فذكر أن سليمان وجه تلك الليلة إلى ابن أوس ثيابًا وفرشًا وطعامًا؛ فيقال: إن محمدًا قبله، وقيل: إنه رده. وأصبح الناس في اليوم الثاني وغدا الحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل إلى دار الشاه بن ميكال، ولحق به وجوه الشاكرية والنائبة وغيرهم؛ فأقاموا هناك مراغمين سليمان بن عبد الله بن طاهر. وخلت دار سليمان فلم يحضرها إلا جميعة. فبعث إليهم سليمان مع محمد بن نصر بن حمزة بن مالك الخزاعي، وهو لا يعلم ما عليه عقد القوم، يعلمهم قبح ما ركبوا من مكحمد بن أوس، وما يجب لمحمد بحرمته وقديمه، وأنهم لو أنهوا إليه ما أنكروا منه لتقدم في ذلك بما يكفيهم معه الحال التي ركبوها، فضج الشاكرية الذين حضروا دار الشاه جميعًا وقالوا: لا نرضى بمجاورة ابن أوس ولا بمجاورة أحد من أصحابه ولا من الصعاليك المنضمين إليه؛ وإنهم إن أكرهوا على ذلك تعاقدوا مباينته، وخلع من يسومهم إياه، وأحال الشاه بن ميكال والحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل على كراهة القوم، فرجع الرسول بذلك إلى سليمان، فرده إليهم بكلام دون ذلك، ووعدهم وقال: أنا أثق بقولكم وضمانكم دون أيمانكم وعهودكم. ثم استوى جالسًا.
وذكر أنه لم يزل مستثقلًا محمد بن أوس ومن لحقه به من الصعاليك وغيرهم، عارفًا بسوء رغبتهم ورداءة مذاهبهم، وبسوم محمد بن أوس في نفسه خاصة ومحبته وشروعه في كل ما دعا إلى خلاف وفرقة، وأسبغ هذا المعنى، وكثر فيه حتى خرج به إلى الإغراق فيه؛ إلى أن قال: لقد كنت أدخل في قنوتي في الصلاة طلب الراحة من ابن أوس. ثم التفت إلى محمد بن علي بن طاهر، فأمره بالمصير إلى ابن أوس، والتقدم إليه في العزم على الإنصراف إلى خراسان، وأن يعلمه أنه لا سبيل له إلى الرجوع إلى مدينة السلام، ولا إلى تولي شئ من الأمور التي يتولاها لسيلمان.
فلما تناهى الخبر إلى ابن أوس رحل من الشماسية، فصار في رقة البردان على دجلة، فأقام بها أيامًا حتى اجتمع إليه من تفرق من أصحابه، ثم رحل فنزل النهروان، فلم يزل بها مقيمًا. وقد كان كتب إلى بايكباك وصالح ابن وصيف يعرض عليهما نفسه، ويشكو إليهما ما نزل به؛ فلم يجد عندهما شيئًا مما قصد؛ وقد كان محمد بن عيسى بن عبد الرحمن مقيمًا بسامرا لينجز أمور سليمان، وكان كارهًا لابن أوس، منحرفًا عنه، وكان ابن أوس مضطرب الأمر لسوء محضر محمد بن عيسى الكاتب؛ فلما انقطعت عن ابن أوس وأصحابه المادة، تعبثوا بأهل القرى والسابلة، وأكثروا الغارات والنهب، ورحل حتى نزل النهروان.
فذكر عن بعض من قصدوه لينتهبوه، فذكرهم المعاد، وخوفهم الله أنهم ردوا عليه أن قالوا له: إن كان النهب والقتل جائزًا في مدينة السلام؛ وهي قبة الإسلام، ودار عز السلطان؛ فما استنكار ذلك في الصحارى والبراري! ثم رحل ابن أوس عن النهروان بعد أن أثر في تلك الناحية آثارًا قبيحة، وأخذ أهل البلاد بأداء الأموال، وحمل منها الطعام في السفن في بطن النهروان إلى إسكاف بني جنيد لبيعه هناك.
وكان محمد بن المظفر بن سيسل بالمدائن، فلما بلغه مصير ابن أوس إلى النهروان صير إقامته بالنعمانية من عمل الزوابي خوفًا على نفسه منه لحضور أبيه كان في يوم الوقعة.
فذكر عن محمد بن نصر بن منصور بن بسام - وعبرتا ضيعته - أن وكيله انصرف عنها هاربًا بعد أن أدى إلى ابن تحت العذاب وخوف الموت قريبًا من ألف وخمسمائة دينار؛ ولم يزل ابن أوس مقيمًا هنالك، يقرب ويباعد، ويقبض ويبسط، ويشتد ويلين، ويرهب؛ حتى أتاه كتاب بايكباك بولاية طريق خراسان من قبله، فكان من وقت خروجه من مدينة السلام إلى وقت ورود الكتاب عليه بالولاية شهران وخمسة عشر يومًا.
وذكر عن بعض ولد عاصم بن يونس العجلي أن أباه كان يتولى ضياعًا للنوشرى بناحية طريق خراسان، وأنه كتب إلى النوشرى يذكر ما عاين من قوة عسكر ابن أوس وظاهر عدتهم، ويشير بأن يذكر ذلك لبايكباك، ويصف خلاء طريق خراسان من سلطان يتولاه ويحوط أهله، وأن هذا عسكر مشحن بالرجال والعدة والعتاد، مقيم في العمل، وأن النوشرى ذكر ذلك لبايكباك، وأشار عليه بتوليته طريق خراسان، وتخفيف المؤنة عن السلطان، فقبل ما أشار به عليه، وأمر بكتبه فكتب، وولى طريق خراسان في ذي العقدة من هذه السنة - وهي سنة خمس وخمسين ومائتين - وكان موسى خليفة مساور ابن عبد الحميد الشاري مقيمًا بالدسكرة ونواحيها في زهاء ثلثمائة رجل، قد ولاه مساور ما بين حلوان إلى السوس على طريق خراسان وبطن جوخى وما قرب ذلك من طساسيج السواد.
وفيها أمر المهتدي بإخراج القيان والمغنين والمغنيات من سامرا ونفيهم منها إلى بغداد؛ بعد أمرٍ كان قد تقدّم من قبيحة في ذلك قبل أن ينزل بابنها ما نزل، وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب وإبطال الملاهي وردّ المظالم، وجلس لذلك للعامة، وكانت ولايته والدنيّا كلها من أرض الإسلام مفتونة.
ذكر خبر استيلاء مفلح على طبرستان ثم انصرافه عنها

وفيها شخص موسى بن بغا ومن معه من الموالي وجند السلطان من الري وانصرف مفلح عن طبرستان بعد أن دخلها، وهزم الحسن بن زيد، وأخرجه عنها إلى أرض الديلم.
ذكر الخبر عن شخوصه عنها
ذكر أنّ السبب في ذلك أنّ قبيحة أمّ المعتز لمّا رأت من الأتراك اضطرابًا، وأنكرت أمرهم، كتبت إلى موسى بن بغا تسأله القدوم إلى ما قبلها، وأمّلت وروده عليها قبل حدوث ما حدث عليها وعلى ابنها المعتزّ، فعزم موسى على الإنصراف إليها، وكان ورود كتابها عليه ومفلح بطبرستان. فكتب موسى إلى مفلح يأمره بالإنصراف إليها وهو بالرّي، فحدثني بعض أصحابنا من أهل طبرستان، أنّ كتاب موسى ورد على مفلح بذلك، وقد توجّه نحو أرض الديلم في طلب الحسن بن زيد الطالبي. فلما ورد عليه الكتاب انصف راجعًا إلى حيث توجه منه، فعظم ذلك على قوم كانوا معه من رؤساء أهل طبرستان ممن كان هاربًا قبل مقدم مفلح عليهم من الحسن ابن زيد، لما كانوا قد رجوا من مدمه عليهم وكفايتهم أمر الحسن بن زيد والرجوع إلى منازلهم وأوطانهم؛ وذلك أنّ مفلحًا كان يعدهم اتّباع الحسن ابن زيد حيث توجّه حتى يظفربه أو يخترم دونه ويول لهم - فيما ذكر لي - لو رميت قلنسوتي في أرض الديلم ما إجترأ أحد منهم أن يدنو منها. فلما رأى القوم انصرافه عن الوجه الذي توجّهله من غير عسكر للحسن بن زيد ولا أحد من الديلم صدّه، سألوه - فيما ذكر لي - عن السبب الذي صرفه عما كان يعدهم به من اتّباع ابن زيد، وجعلوا يكلمونه - فيما أخبرت - وهو كالمسبوت لا يجيبهم بشيء؛ فلما أكثروا عليه قال لهم: ورد علي كتاب الأمير موسى بعزمةٍ منه ألّا أضع كتابه من يدي بعد ما يصل إلي حتى أقبل عليه. وأنا مغموم بأمركم؛ ولكن لا سبيل إلى مخالفة الأمير. فلم يتهيأ لموسى الشخوص من الري إلى سامرّا حتى وافاه الكتاب بهلاك المعتزّ وقيام المهتدي بعده بالأمر، ففثأه ذلك عمّا كان عزم عليه من الشخوص، لفوته ما قدّر إدراكه من أمر المعتزّ. ولمّا وردت عليه بيعة المهتدي، امتنع أصحابه عليه من بيعته، ثم بايعوا. فورد خبر بيعتهم سامرّا لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان من هذه السنة.
ثم إنّ الموالي الذين في عسكر موسى بلغهم ما استخرج صالح بن وصيف من أموال الكتاب وأسباب المعتزّ والمتوكل، فشحّوا بذلك على المقيمين بسامرّا؛ فدعوا موسى إلى الإنصراف بهم إلى سامرّا.
وقدم مفلح على موسى بالرّي تاركًا طبرستان على الحسن بن زيد، فذكر عن القاشاني أنه قال: كتب إلي ابن أخي من الري يذكر أنه لقى مفلحًا بالري، فسأله عن سبب انصرافه فذكر أن الموالى قد أبوا أن يقيموا، وأنهم إذا انصرفوا لم يغن مقامه شيئًا.
ثم إن موسى افتتح خراج سنة ست وخمسين ومائتين يوم الأحد مستهل شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين، فاجتني - فيما ذكر - في يوم الأحد قدر خمسمائة ألف درهم، فاجتمع أهل الري، فقالوا، أعز الله الأمير! إنك تزعم أن الموالى يرجعون إلى سامرا لما يقدرونه من كثرة العطاء هناك، وأنت وأصحابك في أكثر وأوسع مما القوم هناك فيه؛ فإن رأيت أن تسد هذا الثغر، وتحتسب في أهله الأجر والثواب، وتلزمنا من خراجنا في خاص أموالنا لمن معك ما ترى أن نحتمله فلت. فلم يجبهم إلى ما سألوا، فقالوا: أصلح اللله الأمير! فإذا كان الأمير عزم على تركنا، والأنصراف عنا، فما معنى أخذنا بالخراج لسنة لم نبتدىء بعمارتها؛ وأكثر غلة سنة خمس وخمسين ومائتين، التي قد أخذ الأمير خراجها في الصحارى لا يمكننا الوصول إليها إن رحل الأمير عنا! فلم يلتفت إلى شيء ما وصفوه له، وسألوه إياه.
واتصل خبر انصرافه بالمهتدي، فكتب إليه في ذلك كتبًا كثيرة، لم تؤثر أثرًا. فلما انتهى إليه قفول موسى من الري، ولم تغن الكتب شيئًا وجه رجلين من بني هاشم، يقال لأحدهما عبد الصمد بن موسى، ويعرف الآخر بأبي عيسى يحيى بن إسحاق بن موسى بن عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، وحملا رسالة إلى موسى وإلى من ضم عسكره من الموالى، يصدقهم فيها عن الحال بالحضرة وضيق الأموال بها، وما يحاذر من ذهاب ما يخلفونه مراء ظهورهم، وغلبة الطالبين عليه واتساع آثارهم إلى ناحية الجبل. فشخص بذلك الهاشميان في جماعة من الموالي " وأتباعهم من الديلم "، وأبل موسى ومن معه وصالح بن وصيف في ذلك يعظم على المهتدي انصرافه، وينسبه إلى المعصية والخلاف، ويبتهل عليه في أكثر ذلك، ويبرأ إلى الله من فعله.
ذكر أن كتاب صاحب البريد بهمذان لما ورد على المهتدي بفصول موسى نها، رفع المهتدي يديه إلى السماء، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: اللهم إني أبرأ إليك من فعل موسى بن بغا وإخلاله بالثغر وإباحته العدو؛ فإني قد أعذرت إليه فيما بيني وبيه اللهم تول كيد من كايد المسلمين، اللهم انصر جيوش المسلمين حيث كانوا اللهم إني شاخص بنيتي واختياري إلى حيث نكب المسلمون فيه، ناصرًا لهم ودافعًا عنهم. اللهم فآجرني بنيتي إذ عدمت صالح الأعوان! ثم انحدرت دموعه يبكي.
وذكر عن بعض من حضر المهتدي في بعض مجالسه التي يقول فيها هذا القول، وحضرة سليمان بن وهب، فقال أيأمرني أمير المؤمنين أن أكتب إلى موسى بما أسمع منه؟ فقال له: نعم، اكتب بما تسمع مني؛ وإن أمكنك أن تنفشه في الصخر فافعل فلقيه الهاشميان في الطريق ولم يغنيا شيئًا، وضج الموالي، وكادوا يثبون بالرسل، ورد موسى في جواب الرسالة يعتذر بتخلف من معه عن الرجوع إلى قوله دون ورود باب أمير المؤمنين، وأنه إن رام التخلف عنهم لم يأمنهم على نفسه، ويحتج بما عاين الرسل الموجهون إليه.
فورد الرسل بذلك. وأوفد مع الرسل موسى وفدًا من عسكره، فوافو سامرا لأربع خلون من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين.