلة إلى رحمته، وسببًا لرضاه ومثوبته. لأن يؤثروا طاعته في كل حال تصرفت بهم، ويقيموا حقه في أنفسهم والأقرب فالأقرب منهم؛ وأن يكون محلهم من الاجتهاد في كل ما قرب من الله عز وجل حسب موقعهم من الدين وولاية أمر المسلمين. وأمير المؤمنين يسأل الله مسألة رغبة إليه؛ وتذللًا لعظمته، أن يتولاه فيما استرعاه ولاية يجمع له بها صلاح ما قلده، ويحمل عنه أعباء ما حمله، ويعيه بتوفيقه على طاعته؛ إنه سميع قريب.
وقد علمت ما حضرت من رفع أبي عبد الله وإبراهيم ابني أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين رقعتين بخطوطهما؛ يذكران فيهما ما عرفهما الله من عطف أمير المؤمنين عليهما، ورأفته بهما، وجميل نظره لهما؛ وما كان أمير المؤمنين المتوكل على الله عقده لأبي عبد الله من ولاية عهد أمير المؤمنين ولإبراهيم من ولاية العهد بعد أبي عبد الله. وإن ذلك العقد كان وأبو عبد الله طفل لم يبلغ ثلاث سنين؛ ولم يفهم ما عقد له ولا وقف على ما قلده، وإبراهيم صغير لم يبلغ الحلم، ولم يجر أحكامها ولا جرت أحكام الإسلام عليهما، وإنه قد يجب عليهما إذ بلغا ووقفا على عجزهما عن القيام بما عقد لهما من العهد، وأسند إليهما من الأعمال أن ينصحا لله ولجماعة المسلمين، بأن يخرجا من هذا الأمر الذي عقد لهما أنفسهما، ويعتزلا الأعمال التي قلداها، ويجعلا كل من في عنقه لهما بيعة وعليه يمين في جل؛ إذ كانا لا يقومان بما رشحا له، ولا يصلحان لتقلده وأن يخرج من كان ضم إليهما ممن في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين ومواليه وغلمانه وجنده وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما، ويزال عنهم جميعًا ذكر الضم إليهما، وأن يكونا سوقة من سوق المسلمين وعامتهم، ويصفان ما لم يزالا يذكران لأمير المؤمنين من ذلك؛ ويسألانه فيه، منذ أفضى الله بخلافته إليه، وأنهما قد خلعا أنفسهما من ولاية العهد، وخرجا منها، وجعلا كل من ولهما عليه بيعة ويمين من قواد أمير المؤمنين وجميع أوليائه ورعيته؛ قريبهم وبعيدهم وحاضرهم وغائبهم في حل وسعة من بيعتهم وأيمانهم؛ ليخلعوهما كما خلعا أنفسهما. وجعلا لأمير المؤمنين على أنفسهما عهد الله؛ وأشد ما أخذ على ملائكته وأنبيائه وعباده من عهد وميثاق، وجميع ما أكده أمير المؤمنين عليهما من الأيمان، بإقامتهما على طاعته ومناصحته وموالاته في السر والعلانية، ويسألان أمير المؤمنين أن يظهر ما فعلاه، وينشره ويحضر جميع أوليائه؛ ليسمعوا ذلك منهما طالبين راغبين طائعين غير مكرهين ولا مجبرين؛ ويقرأ عليهم الرقعتان اللتان رفعاهما بخطوطهما، بما ذكر من وقوع الأمر لهما من ولاية العهد؛ وهما صبيان، وخلعهما أنفسهما بعد بلوغهما، وما سألا من صرفهما عن الأعمال التي يتوليانها وإخراج من كان بهما ممن ضم إليهما في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين وجنده وغلمانه وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما وإزالة ذكر الضم إليهما عنهم، وأن يكتب بالكتاب بذلك إلى جميع عمال النواحي.
وإن أمير المؤمنين وقف على صدقهما فيما ذكرا ورفعا، وتقدم في إحضار جميع إخوته ومن بحضرته من أهل بيته وقواده ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم؛ وسائر أوليائه الذين كانت وقعت البيعة لهما بذلك عليهم. وحضر أبو عبد الله وإبراهيم ابنا أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه، وقرئت رقعتاهما بخطوطهما بحضرتهما؛ إلى مجلس أمير المؤمنين عليهما وعلى جميع من حضر، وأعادا من القول بعد قراءة الرقعتين مثل الذي كتبا به.