وجاء كردوس من الفراعنة والأتراك في هذا اليوم إلى باب خراسان من الجانب الشرقي ليدخلوا منه، وأتى الصريخ محمد بن عبد الله، وثبت لهم المبيضة والغوغاء فردوهم. وقد كان محمد أمر أن يمخر تلك الناحية؛ فلما أرادوا الإنصراف، وحلت عامة دوابهم، ونجا أكثرهم، أحضر الأتراك منجنيقًا، فغلبهم الغوغاء عليه والمبيضة، وكسروا قائمة من قوائمه، وقتل اثنان من الشاشية من الحجاج، وأمر بحمل الآجر من قصر الطين وتلك الناحية إلى باب الشماسية؛ وفتحوا باب الشماسية، وأخرجوا إلى الآجر من لقطه وردوه إلى هذا الجانب من السور.
وكان محمد بن عبد الله اتصل به أن جماعة من الأتراك قد صاروا إلى ناحية النهروان، فوجه قائدين من قواده يقال لهما عبد الله بن محمود السرخسي ويحيى بن حفص المعروف بحبوس في خمسمائة من الفرسان والرجالة إلى هذه الناحية، ثم أردفهم بسبعمائة رجل أيضًا، وأمرهم بالمقام هناك؛ ومنع من أراده من الأتراك؛ فتوجّه آخرهم إلا هذه الناحية يوم الجمعة لسبع خلون من صفر.
فلما كان ليلة الاثنين لثلاث عشرة بقيت من صفر، صار قوم من الأتراك إلى النهّروان، فخرج جماعة ممن كان مع عبد الله بن محمود، فرجعوا هرابًا، وأخذت دوابّهم، وانصرف من نجا منهم ألى مدينة السلام مفلولين، وقتل زهاء خمسين رجلًا، وأخذوا ستين دابة، وعدّة من البغال قد كانت جاءت من ناحية حلوان عليها الثلج، فوجّهوا بها إلى سامرّا، ووجهوا برءوس من قتلوا من الجند، فكانت أول روءس وافت في تلك الحرب سامرّا.
وانصرف عبد الله بن محمود مفلولًا في شرذمة، وصار طريق خراسان في أيدي الأتراك، وانقطع الطريق من بغداد إلى خراسان.
وكان إسماعيل بن فراشة وجّه إلى همذان للمقام بها، فكتب إليه بلانصراف، فانصرف، فأعطى هو وأصحابه استحقاقاتهم.
ووجّه المعتزّ عسكرًا من الأتراك والمغاربة والفراعنة ومن هو في عدادهم. وعلى الأتراك والفراعنة الدرغمان الفرعاني، وعلى المغاربة ربلة المغربي، فساروا إلى مدينة السلام من الجانب الغربي، فجاوزوا قطربّل إلى بغداد، وضربوا عسكرهم بين قطربل وقطيعة أم جعفر؛ وذلك عشيّة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر.
فلما كان يوم الأربعاء من غدة هذه الليلة، وجّه محمد بن عبد الله بن طاهر الشاه بن ميكال من باب القطيعة وبندارًا وخالد بن عمران فيمن معهم من أصحابهم من الفرسان والرجالة. فصافهم الشاه وأصحابه، فتراموا بالحجارة والسهام، وألجئوا الشاه إلى مضيق عند باب القطيعة، وكثر المبيضة من أهل بغداد، ثم حمل الشاه والمبيضة جملة واحدة أزالوا بها الأتراك والمغاربة وم معهم عن موضعهم، وحمل عليهم المبيضة، وأصحروا بهم، وحمل عليهم الطبرية فخالهطوهم؛ وخرج عليهم بندار وخالد بن عمران من الكمين؛ وكانوا كمنوا في ناحية قطربل، فوضعوا في أصحاب أبي أحمد الأتراك منهم وغيرهم السيف، فقتلوهم أبرح قتل؛ فلم يفلت منهم إلا القليل، وانتهب المبيضة عسكرهم وما كان فيه من المتاع والأهل والأثقال والمضارب والحرثى، فكل من أفلت منهم من السيف رمى بنفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد؛ فأخذه أصحاب الشبارات، وكانت الشبارات قد شحنت بالمقاتلة - فقتلوا وأسروا وجعل القتلى والرءوس من الأتراك والمغاربة وغيرهم في الزواريق، فنصبت بعضها في الجسرين؛ وعلى باب محمد بن عبد الله؛ فأمر محمد بن عبد الله لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة، فسور قوم كثير من الجند وغيرهم، فطلب المنهزمة فبلغ بعضهم أوأنا، وبلغ بعضهم ناحية عسكر أبي أحمد عبر دجلة، وبعضهم نفذ إلى سامرا.
وذكر أن عسكر الأتراك يوم هزموا بباب القطيعة كانوا أربعة آلاف، فقتل منهم يوم الوقعة هنالك ألفان؛ وكان وضع فيهم بالسيف من باب القطيعة إلى القفص، فقتلوا من قتلوا، وغرّق من غرّق، وأسر منهم جماعة، فخلع محمد بن عبد الله على بندار أربع خلع ملحم، ووشى وسواد وخزّ، وطوّقه طوقًا من ذهب وخلع على أبي السنا أربع خلع، وعلى خالد بن عمران وجميع القوّاد، كلّ رجل أربع خلع. وكان انصرافهم من الوقعة مع المغرب، وسخّرت البغال، وأخذ لها الجواليق لتحمل فيها الروءس إلى بغداد.
وكان كلّ من وافى دار محمد برأسٍ تركي أو مغربي أعطوه خمسين درهمًا، وكان أكثر ذلك العمل للمبيّضة والعيّارين؛ ثم وافى عيّارو بغداد قطربّل، فانتهبوا ما تركه الأتراك من متاع أهل قطربّل وأبواب دورهم؛ فوجّه محمد في آخر هذا اليوم أخاه أبا أحمد عبيد الله بن عبد الله والمظفّر بن سيسل في أثر النهزمين حياطة لأهل بغداد؛ لأنه لم يأمن رجعتهم عليه فبلغا القفص، وانصرفا سالمين، وزعجا من أقام من الرجّالة والعيارين بناحية قطربل، وأشير على محمد بن عبد الله أن يتبعهم بعسكر في اليوم الثاني وفي تلك الليلة، ليوغل في آثارهم، فأبى ذلك ولم يتبع موليًّا، ولم يأمر أن يجهز على جريح، وقبل أمان من استأمن، وأمر سعيد بن حميد فكتب كتابًا يذكر فيه هذه الرقعة؛ فقرىء على أهل بغداد في مسجد جامعها، نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد؛ فالحمد لله المنعم فلا يبلغ أحد شكر نعمته، والقادر فلا يعارض في قدرته، والعزيز فلا يغالب في أمره، والحكم العدل فلا يردّ حكمه، والناصر فلا يكون نصره إلّا للحق وأهله، والمالك لكلّ شيء فلا يخرج أحد عن أمره، والهادي إلى الرحمة فلا يضلّ من انقاد لطاعته، والمقدّم إعذاره ليظاهر به حجته؛ الذي جعل دينه لعبادة رحمة، وخلافه لدينه عصمة، وطاعة خلافائه فرضًا واجبًا على كافة الأمة؛ فهم المستحفظون في أرضه على ما بعث به رسله، وأمناؤه على خلقه فيما دعاهم إليه من دينه، والحاملون لهم على منهاج حقه؛ لئلا يتشعّب بهم الطرق إلى المخالفة لسبيله، والهادي إلى صراطه؛ ليجمعهم على الجادّة التي ندب إليها عباده الذين بهم يحمى الدين من الغواة والمخالفين؛ محتجّين على الأمم بكتاب الله الذي استعملهم به، ودعا الأمة بحقّ الله الذي اختارهم له؛ إن جاهدوا كانت حجة الله معهم، وإن حاربوا حكم بالنصر لهم، وإن بغاهم عدوّ كانت كفاية الله حائلةً دونهم ومعقلًا لهم، وإن كادهم كائد فلله من وراء عونهم، نصبهم الله لإعزاز دينه؛ فمن عاداهم فإنما عادى الدين الذي أعزّه وحرسه بهم، ومن ناوأهم فإنما طعن على الحقّ الذي يكلؤه بحراستهم؛ جيوشهم بالنّصر والعزّ منصورة، وكتائبهم بسلطان الله من عدّوهم محفوظة، وأيديهم عن دين الله دافعة، وأشياعهم بتناصرهم في الحقّ علية، وأحزاب أعدائهم ببغيهم مقموعة، وحجتهم عند الله وعند خلقه داحضة، ووسائلهم إلى النصر مردودة؛ تجمعهم مواطن التحاكم، وأحكام الله بخذلانهم واقعة، وأقداره بإسلامهم إلى أوليائه جارية، وعاداتهم في الأمم السالفة والقرون الخالية ماضية؛ ليكون أهل الحق على ثقة من إنجاز سابق الوعد، وأعداؤه محجوبون بما قدم إليهم من الإنذار، معجلة لهم نقمة الله بأيدي أوليائه، معد لهم العذاب عند ربهم، والخزي موصول بنواصيهم في دنياهم، وعذاب الآخرة من ورائهم وما الله بظلام للعبيد.
وصلى الله على نبيه المصطفى، ورسوله المرتضى، والمنقذ من الضلالة إلى الهدى، صلاة تامة نامية بركاتها، دائمة اتصالها، وسلم تسليمًا 0 والحمد لله تواضعًا لعظمته، والحمد لله إقرارًا بربوبيته، والحمد لله اعترافًا بقصور أقصى منازل الشكر عن أدنى منزلة من منازل كرامته. والحمد لله الهادي إلى حمده والموجب له مزيده، والمحصي به عوائده إحسانه، حمدًا يرضاه ويتقلبه، ويوجب طوله وإفضاله. والحمد لله الذي حكم بالخذلان على من بغى على أهل دينه، وسبق وعده بالنصر لمن بغى عليه من أنصار حقه وأنزل بذلك كتابه العزيز، موعظة للباغين؛ فإن أقلعوا كانت التذكرة نافعة لهم، والحجة عند الله لمن قام بهم فيهم، ثم أوجب بعد التذكرة والإصرار جهادهم، فقال فيما قدم من وعده، وأبان من برهانه: " ثم بغى عليه لينصرنه الله " وعدًا من الله حقًا نهى به أعداءه عن معصيته، وثبت به أولياءه على سبيله؛ والله لا يخلف الميعاد.
ولله عند أمير المؤمنين في رئيس دعوته، وسيف دولته، والمحامي عن سلطانه ومحل ثقته، والمتقدم في طاعته ونصيحته لأوليائه، والذاب عن حقه، والقائم بمجاهدة أعدائه؛ محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين، نعمة يرغب إلى الله في إتمامها، والتوفيق لشكرها، والتطول بمن أراد المزيد فيها؛ فإن الله قدر لآبائه القيام بالدعوة الأولى لآباء أمير المؤمنين، ثم جمع له آثارهم بقيامه بالدولة الثانية؛ حين حاول أعداء الله أن يطمسوا معالم دينه ويعفوها؛ فقام بحق الله وحق خليفته، محاميًا عنها، مراميًا من ورائها، متناولًا للبعيد برأيه ونظره، مباشرًا للقريب بإشرافه وتفقده، باذلًا نفسه في كل ما قربه من الله، وأوجب له الزلفى عنده، وسيمتع الله أمير المؤمنين به وليًا، مكانفًا على الحق، وناصرًا موازرًا على الخير، وظهيرًا مجاهدًا لعدو الدين.
وقد علمتم ما كان كتاب أمير المؤمنين تقدم به إليكم فيما أحدثته الفرقة الضالة عن سبيل ربها، المفارقة لعصمة دينها، الكافرة لنعم الله ونعم خليفته عندها، المباينة لجماعة الأمة التي ألف الله بخلافته نظامها، المحاولة لتشتيت الكلمة بعد اجتماعها، الناكثة لبيعته، الخالعة لربقة الإسلام من أعناقها، الموالي الأتراك، وما صارت إليه من نصر الغلام المعروف بأبي عبد الله بن المتوكل لإقامتها عند مصير أمير المؤمنين إلى مدينة السلام، محل سلطانه، ومجتمع أنصاره وأبناء أنصار آبائه؛ وما قابل به أمير خيانتهم وآثره من الأناة في أمرهم.
ثم إن هؤلاء الناكثين جمعوا جمعًا من الأتراك والمغاربة، ومن ولج في سوادهم، ودخل في غمارهم، مواتيًا للفتنة من ألفاف الغي، ورأسوا عليهم المعروف بأبي أحمد بن المتوكل، ثم ساروا نحو مدينة السلام في الجانب الشرقي، معلنين للبغي والإقتدار، مظهرين للغي والإصرار؛ فتأناهم أمير المؤمنين، وفسح لهم في النظرة لهم، وأمر بالكتاب إليهم بما فيه تبصيرهم الرشد، وتذكيرهم بما قدموا من البيعة، وإفهامهم ما لله عليهم وله في ذلك من الحق، وأن خروجهم مما دخلوا فيه من بيعتهم طوعًا، الخروج من دين الله والبراءة منه ومن رسوله، وتحريمهم أموالهم ونساءهم عليهم، وأن في تمسكهم به سلامة أديانهم وبقاء نعمتهم، والاحتراس من حلول النقم بهم، وأن يبين لهم ما سلف من بلائه عندهم؛ من أسنى المواهب، وأرفع الرغائب، والاختصاص بسني المراتب، والتقدم في المحافل؛ فأبوا إلا تماديًا ونفارًا، وتمسكًا بالغي وإصرارًا.
فقلد أمير المؤمنين نصيحه المؤتمن ووليه محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين تدبير أمورهم ودعائهم إلى الحق ما كانت الإنابة أو محاربتهم إن جنح بهم غيهم، وتتابعوا في ضلالهم فلم يألهم نظرًا وإفهامًا، وتبيينًا وإرشادًا، وهم في ذلك رافعون أصواتهم بالتوعد لأهل لمدينة السلام؛ بسفك دمائهم وسبى نسائهم وتغنم أموالهم، وقبل ذلك ما كانوا في مسيرهم على السبيل التي يستعملها أهل الشرك في غاراتهم، ويميلون إليها عند إمكان النهزة لهم، لا يجتازون بعامر إلا أخربوه، ولا بحريم لمسلم ولا غيره إلا أباحوه، ولا بمسلم يعجز عنهم إلا قتلوه، ولا بمال لمسلم ولا ذمى إلا أخذوه؛ حتى انتقل كثير ممن سبقت إليه أخباره ممن أمامهم عن أوطانهم، وفارقوا منازلهم ورباعهم، وفزعوا إلى باب أمير المؤمنين تحصنًا من معرتهم، لا يمرون بغني إلا خلعوا عنه لباس الغنى؛ ولا بمستور إلا هتكوا عن الذرية والنساء ستره، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا يتوقفون عن مسلم بهتك ولا مثلة، ولا يرغبون عما حرم الله من دم ولا حرمة.
ثم تلقوا التذكرة بالحرب، وقابلوا الموعظة بالإصرار على الذنب، وعارضوا التبصير بالاستبصار في الباطل؛ فذلفوا نحو باب الشماسية، وقد رتب محمد ابن عبد الله مولى أمير المؤمنين بذلك الباب والأبواب التي سبيلها سبيله من أبواب مدينة السلام الجيوش في العدة الكاملة، والعدة المتظاهرة، معاقلهم التوكلّ على ربّهم، وحصونهم الاعتصام بطاعته، وشعارهم التكبير والتهخليل أمام عدوهم. ومحمد بن عبد الله ولي أمير المؤمنين، يأمرهم بتحصين ما يليهم والإمساك عن الحرب ما كانت مندوحة لهم؛ فبادأهم الأولياء بالوعظة، وبدأهم الغواة الناكثون بحربهم، وعادوهم أيامًا بجموعهم وعدادهم، مدلّين بعدّتهمومقدذرين ألا غالب لهم؛ ولا يعلمون بالله أنّ قدرته فوق قدرتهم، وأن أقداره نافذة بخلاف إرادتهم، وأحكامكه عادلة ماضية لأهل الحقّ عليهم؛ حتى إذا كان يوم السبت للنصف من صفر وافوا باب الشماسيّة بأجمعهم، قد نشروا أعلامهم، وتنادوا بشعارهم، وتحصّنوا بأسلحتهم، وبدا الأمر منهم لمن عاينهم، ليس لهم دون سفك الدماء، وسبى النساء، واستباحة الأموال؛ فبدأهم الأولياء بالموعظة فلم يسمعوا، وقابلوهم بالتذكرة فلم يصغوا إليها، وبدءوا بالحرب منابذين لها، فتسرّع الأولياء عند ذلك إليهم، واستنصروا عليهم، واستحكمت بالله ثقتهم، ونفذت به بصائرهم؛ فلم تزل الحرب بينهم إلى وقت العصر من هذا اليوم؛ فقتل الله من حماتهم وغرسانهم ورؤسائهم وقادة باطلهم جماعة كثيرًا عددها، ونالت الجراحة المثخنة التي تأتي على من نالته أكثر عامتهم.
فلما رأى أعداء الله وأعداء دينه أن قد أكذب ظنونهم، وحال بينهم وبين أمانيهم، وجعل عواقبها حسرات عليهم؛ استنهضوا جيشًا من سامرّا من الأتراك والمغاربة في العتاد والعدّة والجلد والأسلحة في الجلنب الغربي، طالبين المعرّة ومؤملين أن ينالوا نيلاص من أهله باشتغال إخوانهم في الجانب الشرقي يأعدائهم.
وقد كان محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين شحن الجانبين جميعًا بالرجال والعدة، وكل بكل ناحية من يقوم بحفظها وحراستها، ويكف عن الرغبة بواثق أعدائهم، ووكل بكل باب من الأبواب قائدًا في جمع ليعرف أخبار أعداء الله في حركاتهم ونهوضهم ومقامهم وتصرفهم، فيعامل كل حال لهم بحال يفت الله في أعضادهم بها.
فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر، وافى الجيش الذي أنهضوه من الجانب الغربي الباب المعروف بباب قطربل، فوقفوا بإزاء الناكثين المعسكرين بالجانب الشرقي من دجلة في عدد لا يسعه إلا الفضاء، ولا يحمله إلا المجال الفسيح، وقد تواعدوا أن يكون دونهم من الأبواب معًا لشغل الأولياء بحربهم من الجهات، فيضعفوا عنهم ويغلبوا حقهم بباطلهم؛ أملًا كاذبًا كادهم الله فيه غير صادق، وظنًا خائبًا لله فيه قضاء نافذ. وأنهض محمد بن عبد الله نحوهم محمد بن أبي عون وبندار بن موسى الطبري مولى أمير المؤمنين وعبد الله بن نصر بن حمزة من باب قطربل. وأمرهم بتقوى الله وطاعته، والاتباع لأمره والتصرف مع كتابه، والتوقف عن الحرب حتى تسبق التذكرة الأسماع، وتزول الحجة بالتتابع منهم والإصرار، فنفذوا في جمع يقابل جمعهم، مستبصرين في حق الله عليهم، مسارعين إلى لقاء عدوهم، محتسبين خطاهم ومسيرهم، واثقين بالثواب الآجل والجزاء العاجل فتلقاهم ومن معهم أعداء الله، قد أطلقوا نحوهم أعنتهم، وأشرعوا لنحورهم أسنتهم، لا يشكون أنهم نهزة المختلس، وغنيمة المنتهب؛ فنادوهم بالموعظة نداء مسمعًا، فمجتها أسماعهم، وعميت عنها أبصارهم، وصدقهم أولياء الله في لقائهم؛ بقلوب مستجمعة لهم، وعلم بأن الله لا يخلف وعده فيهم؛ فجالت الخيل بهم جولة، وعاودت كرة بعد كرة عليهم، طعنًا بالرماح، وضربًا بالسيوف، ورشقًا بالسعام؛ فلما مسهم ألم جراحها، وكلمتهم الحرب بأنيابها، ودارت عليهم رحاها، وصمم عليهم أبناؤها، ظمأ إلى مائهم؛ ولوا أدبارهم، ومنح الله أكتافهم، وأوقع بأسه بهم، فقتلت منهم جماعة لم يحترسوا من عذاب الله بتوبة، ولم يتحصنوا من عقابه بأمانة، ثم ثابت ثانية؛ فوقفوا بإزاء الأولاء، وعبر إليهم أشياعهم الغاوون من عسكرهم بباب الشماسية ألف رجل من أنجادهم في السفن، معاونين لهم على ضلالتهم؛ فأنهض لهم محمد بن عبد الله خالد بن عمران والشاه بن ميكال مولى طاهر نحوهم، فنفذوا ببصيرة لا يتخونها فتور، ونية لا يلحقها تقصير؛ ومعهما العباس بن قارن مولى أمير المؤمنين.