وكان وفاته بسامرّا بالقصر المحدث بعد أن أظهر في إخوته ما أظهر بأربع وأربعين ليلة؛ وذكر أنه لما حضرته الوفاة قال:
فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها ** ولكن إلى الربّ الكريم أصير
وصلّى عليه أحمد بم محمد بن المعتصم بسامرّا؛ وبها كان مولده.
وكان أعين أفتى قصيرًا جيّد البضعة. وكان - فيما ذكر - مهيبًا.
وهو أول خليفة من بني العباس - فيما بعد - عرف قبره؛ وذلك أن أمه طلبت إظهار قبره.
وكانت كيته أبا جعفر واسم أمه حبشية وهي أمّ ولد روميّة.
ذكر بعض سيره
ذكر أن المنتصر لمّا ولي الخلافة كان أول شيء أحدث من الأمور عزل صالح عن المدينة وتولية علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد إياها؛ فذكر عن علي بن الحسين، أنه قال: دخلت عليه أودّعه، فقال لي: يا علي، إني أوجّهك إلى الحمى ودمي - ومدذ جلد ساعده - وقال: إلى هذا وجّهتك، فاظر كيف تكون للقوم، وكيف تعاملهم! يعني آل أبي طالب، فقلت: أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين أيدّه الله فيهم إن شاء الله؛ فقال: إذًا تسعد بذلك عندي.
وذكر عن محمد بن هارون، كاتب محمد بن علي برد الخيار وخليفته على ديوان ضياع إبراهيم المؤيد، أنه أصيب مقتولًا على فراشه، به عدّة ضربات بالسيف، فأحضر ولده خادمًا أسود كان له وصيفًا، ذكر أن الوصيف أقلرّ على الأسود. فأدخل على المنتصر، وأحضر جعفر بن عبد الواحد، فسئل عن قتله مولاه، فأقرّ به، ووصف فعله به وسسب قتله إياه فقال له المنتصر: ويلك! لم قتلته؟ فقال له الأسود: لما قتلت أنت أباك المتوكل! فسأل الفقهاء في أمره. فأشاروا بقتله، فضرب عقه وصلبه، عند خشبة بابك.
وفي هذه السنة حكّم محمد بن عمرو الشاري، وخرج بناحية الموصل، فوجّه إليه المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني، فأخذه أسيرًا مع عدة من أصحابه. فقتلوا وصلبوا.
وفيها تحرّك يعقوب بن الليث الصفار من سجستان، فصار إلى هراة.
وذكر عن أحمد بن عبد الله بن صالح صاحب المصلّى أنه قال: كان لأبي مؤذّن، فرآه بعض أهلنا في المام كأنه أذّن أذانًا لبعض الصلوات؛ ثم دنا من بيت فيه المنتصر، فنادى: يا محمد، يا منتصر. إنّ ربّك لبالمرصاد.
وذكر عن بنان المغنّي - وكان فيما قيل أخصّ الناس بالمنتصر في حياة أبيه وبعد ما ولى الخلافة - أنه قال: سألت المنتصر أن يهب لي ثوب ديباج وهو خليفة؛ فقال: أو خير لك من الثوب الديباج؟ قلت: وما هو؟ قال: تتمارض حتى أعودك؛ فإنه سيهدي لك أكثر من الثوب الديباج؛ فمات في تلك الأيام، ولم يهب لي شيئًا.
وفي هذه السنة بويع بالخلافة أحمد بم محمد بن المعتصم.
خلافة أحمد بن محمد بن المعتصم وهو المستعين
ويكنى أبا العباس.
ذكر الخبر عن سبب ولايته والوقت الذي بويع له فيه
ذكر أنّ المنتصر لما توفي؛ وذلك يوم السبت عند العصر لأربع خلون من شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وأربعين ومائتين، اجتمع الموالي إلى الهاروني يوم الأحد، وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير أوتامش ومن معهم، فاستحلفوا قوّاد الأتراك والمغاربة والأشروسنيّة - وكان الذي يستحلفهم علي بن الحسين ابن عبد الأعلى الأسكافي كاتب بغا الكبير - على أن يرضوا بمن يرضى به بغا الصغير وبغا الكبيرأوتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب، فحلف القوم وتشاوروا بينهم، وكرهوا أن يتولّى الخلافة أحدٌ من ولد المتوكل؛ لقتلهم أباه، وخوفهم أن يغتالهم من يتولى الخلافة منهم؛ فأجمع أحمد بن الخصيب ومن حضر من الموالي على أحمد بن محمد بن المعتصم، فقالوا: لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم؛ وقد كانوا قبله دكروا جماعة من بني هاشم؛ فبايعوه وقت العشاء من ليلة الاثنين، لست خلون من شهر ربيع الآخر من السنة؛ وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس.
فاستكتب أحمد بن الخصيب، واستوزر أوتامش. فلما كان يوم الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر صار إلى دار العامة من طريق العمري بين البساتين، وقد ألبسوه الطويلة وزي الخلافة؛ وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يديه الحربة قبل طلوع الشمس، ووافى واجن الأشروسنيّباب العامة من طريق الشارع على بيت المال، فصفّ أصحابه صفين، وقام في الصفّ وهو عدّة من وجوه أصحابه، وحضر الدار أصحاب المراتب من ولد المتوكل والعباسيين والطالبييّن وغيرهم ممن لهم مرتبة؛ فبيناهم كذلك، وقد مضى من النهار ساعة ونصف؛ جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق؛ فإذا نحوٌ من خمسين فارسًا من الشاكرية؛ ذكروا أنهم من أصحاب أبي العباس محمد بن عبد الله، ومعهم قوم من فرسان طبريّة وأخلاط من الناس ومعهم من الغوغاء والسوقة نحو من ألف رجل؛ فشهروا السلاح، وصاحوا: يا معتزّ يا منصور، وشدّوا على صفذي الأشروسنيّة اللذين صفّهما واجن، فتضعضعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، ونفر من على باب العامة من المبيضّة مع الشاكريّة، فكثروا، فشدّ عليهم المغاربة والأشروسنيّة، فهزموهم حتى أدخلوهم الدرب الكبير المعروف بزرافة وعزّون. وحمل قوم منهم على المعتزّية، فكشفوهم؛ حتى جاوزوا بهم دار أخي عزّون بن إسماعيل وهم في مضيق الطريق، فوقف المعتزّية هنالك، ورمى الأشروسنيّة عدّة منهم بالنّشاب، وضربوهم بالسيوف، ونشب الحرب بينهم؛ وأقبلت المعتزّية والغوغاء يكبّرون؛ فوقعت بينهم قتلى كثيرة؛ إلى أن مضى من النهار ثلاث ساعات. ثم انصرف الأتراك وقد بايعوا أحمد بن محمد بن المعتصم؛ وانصرفوا مما يلي العمري والبساتين، وأخذ الموالي قبل انصرافهم البيعة على من حضر الدار من الهاشميين وغيرهم وأصحاب المراتب. وخرج المستعين من باب العامة منصرفًا إلى الهاروني، فبات هنالك. ومضى الأشروسنيّة إلى الهاروني، وقد قتل من الفريقين عددٌ كثير، ودخل قوم من الأشروسنيّة دورًا، فظفرت بهم الغوغاء، فأخذوا دروعهم وسلاحهم وجواشنهم ودوابهّم، ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة منصرفين إلى الهاروني، فانتهبوا الخزانة التي فيها السلاح والدروع والجواشن واللجم المغربية وأكثروا منها؛ وربّما مرّ أحدهم بالجواشن والحراب فأكثر، وانتهبوا في دار أرمش ابن أبي أيوب بحضرة أصحاب الفقّاع تراس خيزران وقنًا بلا أسنّة؛ فكثرت الرماح والتراس في أيدي الغوغاء وأصحاب الحمامات وغلمان الباقلي، ثم جاءتهم جماعة من الأتراك منهم بغا الضغير من دري زرافة، فأحلّوهم من الخزانة، وقتلوا منهم عدة، وأمسكوا قليلًا. ثم انصرف الفريقان، وقد كثرت القتلى بينهم؛ وأقبل الغوغاء لا يمرّ أحد من الأتراك من أسافل سامرّا يريد باب العامة إلّا انتبهوا سلاحه، وقتلبوا جماعة منهم عند دار مبارك المغربي، وعند دار حبش أخي يعقوب قوصرّة في شوارع سامرّا، وعامة من انتهت فيما ذكر هذا السلاح أصحاب الفقّاع والناطف وأصحاب الحمّامات والسقاءون وغوغاء الأسواق؛ فلم يزل ذلك أمرهم إلى نصف النهار، وتحرّك أهل السجن بسامرّا في هذا اليوم فهرب منهم جماعة، ثم وضع العطاء على البيعة، وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في اليوم الذي بويع له فيه، وكان وصوله إلى محمد في اليوم الثاني، ووافى به لأتامش ومحمد بن عبد الله في نزهة له، فوجه الحاجب إليه، وأعلمه مكانه، فرجع من ساعته، وبعث إلى الهاشميين والقواد والجند، ووضع لهم الأرزاق.
وورد في هذه السنة على المستعين وفاة طاهر عبد الله بن طاهر بخرسان في رجب، فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر على خراسان، ولمحمد بن عبد الله على العراق، وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد برأسه وأفرده به، وعقد في الجوسق لمحمد بن طاهر بن عبد الله ابن طاهر على خراسان والأعمال المضمومة إليها خاصة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة من شعبان.
ومرض بغا الكبير في جمادى الآخرة، فعاده المستعين في النصف منها، ومات بغا من يومه، فعقد لموسى ابنه على أعماله وعلى أعمال أبيه كلها. وولى ديوان البريد.
وفي هذه السنة وجه ألوجو التركي إلى أبي العمود الثعلبي فقتله يوم السبت بكفر توثي لخمس بقين من شهر ربيع الآخر.
وفيها خرج عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى الحج؛ فوجه خلفه رسول من الشيعة اسمه شعيب بنفيه إلى برقة، ومنعه من الحج.
وفيها ابتاع المستعين من المعتز والمؤيد في جمادى الأولى منها جميع ما كان لهما، خلا شيئًا استثني منه المعتز قيمته مائة ألف دينار، وأخذ له ولإبراهيم غلة بثمانين ألف دينار في السنة؛ فلما كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان ابتيع من المعتز والمؤيد جميع ما لهما من الدور والمنازل والضياع والقصور والفرش والآلة وغير ذلك بعشرين ألف دينار، وأشهدا عليهما بذلك الشهود والعدول والقضاة وغيرهم. وقيل: ابتيع ما لهما من الضياع وترك إلى أبي عبد الله ما يكون غلته من العين في السنة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم ما تبلغ قيمة غلته في السنة خمسة آلاف دينار؛ فكان ما اتبع من أبي عبد الله بعشرة آلاف ألف دينار وعشر حبات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف درهم وثلاث حبات لؤلؤ؛ وأشهد عليهما بذلك الفقهاء والقضاة. وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين وخمسًا في حجرة الجوسق، ووكلّ بهما، وجعل أمرهما إلى بغا الصغير؛ وكان الأتراك قد أرادوا حين شغب الغوغاء والشاكرية قتلهما؛ فمنعهم من ذلك أحمد بن الخصيب، وقال: ليس لهما ذنب ولا المشغبة من أصحابهما؛ وإنما المشغبة من أصحاب ابن طاهر، ولكن احبسوهما فحبسا.
وفيها غضب الموالى على أحمد بن الخصيب؛ وذلك في جمادى الأولى منها، واستصفى ماله ومال ولده، ونفى إلى إقريطش.
وفيها صرف علي بن يحيى عن الثغور الشامية، وعقد له على إرمينية وأذربيجان في شهر رمضان من هذه السنة.
وفيها شغب أهل حمص على كيدر بن عبيد الله عامل المستعين عليها فأخرجوه منها، فوجه إليهم الفضل بن قارن، فمكر بهم حتى أخذهم، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وحمل منهم مائة رجل من عيونهم إلى سامرا، وهدم سورهم.
وفيها غزا الصائفة وصيف، وكان مقيمًا بالثغر الشأمي حتى ورد عليه موت المنتصر، ثم دخل بلاد الروم؛ فافتتح حصنًا يقال له فرورية، وعقد المستعين فيها لأوتامش على مصر والمغرب واتخذه وزيرًا.
وفيها عقد لبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهرجان قذق، وصير المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاص أموره وقدمه أوتامش على جميع الناس.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فما كان فيها من ذلك غزو جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصنًا ومطامير واستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المصير إلى ناحية من بلاد الروم؛ فأذن له، فسار ومعه خلق كثير من أهل ملطية، فلقيه الملك في جمع من الروم عظيم بموضع، يقال له أرز من مرج الأسقف فحاربه بمن معه محاربة شديدة، قتل فيها خلق كثير من الفريقين، ثم أحاطت به الروم وهم خمسون ألفًا، فقتل عمر وألفا رجل من المسلمين؛ وذلك في يوم الجمعة للنصف من رجب.
خبر مقتل علي بن يحيى الأرمني
وفيها قتل علي بن يحيى الأرمني
ذكر الخبر عن سبب قتله
ذكر أن الروم لما قتلت عمر بن عبيد الله خرجوا إلى الثغور الجزرية، وكلبوا عليها وعلى حرم المسلمين بها، فبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قافل من إرمينية إلى ميافارقين، فنفر إليهم جماعة من أهل ميافارقين والسلسلة، فقتل في نحو من أربعمائة رجل، وذلك في شهر رمضان.
شغب الجند والشاكرية ببغداد
وشغب الجند والشاكرية ببغداد في هذه السنة في أول يوم من صفر.
ذكر الخبر عن السبب في ذلك
وكان السبب في ذلك أن الخبر لما اتصل بأهل مدينة السلام وسامرا وسائر ما قرب منهما من مدن الإسلام بمقتل عمر بن عبيد الله الأقطع وعلي بن يحيى الأرمني - وكانا نابين من أنياب المسلمين، شديدًا بأسهما، عظيمًا غناؤهما عنهم في الثغور التي هما بها - شق ذلك عليهم، وعظم مقتلهما في صدورهم مع قرب مقتل أحدهما من مقتل الآخر، ومع ما لحقهم من استفظاعهم من الأتراك قتل المتوكل واستيلائهم على أمور المسلمين، وقتلهم من أرادوا قتله من الخلفاء واستخلافهم من أحبوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة، ولا نظر للمسلمين؛ فاجتمعت العامة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمت إليها الأبناء والشاكرية تظهر أنها تطلب الأرزاق؛ وذلك أول يوم من صفر، ففتحوا سجن نصر بن مالك، وأخرجوا من فيه وفي القنطرة بباب الجسر؛ وكان فيها جماعة - فيما ذكر - من رفوع خراسان والصعاليك من أهل الجبال والمحمرة وغيرهم، وقطعوا أحد الجسرين وضربوا الآخر بالنار، وانحدرت سفنه، وانتهب ديوان قصص المحبسين وقطعت الدفاتر، وألقيت في الماء، وانتبهوا دار بشر وإبراهيم ابني هارون النصرانين كاتبي محمد بن عبد الله؛ وذلك كله بالجانب الشرقي من بغداد. وكان والي الجانب الشرقي حينئذ أحمد بن محمد بن خالد بن هرثمة. ثم أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسامرا أموالًا كثيرة من أموالهم، فقووا من خف للنهوض إلى الثغور لحرب الروم بذلك؛ وأقبلت العامة من نواحي الجبل وفارس والأهواز وغيرها لغزو الروم؛ فلم يبلغنا أنه كان للسلطان فيما كان من الروم إلى المسلمين من ذلك تغيير، ولا توجيه جيش إليهم لحربهم في تلك الأيام.
ولتسع بقين من شهر ربيع الأول، وثب نفر من الناس لا يدري من هم يوم الجمعة بسامرا، ففتحوا السجن بها، وأخرجوا من فيه، فوجه في طلب النفر الذين فعلوا ذلك زراقة في جماعة من الموالي، فوثب بهم العامة فهزموهم، ثم ركب في ذلك أوتامش ووصيف وبغا وعامة الأتراك، فقتلوا من العامة جماعة، وألقي على وصيف - فيما ذكر لي - قدر مطبوخ، ويقال: بل رماه قوم من العامة عند السريجة بحجر؛ فأمر وصيف النفاطين، فقذفوا ما هنالك من حوانيت التجار ومنازل الناس بالنار؛ فأنا رأيت ذلك الموضع محتوقًا؛ وذلك بسامرا عند دار إسحاق.
وذكر أن المغاربة انتهبت منازل جماعة من العامة في ذلك اليوم؛ ثم سكن الأمر في آخر ذلك اليوم، وعزل بسبب ما كان من العامة والنفر الذين ذكرت في ذلك اليوم من الحركة، أحمد بن جميل عما كان إليه من المعونة بسامرا، وولى مكانه بن سهل الدارج.
ذكر خبر قتل أوتامش وكاتبه
وفي هذه السن قتل أوتامش وكاتبه شجاع بن القاسم؛ وذلك يوم السبت لأربع عشرة خلون من شهر ربيع الآخر منها.
ذكر الخبر عن سبب مقتله
ذكر أن المستعين لما أفضت إليه الخلافة، أطلق يد أوتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال، وأباحهما فعل ما أراد فعله فيها؛ وفعل ذلك أيضًا بأم نفسه، فلم يمنعها من شئ تريده؛ وكان كاتبها سلمة بن سعيد النصراني، وكانت الأموال التي ترد على السلطان من الآفاق إنما يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة الأنفس، فعمد أوتامش إلى ما في بيوت الأموال من الأموال فاكتسحه؛ وكان المستعين قد جعل ابنه العباس في حجر أوتامش؛ فكان ما فضل من الأموال عن هؤلاء الثلاثة الأنفس يؤخذ للعباس، فيصرف في نفقاته وأسبابه - وصاحب ديوان ضياعه يومئذ دليل - فاقتطع من ذلك أمولًا جليلة لنفسه؛ وجعلت الموالي تنظر إلى الأموال تستهلك؛ وهم في ضيقة، وجعل أوتامش وهو صاحب المستعين وصاحب أمره، والمستولي عليه ينفذ أمور الخلافة؛ ووصيف وبغا من ذلك بمعزل، فأغريا الموالي به، ولم يزالا يدبران الأمر عليه حتى أحكما التدبير، فتذمرت الأتراك والفراعنة على أوتامش، وخرج إليه منهم يوم الخميس لاثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر من هذه السنة أهل الدور والكرخ، فعسكرا وزحفوا إليه وهو في الجوسق مع المستعين.
وبلغه الخبر، فأراد الهرب، فلم يمكنه، واستجار بالمستعين فلم يجره فأقاموا على ذلك من أمرهم يوم الخميس ويوم الجمعة؛ فلما كان يوم السبت دخلوا الجوسق، فاستخرجوا أوتامش من موضعه الذي توارى فيه، فقتل وقتل كاتبه شجاع بن القاسم، وانتهبت دار أوتامش، فأخذ منها - فيما بلغني - أموالٌ جليلة ومتاع وفرش وآلة.
ولما قتل أوتامش استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج، ووليه عيسى بن فرخانشاه، وولى صيف الأهواز، وبغا الصغير فلسطين في شهر ربيع الآخر. ثم غضب بغا الصغير وحزبه على أبي صالح بن يزداد، فهرب أبو صالح إلى بغداد في شعبان، وصير المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجرائي؛ فصير ديوان الرسائل إلى سعيد بن حميد رياسة، فقال في ذلك الحمدوني:
لبس السيف سعيد بعدما ** عاش ذا طمرين لا نوبة له
إن لله لآيات وذا ** آية لله فينا منزله
مقتل علي بن الجهم
وفيها قتل علي بن الجهم بن بدر؛ وكان سبب ذلك أنه توجه من بغداد إلى الثغر، فلما كان بقرب حلب بموضع يقال له خساف؛ لقيته خيل لكلب، فقتله، وأخذ الأعراب ما كان معه، فقال وهو في السياق:
أزيد في الليل ليل ** أم سال بالصبح سيل
ذكرت أهل دجيل ** وأين مني دجيل!
وكان منزله في شارع الدجيل.
وفيها عزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء، ووليه جعفر بن محمد بن عمار البرجمي من أهل الكوفة؛ وقد قيل إن في ذلك في سنة خمسين ومائتين.
وفيها أصاب أهل الري في ذي الحجة زلزلة شديدة ورجفة تهدّمت منها الدور، ومات خلق من أهلها وهرب الباقون من أهلها من المدينة؛ فنزلوا خرجها. ومطر أهل سامرّا يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الأولى؛ وذلك يوم السادس عشر من تمّوز مطرٌ جود برعد وبرق، فأطبق الغيم ذلك اليوم؛ ولم يزل المطر جودًا سائلًا يومئذ إلى إصفرار الشمس ثم سكن.
وتحرّكت المغاربة في هذه السنة يوم الخميس لثلاث خلون من جمادى الأولى، وكانوا يجتمعون قرب الجسر بسامرّا، ثم تفرّقوا يوم الجمعة.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمتام وهو والي مكة.
ثم دخلت سنة خمسين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من أحداث
ظهور يحبى بن عمر الطالبي ثم مقتله
فمن ذلك ما كان من ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ المكنى بأبي الحسين بالكوفة، وفيها كان مقتله رضي الله عنه.
ذكر الخبر عن سبب ظهوره وما آل إليه أمره
ذكر أن أبا الحسين يحيى بن عمر - وأمّه أم الحسين فاطمة بنت الحسين ابن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - نالته ضيقة شديدة، ولزمه دين ضاق به ذرعًا، فلقي عمر بن فرج - وهو يتولّى أمر الطالبين - عند مقدمه من خراسان أيام المتوكل، فكلّمه في صلته، فأغلظ عليه عمر القول؛ فقذفه يحيى بن عمر في مجلسه، فحبس، فلم يزل محبوسًا إلى أن كفل به أهله، فأطلق، فشخص إلى مدينة السلام، فأقام بها بحال سيّئة، ثم صار إلى سامرّا، فلقي وصيفًا في رزق يجري له، فأغلظ له وصيفٌ في القول، وقال: لأيذ شيء يجري على مثلك! فانصرف عنه.
فذكر ابن أبي طاهر أن ابن الصوفي الطالبي حدثه، أنه أتاه في الليلة التي كان خروجه في صبيحتها، فبات عنده، ولم يعلمه بشيء مما عزم عليه؛ وأنه عرض عليه الطعام، وتبيّن فيه أنه جائع، فأبى أن يأكل وقال: إن عشنا أكلنا، قال: فتبيذنت أنه قد عزم على فتكة؛ وخرج من عندي؛ فجعل وجهه إلى الكوفة؛ وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان عاملًا عليها من قبل محمد بن عبد الله بن طاهر؛ فجمع يحيى بن عمر جمعًا كثيرًا من الأعراب، وضوى إليه جماعة من أهل الكوفة، فأتى الفلّوجة؛ فصار إلى قرية تعرف بالعمد؛ فكتب صاحب البريد بخبره؛ فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى أيوب بن الحسن وعبد الله بن محمود السرخسي - وكان عامل محمد بن عبد الله على معاون السواد - يأمرهما بالاجتماع على محاربة يحيى ابن عمر - وكان على الخراج بالكوفة بدر بن الأصبغ - فمضى يحيى بن عمر في سبعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها، وصار إلى بيت مالها؛ فأخذ ما فيه؛ والذي وجد ألفا دينار وزيادة شيء، ومن الورق سبعون ألف درهم؛ وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجنين وأخرج جميع من كان فيها؛ وأخرج عمّالها عنها، فلقيه عبد الله بن محمود السرخسي - وكان في عداد الشاكريّة، فضربه يحيى بن عمر ضربةً على قصاص شعره في وجهه أثخنته
فانهزم ابن محمود مع أصحابه، وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدوابّ والمال.
ثم خرج يحيى بن عمر من الكوفة إلى سوادها، فصار إلى موضع يقال له بستان - أو قريبًا منه - على ثلاثة فراسخ من جنبلاء؛ ولم يقم بالكوفة، وتبعته جماعة من الزيديّة، واجتمعت على نصرته جماعة من قرب تلك الناحية من الأعراب وأهل الطفوف والسيّب الأسفل، وإلى ظهر واسط. ثم أقام بالبستان، فكثر جمعه فوجّه محمد بن عبد الله لمحاربته الحسين بن إسماعيل ابن إبراهيم بن مصعب، وضمّ إليه من ذوي البأس والنجدة من قوّاده جماعة؛ مثل خالد بن عمران وعبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس، وأبي السناء الغنوي، وعبد الله بن نصر بن حمزة، وسعد الضبابي، ومن الإسحاقية أحمد ابن محمد بن الفضل وجماعة من خاصة الخراسانية وغيرهم.
وشخص الحسين بن إسماعيل، فنزل بإزاء هفندي في وجه يحيى بن عمر، لا يقدم عليه الحسين بن إسماعيل ومن معه؛ وقصد يحيى نحو البحرية - وهي قرية بينها وبين قسيّن خمسة فراسخ، ولو شاء الحسين أن يلحقه لحقه - ثم مضى يحيى بن عمر في شرقي السيّب والحسين في غربيّه، حتى صار إلى أحمد أباذ فعبر إلى ناحيى سورا، وجعل الجند لا يلحقون ضعيفًا عجز عن اللحاق بيحيى إلا أخذوه، وأوقعوا بمن صار إلى يحيى بن عمر من أهل تلك القرى.
وكان أحمد بن الفرج المعروف بابن الفزاري يتولى معوة السيّب لمحمد ابن عبد الله، فحمل ما اجتمع عنده منحاصل السيب قبل دخول يحيى بن عمر أحمد أباذ، فلم يظفر به.
ومضى يحيى بن عمر نحو الكوفة، فلقيه عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس، فقاتله بقرب جسر الكوفة قتالًا شديدًا، فانهزم عبد الرحمن بن الخطاب، وانحاز إلى ناحية شاهى، ووافاه الحسين بن إسماعيل فعسكر بها، ودخل يحيى بن عمر الكوفة، واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبوه، وتولاه العامة من أهل بغداد - ولا يعلم أهم تولوا من أهل بيته غيره - وبايعه بالكوفة جماعة لهم بصائر وتدبير في تشيّعهم؛ ودخل فيهم أخلاط لا ديانة لهم.
وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهي، واستراح وأراح أصحابه دوابّهم، ورجعت إليهم أنفسهم، وشربوا العذب من ماء الفرات؛ واتّلت بهم الأمداد والميرة والأموال. وأقام يحيى بن عمر بالكوفة يعدّ العدد، ويطبع السيوف، ويعرض الرجال، ويجمع السلاح.
وإن جماعة من الزيديّة ممّن لا علم له بالحرب، أشاروا على يحيى بمعالجة الحسين، وألحت عليه عوّام أصحابه بمثل ذلك، فزحفت إليه من ظهر الكوفة من وراء الخندق ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب؛ ومعهم الهيضم العجلي؛ في فرسان من بني عجل وأناس من بني أسد ورجالة من أهل الكوفة ليسوا بذوي علم ولا تدبير ولا شجاعة، فأسروا ليلتهم؛ ثم صبحوا حسينًا وأصحابه - وأصحاب حسين مستريحون ومستعدون - فثاروا إليهم في الغلس فرموا ساعة، ثم حمل عليهم أصحاب الحسين فانهزموا، ووضع فيهم السيف؛ فكان أول أسير الهيضم بن العلاء بن جمهور العجلي، فانهزم رجالة أهل الكوفة، وأكثرهم عزل بغير سلاح، ضعفي القوى، خلقان الثياب؛ فداستهم الخيل، وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر، وعليه جوشن تبنى، وقد تقطر به البرذون الذي أخذه من عبد الله بن محمود، فوقف عليه ابن لخالد بن عمران يقال له خير؛ فلم يعرفه، وظن أنه رجل من أهل خراسان، لما رأى عليه الجوشن. وقف عليه أيضًا أبو الغور بن خالد بن عمران، فقال لخير بن خالد: يا أخي، هذا والله أبو الحسين قد انفرج قلبه؛ وهو نازل لا يعرف القصة لانفراج قلبه، فأمر خير رجلًا من أصحابه المواصلين من العرفاء يقال له محسن بن المنتاب، فنزل إليه فذبحه، وأخذ رأسه وجعله في قوصرة، ووجهه مع عمر بن الخطاب أخي عبد الرحمن بن الخطاب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر.
وادعى قتله غير واحد، فذكر عن العرس بن عراهم أنهم وجدوه باركًا ووجدوا خاتمه مع رجل يعرف بالعسقلاني مع سيفه، وادعى أنه طعنه وسلبه، وادعى سعد الضباني أنه قتله.
وذكر عن أبي الحسين خال أبي السناء أنه طعن في الغلس رجلًا في ظهره لا يعرفه، فأصابوا في ظهر أبي الحسين طعنة ولا يدري من قتله، لكثرة من ادعاه، وورد الرأس دار محمد بن عبد الله بن طاهر، وقد تغير، فطلبوا من يقور ذلك اللحم، ويخرج الحدقة والغلصمة، فلم يوجد وهرب الجزارون وطلب ممن في السجن من الخرمية الذباحين من يفعل له سهل بن الصغدي، فإنه تولى وإخراج دماغه وعينيه وقوره بيديه، وحشي بالصبر والمسك والكافور بعد أن غسل وصير في القطن. وذكر أنهم رأوا بجنبيه ضربة بالسيف منكرة ثم إن محمد بن عبد الله بن طاهر أمر بحمل رأسه إلى المستعين من غد اليوم الذي وافاه فيه، وكتب إليه بالفتح بيده، ونصب رأسه بباب العامة بسامرا، واجتمع الناس لذلك، وكثروا وتذمروا وتولى إبراهيم الديرج نصبه؛ لأن إبراهيم بن إسحاق خليفة محمد بن عبد الله أمره فنصبه لحظة، ثم حط، ورد إلى بغداد لينصب بها بباب الجسر؛ فلم يتهيأ ذلك لمحمد بن عبد الله لكثرة من اجتمع من الناس. وذكر لمحمد بن عبد الله أنهم على أخذه اجتمعوا، فلم ينصبه، وجعله في صندوق في بيت السلاح في داره، ووجّه الحسين ابن إسماعيل بالأسرى ورءوس من قتل معه مع رجل يقال له أحمد بن عصمويه، ممّن كان مع إسحاق بن إبراهيم، فكدّهم وأجاعهم وأساءبهم؛ فأمر بهم فحبسوا في سجن الجديد، وكتب فيهم محمد بن عبد الله يسأل الصفح عنهم، فأمر بتخليتهم، وأن تدفن الرءوس ولا تنصب، فدفنت في قصر بباب الذهب.
وذكر عن بعض الطاهرييّن أنه حضر مجلس محمد بن عبد الله وهو يهنأ بمقتل يحيى بن عمرو بالفتح وجماعة من الهاشميين والطالبييّن وغيرهم حضور؛ فدخل عليه داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري فيمن دخل، فسمعهم يهنّئونه، فقال: أيها الأمير؛ إنك لتهنّئأ بقتل رجل لو كان رسول الله حيًّا لعزّي به! فما ردّ عليه محمد بن عبد الله شيئًا، فخرج أبو هاشم الجعفري، وهو يقول:
يا بني كلوه وبيًّا ** إن الحم النبي غير مريّ
إنّ وترًا يكون طالبه الل ** ه لوترٍ نجاحه بالحريذ
وكان المستعين قد وجّه كلباتكين مددًا للحسين ومستظهرًا به، فلحق حسينًا بعد ما هزم القوم وقتل يحيى بن عمر، فمضى ومعهم صاحب بريد الكوفة فلقي جماعة ممّن كان مع يحيى بن عمر، ومعهم أسوقة وأطعمة يريدون عسكر يحيى؛ فوضع فيهم السيّف فقتلهم، ودخل الكوفة؛ فأراد أن ينهبها ويضع السيف في أهلها، فمنعه الحسين، وآمن الأسود والأبيض بها؛ وأقام أيامًا ثم انصرف عنها.
ذكر خبر خروج الحسن بن زيد العلوي
وفي هذه السنة كان خروج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن ابن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب في شهر رمضان منها.
ذكر الخبر عن سبب خروجه
حدثني جماعة من أهل طبرستان وغيرهم؛ أنّ سبب ذلك كان أنّ محمد بن عبد الله بن طاهر لمّا جرى على يديه ما جرى من قتل يحيى بن عمر ودخول أصحابه وجيشه الكوفة بعد فراغهم من قتل يحيى، أقطعه المستعين من صوافي السلطان بطبرستان قطائع؛ وأن من تلك القطائع التي أقطعها قطيعة فيما قرب من ثغري طبرستان ممّا يلي الديلم؛ وهما كلار وسالوس، كان بحذائها أرض لأهل تلك الناحية فيها مرافق، منها محتطبهم ومراعي مواشيهم ومسرح سارحتهم؛ وليس لأحد عليها ملك؛ وإنما هي صحراء من موتان الأرض؛ غير أنها ذات غياض وأشجار وكلأ.
فوجّه - فيما ذكر لي - محمد بن عبد الله بن طاهر أخًا لكاتبه بشر بن هارون النصراني يقال له جابر بن هارون، لحيازة ما أقطع هنالك من الأرض، وعامل طبرستان يومئذ سليمان بن عبد الله خليفة محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، أخو محمد بن عبد الله بن طاهر، والمستولي على سليمان، والغالب على أمره محمد بن أوس البلخي؛ وقد فرّق محمد بن أوس ولده في مدن طبرستان، وجعلهم ولاتها، وضمّ إلى كلّ واحد منهم مدينة منها؛ وهم أحدث سفهاء؛ قد تأذّى بهم وبسففهم من تحت أيديهم من الرعيّة واستنكروا منهم ومن والدهم ومن سليمان بن عبد الله أثرهم فيهم؛ بقصص يطول الكتاب بشرح أكثرها.
ووتر مع ذلك - فيما ذكر لي - محمد بن أوس الديلم بدخوله إلى ما قرب من بلادهم من حدود طبرستان؛ وهم أهل سلم وموادعة لأهل طبرستان على اغترار من الديلم بما يلتمس بدخوله إليهم بغارة، فسبى منهم وقتل، ثم انكفأ راجعًا إلى طبرستان، فكان ذلك مما زاد أهل طبرستان عليه حنقًا وغيظًا، فلما صار رسول محمد بن عبد الله - وهو جابر بن هارون النصراني - إلى طبرستان لحيازة ما أقطعه هنالك محمد، عمد - فيما قيل لي - جابر بن هارون إلى ما أقطع محمد بن عبد الله من صوا في السلطان فحازه، وحاز ما اتّصل به من موات الأرض التي يرتفق بها أهل تلك الناحية - فيما ذكر - فكان فيما رام حيازته من ذلك الموات الذي بقرب من الثغريين اللذين يسمى أحدهما كلار والآخر سالوس؛ وكان في تلك الناحية يومئذ رجلان معروفان بالبأس والشجاعة، وكانا مذكورين قديمًا بضبط تلك الناحية ممن رامها من الديلم، وبإطعام الناس بها وبالإفضال عن من ضوى إليهما؛ يقال لأحدهما محمد وللآخر جعفر؛ وهما ابنا رستم أخوان؛ فأنكرا ما فعل جابر بن هارون من حيازته الموات الذي وصفت أمره، ومانعاه ذلك.
وكان ابنا رستم في تلك الناحية مطاعين فاستنهضا من أطاعهما ممّن في ناحيتهما لمنع جابر بن هارون من حيازة ما رام حيازته من الموات الذي هو مرفق لأهل تلك الناحية - فيما ذكر - وغير داخل فيما أقطعه صاحبه محمد بن عبد الله، فنهضوا معهما، وهرب جابر بن هارون خوفًا على نفسه منهما وممن قد نهض معهما، لإنكار ما رام جابر النصراني فعله. فلحق بسليمان بن عبد الله ابن طاهر، وأيقن محمد وجعفر ابنا رستم ومن نهض معهما في منع جابر عما حاول من حيازة ما حاول حيازته من الموات الذي ذكرت بالشرّ، وذلك أن عامل طبرستان كلّها سليمان بن عبد الله؛ وهو أخو محمد بن عبد الله بن طاهر وعمّ محمد ابن طاهر بن عبد الله عامل المستعين على خراسان وطبرستان والرّي والمشرق كله يومئذ.
فلما أيقن القوم بذلك، راسلوا جيرانهم من الديلم، وذكّروهم وفاءهم لهم بالعهد الذي بينهم وبينهم وما ركبهم به محمد بن أوس من الغدر والقتل والسبي، وأنهم لا يأمنون من ركوبه إياهم بمثل الذي ركبهم به، ويسألونهم مظاهرتهم عليه وعلى من معه؛ فأعلمهم الديلم أنّ ما يلي على أرضهم من جميع نواحيها من الأرضيين والبلاد؛ إنما عمّالها إمّا عمال لطاهر؛ وإمّا من يتّخذ آل طاهر إن احتاجوا إلى إنجادهم؛ وإن ما سألوا من معاونتهم لا سبيل لهم إليه إلا بزوال الخوف عنهم من أن يؤتوا من قبل ظهورهم إذا هم اشتغلوا بحرب بين أيديهم من عمال سليمان بن عبد الله؛ فأعلمهم الذين سألوهم المظاهرة على حرب سليمان وعماله أنهم لا يغفلون عن كفايتهم ذلك؛ حتى يأمنوا مما خافوا منه، فأجابهم الديلم إلى ما سألوهم من ذلك، وتعاقدوا هم وأهل كلار وسالوس على معاونة بعضهم بعضًا على حرب سليمان ابن عبد الله وابن أوس وغيرهم ممن قصدهم بحرب.
ثم أرسل ابنا رستم محمد وجعفر - فيما ذكر - إلى رجل من الطالبيين المقيمين كانوا يومئذ بطبرستان، يقال له محمد بن إبراهيم يدعونه إلى البيعة له، فأبى وامتنع عليهم، وقال لهم؛ لكني أدلكم على رجل منا هو أقوم بما دعوتموه إليه مني، فقالوا: من هو؟ فأخبرهم أنه الحسن بن زيد، ودلهم على منزله ومسكنه بالري. فوجه القوم إلى الري عن رسالة محمد بن إبراهيم العلوي إليه من يدعوه إلى الشخوص معه إلى طبرستان؛ فشخص معه إليها، فوافاهم الحسن بن زيد، وقد صارت كلمة الديلم وأهل كلار وسالوس ورويان على بيعته وقتال سليمان بن عبد الله واحدةً؛ فلما وافاهم الحسن بن زيد بايع له ابنا رستم، وجماعة أهل الثغور ورؤساء الديلم: كجايا ولا شام ووهسودان بن جستان، ومن أهل رويان عبد الله بن ونداميد - وكان عندهم من أهل التأله والتعبد - ثم ناهضوا من في تلك النواحي من عمال ابن أوس فطردهم عنها؛ فلحقوا بابن أوس وسليمان بن عبد الله؛ وهما بمدينة سارية، وانضم إلى الحسن ابن زيد مع من بايعه من أهل النواحي التي ذكرت؛ لما بلغهم ظهوره بها حوزية جبال طبرستان كما صمغان وفادسبان وليث بن قباذ، ومن أهل السفح خشكجستان بن إبراهيم بن الخليل بن ونداسفجان، خلا ما كان من سكان جبل فريم؛ فإن رئيسهم كان يومئذ والمتلك عليهم قارن بن شهريار؛ فإنه كان ممتنعًا بجبله وأصحابه، فلم ينقد للحسن بن زيد ولا من معه حتى مات ميتة نفسه، مع موادعة كانت بينهما في بعض الأحوال، ومخاتنة ومصاهرة كفًا من قارن بذلك من فعله عادية الحسن بن ومن معه.
ثم زحف الحسن بن زيد وقواده من أهل النواحي التي ذكرت نحو مدينة آمل، وهي أول مدن طبرسان مما يلي كلار وسالوس من السفج - وأقبل ابن أوس من سارية إليها يريد دفعه عنها، فالتقى جيشاهما في بعض نواحي آمل، ونشبت الحرب بينهم. وخالف الحسن بن زيد وجماعة ممن معه من أصحابه موضع معركة القوم إلى ناحية أخرى، فدخلوها فاتصل الخبر بدخوله مدينة آمل بابن أوس؛ وهو مشتغل بحرب من هو في وجهه من رجال الحسن بن زيد؛ فلم يكن له هم إلا النجاء بنفسه واللحاق بسليمان بسارية؛ فلما دخل الحسن بن زيد آمل كثف جيشه، وغلظ أمره، وانقض إليه كل طالب نهب ومريد فتنة من الصعاليك والحوزية وغيرهم؛ فأقام - فيما حدثت - الحسن بن زيد بآمل أيامًا؛ حتى جبى الخراج من أهلها، واستعد. ثم نهض بمن معه نحو سارية مريدًا سليمان بن عبد الله، فخرج سليمان وابن أوس بمن معهما من جيوشهما؛ فالتقى الفريقان خارج مدينة سارية، ونشبت الحرب بينهم، فخالف الوجه الذي التقى فيه الجيشان بعض قواد الحسن بن زيد إلى وجه آخر من وجوه سارية، فدخلها برجاله وأصحابه، فانتهى الخبر إلى سليمان بن عبد الله ومن معه من الجند؛ فلم يكن لهم هم غير النجاة بأنفسهم. ولقد حدثني جماعة من أهل تلك الناحية وغيرها، أن سليمان بن عبد الله هرب وترك أهله وعياله وثقله وكل ما كان له بسارية من مال وأثاث وغير ذلك بغير مانع ولا دافع؛ فلم يكن له ناهية دون جرجان. وغلب على ما كان له ولغيره بها من جنده الحسن بن زيد وأصحابه. فأما عيال سليمان وأهله وأثاثه فإنه بلغني أن الحسن بن زيد أمر لهم بمركب حملهم فيه حتى ألحقهم بسليمان وهو بجرجان، وأما ما كان لأصحابه فإن من كان مع الحسن بن زيد من التبع انتهبه، فاجتمع للحسن بن زيد بلحاق سليمان بن عبد الله بجرجان إمرة طبرستان كلها.
فلما اجتمعت للحسن بن زيد طبرستان، وأخرج عنها سليمان ابن عبد الله وأصحابه وجه إلى الري خيلًا مع رجل من أهل بيته، يقال له الحسن بن زيد، فصار إليها، فطرد عنها عاملها من قبل الطاهرية، فلما دخل الموجه به من قبل الطالبيين الري هرب منها عاملها، فاستخلف بها رجلًا من الطالبيين يقال له محمد بن جعفر، وانصرف عنها، فاجتمعت للحسن بن زيد مع طبرستان الري إلى حد همذان، وورد الخبر بذلك على المستعين ومدبر أمره يومئذ وصيف التركي، وكاتبه أحمد بن صالح بن شيرزاد، وإليه خاتم المستعين ووزارته. فوجه إسماعيل بن فراشة في جمع إلى همذان، وأمره بالمقام بها وضبطها إلى أن يتجاوز إليها خيل الحسن بن زيد؛ ذلك أن ما وراء عمل همذان كان إلى محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، وبه عماله وعليه صلاحه. فلما استقر بمحمد بن جعفر الطالبي القرار بالري ظهرت منه - فيما ذكر - أمور كرهها أهل الري، فوجه محمد بن طاهر بن عبد الله قائدًا له من قبله، يقال له محمد بن مكيال - وهو أخو الشاه بن مكيال - في جمع من الخيل والرجالة إلى الري، فالتقى هو ومحمد بن جعفر الطالبي خارج الري؛ فذكر أن محمد بن مكيال أسر محمد بن جعفر الطالبي، وفض جيشه، ودخل الري، فأقام بها، ودعا بها للسلطان؛ فلم يتطاول بها مكثه حتى وجه الحسن بن زيد إليه خيلًا، عليها قائد له من أهل اللازر، يقال له واجن: فلما صار واجن إلى الري خرج إليه محمد بن مكيال، فاقتتلا، فهزم واجن وأصحابه محمد بن ميكال وجيشه، إلتجأ محمد بن مكيال إلى مدينة الري معتصمًا بها، فاتبعه واجن وأصحابه حتى قتلوه، وصارت الري إلى أصحاب الحسن بن زيد. فلما كان يوم عرفة من هذه السنة بعد مقتل محمد بن مكيال، ظهر بالري أحمد بن عيسى بن علي بن حسين الصغير بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإدريس بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله ابن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب؛ فصلى أحمد بن عيسى بأهل الري صلاة العيد، ودعا للرضا من آل محمد؛ فحاربه محمد بن علي بن طاهر، فهزمه أحمد بن عيسى، فصار إلى قزوين.
وفي هذه السنة غضب علي بن جعفر بن عبد الواحد، لأنه كان بعث إلى الشاكرية، فزعم وصيف أنه أفسدهم، فنفي إلى البصرة لسبع بقين من شهر ربيع الأول.
وفيها أسقطت مرتبة من كانت له مرتبة في دار العامة من بني أمية، كابن أبي الشوارب والعثمانيين.
وأخرج في هذه السنة من الحبس الحسن بن الأفشين.
وأجلس فيها العباس بن أحمد بن محمد، فعقد لجعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى المعروف ببشاشات على مكة في جمادى الأولى.
وفيها وثب أهل حمص وقومٌ من كلب - عليهم رجل يقال له عطيف بن نعمة الكلبي - بالفضل بن قارن أخي مازيار بن قارن؛ وهو يؤمئذ عامل السلطان على حمص، فقتلوه في رجب؛ فوجه المستعبن إليهم موسى بن بغا الكبير، فشخص موسى من سامرا يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان؛ فلما قرب تلقاه أهلها فيما بينها وبين الرستن، فحاربهم فهزمهم؛ وافتتح حمص من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقها وأسر جماعة من رؤساء أهلها، وكان عطيف قد لحق بالبدو.
وفيها مات جعفر بن أحمد بن عمار القاضي يوم الأحد لسبع بقين من شهر رمضان.
وفيها مات أحمد بن عبد الكريم الجواري والتيمي قاضي البصرة.
وفيها ولي أحمد بن الوزير قضاء سامرا.
وفيها وثبت الشاكرية والجند بفارس بعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، فانتهبوا منزله، وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن، وهرب عبد الله بن إسحاق.
وفيها وجه محمد بن طاهر من خراسان بفيلين كان وجّه بهما إليه من كابل وأصنام وفوائح.
وغزا الصائفة فيها بلكاجور.
وحجّ بالناس في هذه السنة جعفر بن الفضل بشاشات وهو والي مكة.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر قتل باغر التركي
فمما كان فيها من ذلك قتل وصيف وبغا الضغير باغر التركي واضطراب أمر الموالي.
ذكر الخبر عن سبب قتلهما باغر
ذكر أن سبب ذلك كان أن باغر كان أحد قتلة المتوكل، فزيد لذلك في أرزاقه، وأقطع قطائع؛ فكان مما أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع التي أقطعها باغر هنالك من كاتب كان لباغر يهودي - رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك - بألفي دينار في السنة، فعدا رجل بتلك الناحية، يقال له ابن مارمة على وكيل لباغر هنالك، فتناوله أو دس إليه من تناوله، فحبس ابن مارمة، وقيّد، ثم عمل حتى تخلص من الحبس، فصار إلى سامرا؛ فلقي دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره، وإليه أمر العسكر، يركب إليه القواد والعمال؛ لمكانه من بغا. وكان ابن مارمة صديقًا لدليل، وكان باغر أحد قواد بغا، فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمة؛ وانتصف له منه، فأوغر ذلك من فعله بصدر باغر، وباين كل واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب، وباغر شجاع بطل معروف القدر في الأتراك، يتوقاه بغا وغيره، ويخافون شره.
فذكر أن باغر جاء يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة خمسين ومائتين إلى بغا، وبغا في الحمام، وباغر سكران شديد السكر، وانتظره حتى خرج من الحمام، ثم دخل عليه، فقال له: والله ما من قتل دليل بدّ ثم سبه، فقال له بغا: لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك، فكيف دليل النصراني! ولكن أمري وأمر الخلافة في يديه فتنتظر حتى أصير مكانه إنسانًا، وشأنك به. ثم وجه بغا إلى دليل يأمره ألا يركب؛ وقيل: بل تلقاه طبيب لبغا، يقال له ابن سرجويه، فأخبره بالقصة، فرجع إلى منزله، فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قبل ذلك، فجعله مكان دليل، فيوهم باغر أنه قد عزل دليلًا؛ فسكن باغر، ثم أصلح بغا بين الدليل وباغر، وباغر يتهدد دليلًا بالقتل إذا خلا بأصحابه، ثم تلطف باغر للمستعين، ولزم الخدمة في الدار، وكره المستعين مكانه؛ فلما كان يوم نوبة بغا في منزله قال المستعين: أي شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟ فأخبره وصيف، فقال: ينبغي أن تصيروا هذه الأعمال إلى أبي محمد باغر، فقال وصيف: نعم، وبلغت القصة دليلًا، فركب إلى بغا فقال له: أنت في بيتك؛ وهم في تدبير عزلك عن كل أعمالك؛ فإذا عزلت فما بقاؤك إلا أن يقتلوك! فركب بغا إلى دار الخلافة في اليوم الذي نوبته في منزله بالعشي، فقال لوصيف: أردت أن تزيلني عن مرتبتي، وتجيء بباغر فتصيره مكاني؛ وإنما باغر عبدٌ من عبيدي ورجل من أصحابي، فقال له وصيف: ما علمت ما أراد الخليفة من ذلك. فتعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار والاحتيال له، وأرجفوا له أنه يؤمر ويضم إليه جيش سوى جيشه؛ ويخلع عليه، ويُجلس في الدار مجلس بغا ووصيف - وهما يسميان الأميرين - ودافعوه بذلك. وإنما كان المستعين تقرب إليه بذلك ليأمن ناحيته، فأحس هو ومن في ناحيته بالشر، فجمع إليه الجماعة الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكل أو بعضها مع غيرهم؛ فلما جمعهم ناظرهم ووكد البيعة عليهم كما وكدها في قتل المتوكل، فقالوا: نحن على بيعتنا، فقال: الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفًا، ونجيء بعلي بن المعتصم أو بابن الواثق، فنقعده خليفة حتى يكون الأمر لنا، كما هو لهذين اللذين قد استوليا على أمر الدنيا، وبقينا نحن في غير شيء؛ فأجابوه إلى ذلك، وانتهى الخبر إلى المستعين. فبعث إلى بغا ووصيف؛ وذلك يوم الاثنين، فقال لهما: ما طلبت إليكما أن تجعلاني خليفة؛ وإنما جعلتماني وأصحابكما، ثم نريدان أن تقتلاني! فحلفا له أنهما ما علما بذلك، فأعلمهما الخبر.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)