فقام إليه رجل من القوم، قد جمع الله لك يا أمير المؤمنين فضائل الأدب، وخصك بإرث النبوة، وألقى إليك أزمة الحكمة، ووفر نصيبك من حباء الكرامة؛ وفسح لك في الفهم، ونور قلبك بأنفس العلوم وصفاء الذهن، فأفصح عن القلب البيان، وأدرك فهمك يا أمير المؤمنين ما والله خبئ على من لم يحب بما حبيت من المنن العظام، والأيادي الجسام، والفضائل المحمودة، وشرف الطباع. فنطقت الحكمة على لسانك، فما ظننته فهو صواب، وما فهمته فهو الحق الذي لا يعاب، وأنت والله يا أمير المؤمنين نسيج وحده، وقريع دهره، لا يبلغ كلية فضله الوصف، ولا يحصر أجزاء شرف فضله النعت.
ثم أمر أمير المؤمنين يالعقد لأنصاره على النواحي، وأطلقهم في أشعار أعدائهم وأبشارهم ودمائهم. فلما بلغ محمد بن عبد الله ما أمر به في النواحي أنشأ كتابًا نسخته: أما بعد فإن زيغ الهوى صدف بكم عن حزم الرأي، فأقحمكم حبائل الخطأ ولو ملكتم الحق عليكم، وحكمتم به فيكم لأوردكم البصيرة، ونفى عيشكم ويصفح أمير المؤمنين عن جريرة جارمكم؛ وأخلى لكم ذروة سبوغ النعمة عليكم، وإن مضيتم على غلوائكم، وسول لكم الأمل أسوأ أعمالكم، فأذنوا بحرب من الله ورسوله، بعد نبذ المعذرة إليكم، وإقامة الحجة عليكم، ولئن شنت الغارات، وشب ضرام الحرب، ودرات رحاها على قطبها، وحسمت الصوارم أوصال حماتها، واستجرت العوالي من نهمها، ودعيت نزال، والتحم الأبطال، وكلحت الحرب عن أنيابها أشداقها، وألقت للتجرد عنها قناعها، واختلفت أعناق الخيل، وزحف أهل النجدة إلى أهل البغى، لتعلمن أي الفريقين أسمح بالموت نفسًا، وأشد عند اللقاء بطشًا، ولات حين معذرة، ولا قبول فدية! وقد أعذر من أنذر؛ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون! فبلغ كتاب محمد بن عبد الله الأتراك، فكتبوا جواب كتابه: إن شخص الباطل تصور لك في صورة الحق، فتخيل لك، الغي رشدًا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، ولو راجعت عزوب عقلك أنار لك برهان البصيرة، وحسم عنك مواد الشبهة، لكن حصت عن سنة الحقيقة، ونكصت على عقبيك لما ملك طباعك من دواعي الحيرة، فكنت في الإصغاء لهتافه والتجرد إلى وروده كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، ولعمرك يا محمد؛ لقد ورد وعدك لنا ووعيدك إيانا، فلم يدننا منك، ولم ينبئنا عنك، إذ كان فحص اليقين قد كشف عن مكنون ضميرك، وألفاك كالمكتفى بالبرق نهجًا؛ إذا أضاء له مشى فيه، وإذا أظلم عليه قام. ولعمرك لئن اشتد في البغى شأوك، ومتعت بصبابة من الأمل ليكونن أمرك عليك غمة؛ ولنأتينك بجنود لا قبل لك بها ولنخرجنك منها ذليلًا، وأنت من الصاغرين، ولولا انتظارنا كتاب أمير المؤمنين بإعلامنا ما نعمل في شاكلته، بلغنا بالسياط النياط، وغمدنا السيوف وهي كالة، وجعلنا عاليها سافلها، وجعلناها مأوى الظلمان والحيات والبوم؛ وقد ناديناك من كثب، وأسمعناك إن كنت حيًا؛ فإن لم تجب تفلح، وإن لم تأب إلا غيًا نخزك به، وعمل قليل لتصبحن نادمين.
وقوع الفتنة بين الأتراك والمغاربة

وفي أول يوم من رجب من هذه السنة كانت بين المغاربة والأتراك ملحمة؛ وذلك أن المغاربة اجتمعت فيه مع محمد بن راشد ونصر بن سعيد، فغلبوا الأتراك على الجوسق، وأخرجوهم منه، وقالوا لهم: في كل يوم تقتلون خليفة، وتخلعون آخر، وتقتلون وزيرًا؛ وكانوا قد وثبوا على عيسى بن فرخانشاه؛ فتناولوه بالضرب، وأخذوا دوابه، ولما أخرجت المغاربة الأتراك من الجوسق، وغلبوهم على بيت المال، أخذوا خمسين دابة مما كان من الأتراك يركبونها، فاجتمع الأتراك، وأرسوا إلى من بالكرخ والدور منهم، فتلاقوا هم والمغاربة، فقتل من المغاربة رجلٌ، فأخذت المغاربة قاتله، وأعانت المغاربة الغوغاء والشاكرية، فضعف الأتراك، وانقادوا للمغاربة. فأصلح جعفر بن عبد الواحد بين الفريقين، فاصطلحوا على ألا يحدثوا شيئًا، ويكون في كل موضع يكون فيه رجل من قبل أحد الفريقين يكون فيه آخر من الفريق الآخر فمكثوا على ذلك مديدة.
وبلغ الأتراك اجتماع المغاربة إلى محمد بن راشد ونصر بن سعيد، واجتمع الأتراك إلى بايكباك، فقالوا: نطلب هذين الرأسين، فإن ظفرنا بهما فلا أحد ينطق، وكان محمد بن راشد ونصر بن سعيد قد اجتمعا في صدر اليوم الذي عزم الأتراك فيه على الوثوب بهما، ثم انصرفا إلى منازلهما، فبلغهما أن بايكباك قد صار إلى منزل ابن راشد، فعدل محمد بن راشد ونصر بن سعيد إلى منزل محمد بن عزون ليكونا عنده حتى يسكن الأتراك، ثم يرجعا إلى جمعهما، فغمز إلى بايكباك رجل، ودله عليهما، وقيل إن ابن عزون هو الذي دس من دل بايكباك والأتراك عليهما؛ فأخذهما الأتراك فقتلوهما؛ فبلغ ذلك المعتز، فأراد قتل ابن عزون فكلم فيه فنفاه إلى بغداد.
ذكر خبر حمل الطالبين من بغداد إلى سامرا

وفيها حمل محمد بن علي بن خلف العطار وجماعة من الطالبين من بغداد إلى سامرا فيهم أبو أحمد بن محمد بن جعفر بن حسن بن جعفر بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وحمل معهم أبو هاشم داود بن القاسم الحعفري وذلك لثمان خلون من شعبان منها.
ذكر السبب في حملهم
وكان السبب فيما ذكر أن رجلًا من الطالبين شخص من بغداد في جماعة من الجيشية والشاكرية إلى ناحية الكوفة، وكانت الكوفة وسوادها من عمل أبي الساج في تلك الأيام، وكان مقيمًا ببغداد لمناظرة ابن طاهر إياه في الخروج إلى الري، فلما بلغ ابن طاهر خبر الطالبي الشاخص من بغداد إلى ناحية الكوفة، أمر الساج بالشخوص إلى عمله بالكوفة، فقدم أبو الساج خليفته عبد الرحمن إلى الكوفة، فلقى أبا الساج أبو هاشم الجعفري مع جماعة معه من الطالبين ببغداد، فكلموه في أمر الطالبي الشاخص إلى الكوفة، فقال لهم أبو الساج: قولوا له يتنحى عني، ولا أراه، فلما صار عبد الرحمن خليفة أبي الساج إلى الكوفة ودخلها رمى بالحجارة حتى صار إلى المسجد، فظنوا أنه جاء لحرب العلوي، فقال لهم: إني لست بعامل؛ إنما أنا رجل وجهت لحرب الأعراب، فكفوا عنه، وأقام بالكوفة وكان أبو أحمد محمد بن جعفر الطالبي الذي ذكرت أنه حمل من الطالبين إلى سامرا كان المعتز ولاه الكوفة بعد ما هزم مزاحم بن خاقان العلوي الذي كان وجه لقتاله بها الذي قد مضى ذكره قبل في موضعه فعاث، - فيما ذكر - أبو أحمد هذا في نواحي الكوفة وآذى الناس، وأخذ أموالهم وضياعهم، فلما أقام خليفة أبي الساج بالكوفة لطف لأبي أحمد العلوي هذا وآنسه حتى خالطه في المؤاكلة والمشاربة، وداخله ثم خرج متنزهًا معه إلى بستان من بساتين الكوفة، فأمسى وقد عبى له عبد الرحمن أصحابه، فقيده وحمله مقيدًا بالليل على بغال الدخول، حتى ورد به بغداد في أول شهر ربيع الآخر، فلما أتى به محمد بن عبد الله حبسه عنده، ثم أخذ منه كفيلًا وأطلقه، ووجدت مع ابن أخ لمحمد بن علي بن خلف العطار كتب من الحسن بن زيد، فكتب بخبره إلى المعتز، فورد الكتاب بحمله مع عتاب بن عتاب، وحمل هؤلاء الطالبين، فحملوا جميعًا خمسين فارسًا، وحمل أبو أحمد هذا وأبو هاشم الجعفري وعلي بن عبيد الله ابن عبد الله بن حسن بن جعفر بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب.
وتحدث الناس في علي بن عبيد الله أنه إنما استأذن في المصير إلى منزله بسامرا، فأذن له ووصله - فيما قيل - محمد بن عبد الله بألف درهم، لأنه شكا إليه ضيقه، وودع أبو هاشم أهله.
وقيل إن سبب حمل أبي هاشم، إنما كان ابن الكردية وعبد الله بن داود بن عيسى بن موسى قالا للمعتز: إنك إن كتبت إلى محمد بن عبد الله في حمل داود بن القاسم لم يحمله، فاكتب إليه، وأعلمه أنك تريد توجيهه إلى طبرستان لإصلاح أمرها، فإذا صار إليك رأيت فيه رأيك؛ فحمل على هذا السبيل ولم يعرض له بمكروه.
وفيها ولى الحسن بن أبي الشوارب قضاء القضاة، وكان محمد بن عمران الضبي مؤدب المعتز قد سمى رجالًا للمعتز للقضاء نحو ثمانية رجال؛ فيهم الخلنجي والخصاف، وكتب كتبهم، فوقع فيه شفيع الخادم ومحمد بن إبراهيم بن الكردية وعبد السميع بن هارون بن سليمان بن أبي جعفر، وقالوا إنهم من أصحاب ابن أبي داود، وهم رافضة وقدرية وزيدية وجهمية.
فأمر المعتز بطردهم وإخراجهم إلى بغداد ووثب العامة بالخصاف، وخرج الآخرون إلى بغداد، وعزل الضبي إلا عن المظالم.
وذكر أن أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكرية قدرت في هذه السنة، فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في هذه السنة مائتي ألف ألف دينار، وذلك خراج المملكة كلها لسنتين.
وفيها توجه أبو الساج إلى طريق مكة، وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن وصيفًا لما صلح أمره، ودفع المعتز إليه خاتمه كتب إلى أبي الساج يأمره بالخروج إلى طريق مكة ليصلحه، ووجه إليه من المال ما يحتاج إليه؛ فأخذ في الجهاز، فكتب محمد بن عبد الله يسأل أن يصير طريق مكة إليه؛ فأجيب إلى ذلك، فوجه أبا الساج من قبله.
وفي أول ذي الحجة عقد لعيسى بن الشيخ بن السليل على الرملة، فأنفذ خليفته أبا المغراء إليها، فقيل: إنه أعطى بغا أربعين ألف دينار على ذلك، أو ضمنها إليه.
وفيها كتب وصيف إلى عبد العزيز بن أبي دلف بتوليه الجبل، وبعث إليه بخلع، فتولى ذلك من قبله.
وفيه قتل محمد بن عمرو الشاري بديار ربيعة؛ قتلة خليفة لأيوب بن أحمد في ذي العقدة.
وفيها سخط على كنجور، وأمر بجبسه في الجوسق، ثم حمل إلى بغداد مقيدًا، ثم وجه به إلى اليمامة فحبس هنالك.
وفيها أغار ابن جستان صاحب الديلم مع أحمد بن عيسى العلوي والحسين ابن أحمد الكوكبي على الري فقتلوا وسبوا، وكان ما بها حين قصدوها عبد الله ابن عزيز، فهرب منها؛ فصالحهم أهل الري على ألفي درهم، فأدّوها، وارتحل عنها ابن جستان، وعاد إليها ابن عزيز، فأسر أحمد بن عيسى وبعث به إلى نيسابور.
وفيها مات إسماعيل بن يوسف الطالبي الذي كان فعل بمكة ما فعل.
وحجّ فيها بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور من قبل المعتزّ.